Tuesday, May 26, 2009

Demetra


DEMETRA


من هنا او من هناك ، كل الدروب الحجرية الصاعدة تؤدي الى ديميترا ، فتاة عابرة للقارات تحمل خرائطها وتبحث عن كينونتها ...
كل ماهنالك انها ولدت لوالدين مهاجرين ..من اين ؟ ليس مهما .. الأم مدمنة على الكحول والأب متصاب يتنقل بين المراهقات ..
ابصرت ديميترا النور في عصر الثلاثاء ، الثامن والعشرين من حزيران يونيو سنة ثمانين وتسعمائة والف ووجدت والديها في عراك تواصل حتى بلوغها السادسة عشرة يوم قررت ( الطلاق ) من والديها ..وان تطلق ساقيها للريح بعدما يئست من المشهد كله ..
كل تلك الثرثرة الليلية للأم الثملة ..من حولها كؤوس الخمر وتحفها دوما غيمة من دخان السجائر ، فيما يتراءى لها الأب مرارا وهو يجر خلفه مراهقات تائهات يمضي لياليه في حجرة متداعية اقرب الى مخزن للفائض من احتياجات المنزل ..
ولطالما تساءلت ديميترا صابرة ..ترى هل هذه هي الحياة ؟ هل خلقنا هكذا من اجل هذه الدوامة العجيبة ؟ كانت حمى الأنتخابات على اشدها ..حملة كيري / بوش تتصاعد وتظاهرات التأييد والتنديد تشتد في غير مدينة عن المثلية الجنسية والحق في الأجهاض والكنيسة وماالى ذلك ..
حاولت مرة ان تقترب من عالم الحركات النسائية لسبب بسيط وهو تعاطفها مع امها المحطمة التي تعترف لها في لحظات عابرة بأن كل العواصف التي عصفت بحياتها والقتها حطاما كانت بسبب زوجها الأناني الذي صنعته من لاشيء ، التقطته من الضياع ونظمت حياته ومنحته المال والعاطفة ، فلما تمكن واشتد عوده انقلب عليها وركلها وراح يطارد الفتيات اليافعات دون ان تتمكن هي من ايقافه لرعونته وعناده وانانيته ..هكذا تروي الأم لديميترا في لحظات اليقظة القليلة ..انها محطمة لأنها ضحت من اجله ومن اجلها ..ولأنها احبته حقا ، ولاسبيل امامها للخلاص من حبه سوى ان لاتراه امامها ، وهي تحاول ذلك دون جدوى منذ زمن حتى كانت الخمرة هي الحل ..
ولكن أي حل ؟
ديميترا ..ديميترا ..اتراها فتاة لاهية ، لكن الناس ضحايا الأنانية والظلم صاروا مشكلتها التي تسعى لأن تكون طرفا فيها مدافعة عن حقوق النساء المضطهدات ..لكن ماكان يصدمها وهي تقترب من ذلك العالم هو كم النساء اللائي يتعرضن في كل يوم بل في كل ساعة للأهانة والضرب والأحتقار وتاليا للأغتصاب والقتل ...
لقد روعها هذا العالم المبني على هذا التخلخل المريع ، ووجدت نفسها غير منتمية اليه ..
بدت نيويورك مثل طوفان هائج من الشعارات والهتافات والأغاني والطبول والأبواق والشتائم في ظل الحملات الأنتخابية : ديموقراطيون ام جمهوريون ؟ اين انا من هذا التماثل ..او التناحر الهجيني بين الحزبين ..وصوتي لمن ؟ لأمي ام لأبي ؟ ليس هذا ولا ذاك ..صوتي هو لنفسي فقط ..
في هذه اللحظة الهاربة من الجنون والصراخ والأنانية المفرطة ..ولهذا دار العالم من حولها دورات متتالية ..
تكتب في يومياتها :
" السبت ..لاتاريخ ..لازمن سوى انه الزمن الأمريكي الصاخب وكسل مزمن وقرف نهاية الأسبوع :
شاهدت الفيلم بالأمس ..ذلك الفيلم الذي يغمض فيه الفتى عينيه ويجعل الكرة الأرضية تدور ثم يضع اصبعه عشوائيا على بقعة ما ويقرر السفر اليها .... هذا ما سأفعله تماما ...
دارت الأرض من حولي دورات متسارعة ووضعت اصبعي فتوقف كل شيء وقررت ان اكون هناك ...
هناك في ميزوبوتاميا
كان العراق بالنسبة لديميترا عالما مجهولا ..غريبا سمعت عن ميزوبوتاميا لكن لم يكن يدور في خلدها ان هنالك فرق بين ايران والعراق في اللغة الأنجليزية خاصة ..واختلطت عليها صور رجال ونساء ودكتاتوريات ونساء ذليلات تابعات لسلطة الرجال ..رجال يتزوجون العديد من النساء والكل يتنقل على ظهور الجمال ومن حولهم ابار النفط الفوارة ... هذه الصور مع صور الصراعات هي كل ماحفظته ذاكرتها او معلوماتها المتناثرة ..ومنها صورة اذلال المرأة هنا .. بين يديها حيث فصول اذلال امها وضربها واحتقارها وصور اذلال اخرى افتراضية لم ترها بعد في بغداد ..
ثم زاد من قتامة المشهد حادثة مروعة وقعت لصديقتها كاثي يوم اغتصبت مرارا على ايدي شابين ضللاها ورمياها مثل خرقة بالية .. وشاهدتها يوم زارتها في بيتها وهي محطمة تماما لاتريد الكلام مع احد وتواصل نوبات البكاء والصراخ بين حين وآخر حتى قررت امها ارسالها الى مصحة نفسية ..
عراق ..عراق ..عراق : يتراءى لها من نافذة الطائرة ، فضاء مفتوح على المجهول ..افق ذو صفرة وسواد ..هو المجهول بعينه ، سماء صافية وشمس عنيدة وحارقة تواصل ثباتها بعناد في كبد السماء ..
رحلة طويلة مع كم هائل من الأرشادات :
عند دخولك المطار اذهب مباشرة الى ممثل الشركة الأمنية ,... ستجده بانتظارك ..
ارتداء الخوذة والجاكيت ضد الرصاص اجباري ..
اخذ الطعوم واللقاحات ضد الأمراض السارية اجباري ..
عدم التزام اية تعليمات من غير رئيسك المباشر ..
لاتأمن أي عراقي مهما كان ومهما كانت صفته
لامجال في هذه البلاد للهو والخروج الى السينما او النوادي الليلية او الأختلاط المباشر مع العراقيين ..هذا مازال غير ممكن و يقع في دائرة الممنوع
اتخاذ تدابير الحماية الذاتية عند سماع صفارات الأنذار جراء وقوع هجوم ارهابي بقذائف المورتر او القنابل او ماشابه
شرب كثير من الماء
..و...و..و....و............و..................و ..............
مرت الأيام سريعا ... وهي تتنقل في مدار اشبه بمغارات علي بابا ..سمعت كثيرا جدا من الأشاعات وشهدت الكثير من العلاقات العاطفية والجنسية من حولها ..وسمعت نكاتا واوصافا شتى تفصح عن نوع العلاقة مع المستعمرة الجديدة : العراق واهله ...
وكان حلمها الكبير هو ان يأتي يوم ترى فيه النساء العراقيات عن قرب ، ان تتعرف الى عالمهن ..الى افكارهن .. الى مشكلاتهن ..ترى فيهن الأمهات وكيف مازلن يعشن رغم العديد من الحروب التي عصفت بهن ولهذا وافقت سريعا على الأنتقال الى قسم للخدمة الأجتماعية هو اقرب الى دعم الجمعيات النسائية في العراق ودعم الأرامل خاصة لكن ذلك لم يكن كافيا للأقتراب من ذلك العالم ... وتتابعت امام ناظريها صور متداخلة غريبة ، تجلس على حافة سريرها وتتأمل صورة كاثي ، صورة امها ، صور تخرجها ، تدوي في رأسها صرخات كاثي وتوسلات امها وهي تضرب وتهان ..وصراخ ام حسن التي قتل زوجها عن طريق الخطأ عندما اطلق حراس الشركة الأمنية النار على بضعة مدنيين عراقيين في حي الكرادة ببغداد ..لاتدري كيف وجدت نفسها في قلب المشهد فيما المترجم يحاول الألمام بالكلمات المتداخلة مع صرخات الأم الثكلى التي تحاول ان تشرح ماجرى ..وتتساءل ..ماذنبهم ؟
لكنها لم تتصور ان تلك الصرخة المدوية ستدوي في المكان غير المناسب ، اذ اندفع حشد من الحراس كالثيران الهائجة ودفعوا النساء عنوة ، ازاحوهن حتى لم يبق منهن اثر الا نعال وبضعة اوراق تعبث بها الريح ، وظلت صرخة ام حسن تدوي في المكان ...
عادت ديميترا الى كهفها ، هكذا كانت تسميه وهي تكتب لأمها عن يومياتها ..الكهف المغلق على ذلك العالم القاتم ..ليس هنالك غير احصائيات يومية عن مستوى الفقر والأمية والنساء المنكوبات وواقع الصراع الأثني في العراق المجهول ..
العراق الذي تمنت ان ترى فيه ميزوبوتاميا على حقيقتها وخيالها اذ تحولت ارض حضارة بابل وسومر الى ثكنات عسكرية تدوس فيها الدبابات وناقلات الجنود دروب الكهنة والآلهة القديمة ..
طالما تكرر شكل الخارطة المتعرجة كأنه وجه فرس جريحة ، خارطة هذا العراق المجهول الذي ظلت فيه المرأة هناك ..لم تره بعد ..ولهذا قررت ان ترى ام حسن بأية طريقة اتصلت بقسم الخدمات الأجتماعية والأسرة وبقسم الرعاية النفسية واقسام اخرى بحجة ضرورة ادامة المعلومات ..وتنقلت بين وعود واحتمالات عديدة ..ومضت ليال وصرخات ام حسن تختلط بصرخات كاثي وعويلها .. وفي كل ليل كان لابد من مزيد من الخمرة من اجل تفادي ذلك الصراخ الحاد ..ولابد من صخب الموسيقى ايضا ...
في صباح صيفي حار عصفت فيه الرياح وامواج التراب على المدينة وارتدى الكل الأقنعة وشعرت هي بصعوبة في التنفس ..ولم تدر مايجري اذ تم استدعاء قسم الخدمة الأجتماعية والخدمات النفسية للجنود ومجموعة الضباط الأستشاريين على عجل ، مؤتمر عاجل او اجتماع ..لافرق .. لاشك سيتكرر الأحساس بالتوتر والقلق كما هو الحال مع كل ايامها في العراق حتى اليوم ..
لكن مالم يكن يدور في خلدها ان الأجتماع لم يكن نظريا لتقديم الرسوم البيانية والأحصائيات بل لمعاينة حال محددة .. وان تدرس بعناية من جميع ابعادها ولماذا يقدم عليها الجندي الذي يرفع راية بلاده وقيمها ودستورها وثقة مواطنيها ..ويمثل حكومتها على الأرض...
باختصار ان بضعة جنود اقدموا على اغتصاب فتاة اسمها (عبير ) تبلغ من العمر خمسة عشر عاما ، وبعد اغتصابها وخلال ذلك قاموا بقتل افراد اسرتها واحراق المنزل بمن فيه ..
شاهدت الصورة ، صورة الفتاة التي بدت يافعة نحيفة بنظرة متجهمة الى الأفق المجهول ، صورة بالأبيض والأسود تنسدل على جانب وجه الفتاة خصلة شعر وتلوح ظلال شفتين دقيقتين وعينين سوداوين صغيرتين ..صورة اخرى لأفراد العائلة ..صورة اخرى للمكان ..صورة اخرى للهجوم على المنزل ..صورة اخرى لقلع باب المنزل ..صورة اخرى للمنزل محاطا بالأشجار في منطقة ريفية معزولة ..صورة اخرى من فيلم ((straw dogs حيث يجري الأغتصاب وتتابع الرجال على الفتاة الصغيرة وهتك عذريتها ..صورة اخرى لأم حسن ..صور اخرى لمئات الكائنات المتراعشة تحت بساطيل الجنود ..صورة اخرى لكاثي وهي تغتصب مرارا ... صورة اخرى لأمها وهي تغتصب وتضرب ..صورة اخرى اخرى لأمرأة تستنجد ولاتجاب ..ولاتغاث ..صور اخرى ..صور اخرى ..صور اخرى ..صرخات وثكالى واغتصاب ونحيب وكدمات وصفعات وضرب واحتقار ..صور ..صور ..صور ..
ينقطع الضوء ..ينقطع الهواء .. ، تنزع ديميترا خوذتها والقميص ضد الرصاص .. تخرج وحيدة وسط صرخات الجنود ..تخرج الى المتاهة والعاصفة والغبار ..وتغيب ..........
اثينا – صيف 2008
الأهداء : الى جميع النساء العراقيات ضحايا الحروب والعنف