Thursday, June 12, 2008

PHOTOGRAPH


اعمال كريم ابراهيم الفوتوغرافية

الشخصيات والأماكن المأزومة في عراق اليوم وهي تعيش يومها العادي

في الشكل الواقعي الذي ترسخ عبر عقود من التأسيس النظري في شتى المدارس والتجارب الأبداعية لم يكن امام المبدع الا ان يدرك انه ازاء معطيات تحيط به من كل جانب وثوابت تصل الى التبسيط لكنها مجتمعة تقدم افقا مفتوحا للرؤية الأبداعية .
وبموازاة ذلك وجدنا ان الأشكاليات المرتبطة بالشكل الواقعي انما تقود الى قراءات متعددة للواقع نفسه والكيفية التي يتم فيها تسجيل وتقديم هذا الواقع ، ولعل هذا المدخل هو الأهم في استشراف الشخصيات والأماكن والقدرة على مزج هذه الخلاصات في شكل ابداعي فريد .
لقد كان الشوط الطويل للمدراس الواقعية ومداخلها المتعددة كفيل بتنميط رؤيتنا للشكل والموضوع والأسلوب وتحديد مسارات متنوعة يحاول من خلالها المبدع ان يجمع مابين الكينونة الواقعية وبين الخلاصات التي يتوفر عليها وهوينجز مشروعه الأبداعي .
ولعل تنظيرات (سيجفريد كراكاور ) هي الأشد وضوحا وتميزا في هذا الباب ، وربما كانت مقولته بأن على الفنان ان يتوخى الحد الأدنى من التدخل في اعادة بناء الأشياء وهو ينقل الواقع ، هذه المقولة رسمت مسارا لواقع راسخ لاسبيل للمبدع الا التسليم به والتوقف عنده بلا كثير من التدخل .
ومن هنا وجدنا ان هذا التأطير قد افضى الى مقولات موازيه ومنها ان المبدع وهويبني (واقعه ) الخاص على صعيد عمله الأبداعي فأنه يقوم بسلسلة من العمليات الأنتقائية الى تخرج الواقع من اطاره وتدخله في اطار آخر كما هي مقولات( رولان بارت) في هذا الباب في بحثه عن التأثير الواقعي قبيل البحث عن شكل وسيماء الواقع ذاته .
وبسبب ذلك الطابع الساكن للأشياء في الصورة الفوتوغرافية فقد وجدنا المبدعين في هذا المجال يناورون في توظيف آليات توجد موازنه مابين التفاعل مع الواقع وبين اطلاق شكل واقعي ينطوي على كثير من مهارات المبدع ، ففنان الفوتوغراف في تقيده المكاني يبحث عن حلول موازيه عبر الشكل والزاوية والظل والضوء والعلاقات الأنشائية مابين الكتل والأشياء .
كل هذا يحضر في الذهن في تجربة الفوتوغرافي العراقي كريم ابراهيم وبالأخص في تجاربه المتأخرة التي احتفت بها اكاديمية الفنون في اندرليخت في بروكسل مؤخرا بأقامة معرض شامل لأعمله وترويج كتابه الذي حمل صور مشروعه الذي نفذه في العراق .
فكريم ابراهيم في قراءته للواقع يترك الحياة ان تدب دبيا عاديا وتصنع كينونتها الخاصة ، فهو في صبره على تتبع تلك الكينونة يسجل الأسس التي سقتربه من الواقع وتجعله متصالحا مع شخصياته ...فهو حتى في اشد اعماله نقدا للواقع يترك الواقع ان ينتقد ذاته ..
الصخب المعتاد في هذه الحياة والضجيج والصراعات التي هي ديدن هذا الكون تتضاءل في اعمال كريم ابراهيم الى ادنى مايكون ...فالحياة الوديعة والمسالمة في اشد لحظاتها عنفا تسبح في فضاء يصنعه هذا المبدع بمهارة .
ولعل مايلفت النظر انه في موزاة ذلك وهو في اشد لحظات التجلي الذي تعيشه شخصياته فأنه يقدمها في تواضعها الجم ...شخصيات من طينة الواقع ومن لحمته وسداه ..اجل ..لكنها في وسط هذه الكينونة الواقعية لاتستسلم لسبات ولاتنغلق على محددات ذلك الواقع الصارمة بل هي تنبض بحياة لكنها حياة بسيطة لاتنطوي على كثير من الضجيج والفوضى .
فمن الملفت للنظر انه اقدم مؤخرا على تقديم مشروع متكامل اسماه (العراق اليوم ) اذ قام بزيارة او اكثر الى اشد بقاع الأرض سخونة في الوقت الراهن ..ذهب من منفاه االبلجيكي الذي امضى فيه زهاء ربع قرن للقيام بزيارته الأولى الى العراق بعد تلك السنين الطوال ...لكنه كان في تلك الزيارة مشحونا بالبحث عن تأسيساته الواقعية التي مضى فيها طويلا في دراسته الأكاديمية للتصوير في بلجيكا والبحث عن ملاذات صغيرة تركها في تلك البلاد بالأخص في مسقط رأسه ...مدينة العمار ة في الجنوب العراقي ..
لقد اكتشف كريم بلادا اخرى وعالما اخرى ووجد ملاعب صباه وقد غادرت كينونتها الى كينوتة جديدة ..ذهب الى الأقليات الدينية وزار مناطق الأكراد ومعابد الأيزيديين والصابئة والمسيحيين وراقب بعمق – عراقا –جديدا تتآكل فيه قيم قديمة وتتخلق فيه كائنات ومفاهيم تملك دوالها الخاصة بعد خروج البلاد من كابوس الدكتاتورية التي تشرد فيها كثير من المبدعين ونشدوا المنافي في العديد من البلاد ومنهم هذا الفنان المثابر.
في لقاءات متعددة لي مع كريم ومع المشرفة على مشروعه (السيدة مريام دي فرنيت ) الأستاذة بأكاديمية اندرلخت للفنون في بروكسل ، كنت اتلمس ذلك التناغم في التأسيس للمشروع وفي قبول الواقع العراقي كي يرى بعيون غربية ، وكتنت المس ايضا ان البحث المضني للمبدع يتجه بعيدا بعيدا جدا عن الشكليات والزخارف والنظرة الأستشراقية التي هي اخطر ما يصيب اعمال المبدعين العرب في مقتل .
فالواقع العراقي – في سرياليته ولامنطقيته احيانا – لم يكن سببا لكريم ولا لمشرفته لمغادرة تأسيساتهم للشكل الواقعي الذي يريدانه وللشخصات الحية النابضة التي ينشدونها. فالعراق الذي تحتدم فيه الصراعات لايقدم كريم في مشروعه صورا من تلك الصراعات المألوفة والتي درجت وسائل الأعلام على ضخها الى ابصارنا كل يوم وساعة ..وهو ايضا لم يكن يطمح ان يخفيها ..او يتحاشا ظهورها ..لكنه عمد الى البحث عن آثار ذلك الأحتدام وقوة الصراع على وجوه وافعال شخصياته فهو يقدم شخصية كبائع الطيور الجالس مثل تمثال ساكن دون فعل ، طيوره جاثمة في اقفاصها وهو يتطلع في الفراغ حيث لاباعة ولامشترين ولا طير تطير ..ثم يذهب الى بائع الشاي الذي لايختلف عن صاحبه اذ قدم قدحين من الشاي الى مجهولين ...اذ لايلوح في المشهد اثر لشاربين او متذوقين لذلك الشاي ..
وفي المقابل تعيش شخصياته يومها العادي ففي احدى صوره ام تقود اطفالها الثلاث للمدرسة وفي صورة اخرى للخباز في مخبزته وحشود الزائرين للأماكن الدينية يكتظون كأنهم غير آبهين بالضجيج الموارب ..والحلاق الذي اقترب من الأكتهال يمارس مهنته في الحلق للأولاد وطلاب المدارس ماضين بصدورهم المشرعة واجسادهم الطرية الى مدارسهم فيما تظهر من حولهم وحشة السلاح الذي يحمله حارس او شرطي او جندي محتل .
ويمضي كريم مع الباعة والمتسولين في حياتهم البسيطة المسالمة وهو يقدم هذه النماذج مجتمعة في فسحة امل وملاذ صغير ربما هو الذي اتاح لكل هؤلاء ان يمارسوا حياة هامشية بسيطة ...
وتجد ان كريم يراقب الكهول الذين لايجدون بديلا عن المقهى لبث شجونهم ..فهو يتركهم على سجيتهم ..تدب عجلة الزمان فيهم وهم يداعبون خرز المسبحة التقليدية التي لاتكتمل الأناقة التقليدية في القرى خاصة بدونها ..شيوخ مسالمون يتجمعون في مقاه على الهامش واضح عليها دوران الزمن وتحولاته.
تقول (مريام دي فرنيت) المشرفة على مشروع كريم في كلمتها التي قدمت فيها للمعرض والكتاب المصاحب له : ( لقد اعطانا كريم من خلال اعماله الفوتوغرافية الفرصة لنتعرف على العراق من منظار واسع من ذلك الذي عرفناه عن العراق من خلال الحروب المأساوية التي كادت ان تنسينا ان هنالك في تلك البلاد اناس يحاولون ان يعيشوا حياة طبيعية مثلنا ...)
ويمضي ( شارل فراست) استاذ مادة التصوير في اكاديمية الفنون الى توسيع فكرة مريام دي فرنيت بقوله :( كريم ابراهيم يحاول ان يظهر لنا عراقا اكبر واكثر سعة فهو يأخذنا الى مختلف الأرجاء ويجعلنا في تماس مباشر مع شخصياته التي اتخذها موضوعا لأعماله الفوتوغرافية ..انه يتابع الأنسان ضمن محيطه ومن خلال مفردات حياته ..تكوينات معقدة ممزوجة بمشاهد بسيطة ..بورتريهات مختلفة مختلطة بصور التحقيقات ) ..
ولعل ماقلناه في صدر المقال في شأن تشكلات الشكل الواقعي هو الذي يمكن ان نتوقف عنده في الأخير ..ذلك ان تلك التشكلات لابد للولوج اليها من مفاتيح ..فمن جهة هنالك توظيف عناصر المكان وتكويناته والعلاقات الأنشائية بين الكتل والسطوح وهنالك اللوان ومساقط الضوء والظل ..هذه وغيرها ربما مثلت في تجربة كريم كلا هادئا متناغما بسيطا للغاية فهو تحاشى تماما ان يستغرق في (صنع الصورة ) في شرطها واطارها المبالغ في فنيتها واستبدل ذلك بأن اختار من بين جميع المفردات المكانية مايمنح الصورة كينونة خاصة هادئة ومسالمة وبعيدة عن الصخب .
فالواقعية التي حافظ عليها كريم وجدت مصداقيتها في الشخصيات والمكان في آن معا وهو في المجمل العام لم يغلب عنصرا فنيا على آخر بل تركها كلها توجد ابجديتها وحياتها الخاصة .

ولقد لفتت نظري الكلمة التي كتبها (خي خوريس ) مدير تحرير مجلة (مو ) البلجيكية في شأن تجربة الفنان كريم ابراهيم اذ قال :" ان تلك الصور تضج بذلك النوع من الحميمية التي توشك ان تنقرض كما هو حال حبوب القمح التي هجنها ابناء بلاد الرافدين منذ القدم وتوشك الآن ان تنقرض تحت وطأة التغييرات الوراثية – الجينيتيك – التي تبيحها ظروف الأحتلال ..ان صلة كريم بموضوعاته تبدو راسخة ومجردة من النزعات الأنانية ..موضوعات ودودة وقريبة الى النفس ولاتعتمد الأثارة
جريدة عمان العمانية 11-6-2008