Friday, December 14, 2007

آحدث نص
كتمان حبها
لم يكن وجدا مجردا ولا اي شيء من هذا ولا ولعا عابرا ..يستبد به القلق وهو يحاول ان يجد مكانا ما، ارضا يحط عليها ذاك القدر، تلك النغمة النابضة في مكان ما، الصوت الآتي من قاع مبهم في الذات يوقظه مرارا على ظلال عابرة لها، يطرق الباب فتكون هي في بهائها واكتمال الأشياء والأزمنة ...لكنها سرعان ماتغيب، تتلاشى مثل قطعة سكر في كأس ..
تجثم مثل قطة ساكنة في ارض مفتوحة وعند منعطف جبل، هي الرحلة التي ارادا فيها تجسير الدروب الى حب المشردين ..لكنها في عنادها وجنونها خلفت وراءها غالبا جنديا مهزوما ..لم يكن غيره ..
يرن هاتفها ..يعرفه تماما..لكنها لن تتكلم .. يقف مثل اخرس، رافعا كفه في الفراغ يصطاد فراشة الكلمة ويحط على رأسه طائر القلق ليفيق على خدر مرورها المخملي ثم ذوبان قطعة السكر تلك ..
كانت تلوك كلمة السياسة مرارا وتحثه ان يكون ثائرا ..هكذا .. قلبت اوراقه ورددت : هاانت ..هاهي صورك ..هاهو تاريخك ..لكنك مثل مصارع خارج الحلبة، تنازلت منذ الجولة الأولى ..امهزوم ..وساكن ..؟
كان يدخن ويحدق في الفراغ بينما تنزل هي الى الماء وتغطس ..ويغطس هو في الماضي ..
كل ماهنالك ان الحزب قد تجمد ..او اندحر ..ربما ..لست انا ..اتفهمين لست انا ..انا لست اليسار والتاريخ وتشي غيفارا ..كلهم خانوا كلهم ..دخان الثورات هكذا عابر يسد المنافذ ثم يبقى طعما مرا وبقايا ازمنة ..
الرقص الجنوني في ميدان- فيغا- سيخلف وراءه السياسي نفسه وهو يحتفي بيوم ميلاده ..
مرا على باعة غرباء وجمعا وردا واصدافا وشموعا وطفا الشمع على جهة النهر ..
غنى كلمات لدجلة ..
غنى للبساتين وللشط ..
وترجم لها الكلمات..
واصغت هي متراخية هانئة ..
كانت هناك تجرب لعبة الضوء والظل وتردد : لم يكن غير فيلم تافه
لم يكن عليك اصطحابي لهذا الهراء ..
في المقطع التالي كان قد كتب عنها وارخ يوم اندحاره ثم تجلياته وطلوعه ايضا لكنه اخفى يومياته
بدا مثل بوهيمي اخرس اعيته الكلمات وتوقف تماما عن الكتابة
لكنها استبدلت الحوار بالموسيقى ..
وتدفق الفالس ناعما متصاعدا وهو في دواره القديم متحير في ذلك اللون البرونزي المشع الذي غمر دروب المدينة العتيقة وانعكس على وجهها ..احمر كل شيء واجهد الراقصين الرقص ..
فيما انحدر هو باتجاه الوادي حانقا اول الأمر ..تتراءى له خطواته وهو يعود صارخا: لاجدوى.. سأعود ادراجي واتركها تلك المجنونة الطائشة ..سأمزق اوراقي واوراقها جميعا ..سأبعثر كل شيء ..سأترك لها كلمات تتجمع وتحتشد مثل صفعة على الوجه .. سأهشم الكؤوس وبقايا اللقى الأثرية التي اقتنتها ,.. سأحطم زجاجة الواجهة كي لاترى وجهها الا مشوها على مرآة مقعرة ..
اسرع ..اسرع ..كانوا هناك في قاع رأسه يجرجرون رجلا للأعدام
بغداد 15-3-2004..اجل كان هو مثل كاهن تائه اطل من سقف العالم عبر نافذة صدئة وشهد الواقعة وتيبست شفتاه وهو يصف لها تلك اللقطات ..فيلمه القصير الذي يلتف في قاع رأسه، شريط السيلولويد القاتم الممتزج بذكريات ودمه واعصابه ...عصف المشهد مرة اخرى وهو يمضى عازما تحطيم هذا التاريخ المصطنع الكاذب ..
(سأقول لها ..انت كذبة كبيرة كذبتها على نفسي، لم انا هنا ؟ لم عبرت كل هذه المضائق والخلجان ؟ لماذا ؟ من اجل اصولك الأسبانية وجنونك الغجري ؟ من اجل ان اقرأ لوركا على وقع لكنة معذبة ..يوم ساقوه كما فعلوا يوم 15-3-2004 في بغداد )
تكاثف الليل وثقلت ساعاته وهو يقترب من المدخل ليحطم كل شيء كما قال في غيابها ..غيابها الملعون ..الوحشة التي تخلفها ..الفوضى التي تعصف بالكلام عندما تجلس مثل ملكة اغريقية حالمة ..التدفق المجنون للشعراء الصعاليك وهم يمرون مهزومين لمرأى اكتمالها ..
يفتح الباب ..تتشنج اصابعه ويعصف بعقله فراغها المريع ..بدت الحجرات بدونها مثل فلاة طويلة متقعرة وعميقة ..وبدت الكراسي والأسرة مثل خيول مهزومة متداعية، يلف المكان الظلام وفجأة يسطع ضوء برتقالي وخفق المعدن من حوله وتتقدم الخطى وتعصف الموسيقى ويتسلل شذاها ..اذ كما هي دوما تتسلل اليه في غفلة من الزمن قبل ان يفكر وقبل ان يقرر ..تكون هي هنا او هناك
تنتظم الأشياء من حولها وتعود سيرتها الأولى في سكون وحيرة وخوف وتوحد ...انا خائفة منك ومن جنونك .هكذا تختصر القصة كلها وتنطوي على ذاتها مثل دائرة الفراغ، يحار هو في كائن يتحول الى حالة اخرى لايتمكن من الأحاطة بها ..سيلقي مزيدا من الخطب ..سيستجمع صرخات اليسار وهتاف المظاهرات ..سيعبر عن نزقه ويريها كيف شنقوه وهي غير مبالية هي لاتدري بما يجري في الكون... هي لاهية بالرقص والموسيقى والجنون لاغير ..انت لاشيء ..انت خطأ في الزمان والمكان ..اتفهمين ..انت نموذج هجين ..عودي الى ذاتك وانظري كم انت محطمة وضائعة ...
هكذا اختصر خطبته في عراك ليلة من الليالي ...
ربما سمع نشيجها وهو مستلق على حافة يطل من خلالها قمر شاحب ..
اجل هو نشيجها المعتاد ..
ثم كلماتها ...
ثم وهي تزحف بصمت ليشعر بحرارة المكان ..تبحث مثل قطة تعشو .. تحتاج اصابعه وصبره ..
لايكفي ان تقفل المدينة ابوابها ويكونان لوحدهما مجرد رمزين ثوريين يجوسان في غربتها المتآكلة يحملان ارث الثورات ويوقظان السكارى في الدروب ..هما وحدهما تماما ...لابد من المضي هكذا لمحاولة نسيان كل شيء
لابد من المضي هكذا لمحاولة نسيان كل شيء ..
رددها مرارا ..مرارا ..
وظنت انه يريد نسيان العراك والعصف بينهما ..
لكن شريط السلولويد الملتف عميقا في قاع رأسه يتصاعد في علبة فيلمية تتسع باتساع المكان ..حفر على الشريط وجوه اسرته فردا فردا : وصف لها وجوههم، ملامحهم، اطوالهم , ضحكاتهم، اوجاعهم، ثيابهم، كل شيء كل شيء ...لكنهم مروا مثل لوركا ..او مثل اعدام مكسمليان ...اجل هو ذاك ..انظري عبر البحر، الى الشفق البرتقالي ..هناك اعدام مكسمليان ايتها الخلاسية التائهة ..بالضبط ..اعدموا غروبا ... ودوى الرصاص قبل قدومي بدقائق معدودة .. اخفتني امرأة عجوز عن انظارهم .. كنت ارى اشباح الأولاد المسترخية، اجسادهم وهم متكئين على بعضهم،عائمين على بركة النجيع ...
كنت اتنشق عبق نساء قرويات بينما العجوز تحول بيني وبين النظر اليهم ثم لتسقيني شيئا ما اسكرني وجمد ذاكرتي حينا حتى وجدت نفسي هنا ..
"حسن ..يمكنك انجاب اولاد مني ..
اعطيك اولادا مهجنين رائعين ..نسل جديد..
اولاد لايلاحقهم اعدام مكسميليان ..اعدك بذلك ..
ابق هكذا ..بنزقك وتحولاتك ..بجنون اليسار ..ولكن لاتعصف بتاريخي .. ولاتمزق دفاتري ولاتترك مدينتي .. ولا تصرخ في وجهي صرخة رحيل طويل.. ولا تغترب عن عالمي .. ولاتقتلعني من شريط السلولويد الذي في قاع عقلك ...لااكثر من هذا ..".
سكتت ..واشاحت بوجهها نحو الأفق ...
" لكنني قارة مهجورة ..
انا قرية نائية من فيافي العراق... اتفهمين ..؟".
جن جنون البحر وعصفت ريح شديدة وانفتح سجن المكان، الزجاج الأزرق والواجهة الرمادية ولا احد .. احتسيا شراب الروندو الساخن وكان هو قد بدا اكثر هدوءا ..
( اتمنى لو ان البحار تعصف دوما وتهيج ..لكي تنشغل هي بصخبها وتمنحك هذا الهدوء والسلام )
رددت بكلمات خافتة ثم راحت تستبدل ثيابها وتسللت عبر الممر المعتم وغابت ..
صحا من نوم قلق على رنين الهاتف ..
كان هاتفها هي ..لكنها لن تتكلم ..ليس سوى انفاسها ..تعلم تلك اللغة العاصفة وذاك الجنون ..
عاد تلميذا اخرس في ساحة العراك معها ..
لا ينفع ..لاينفع .. لاينفع ..
لن تتعلم ..
لن تصحح ..
ستعتذر نعم ..ستنشج بصمت ..ستدب باحثة عن اصابعه
ستقول انها ضعيفة و عالمك شرس ..
كلام
ركل جانبا حقيبة الهدايا والتحف واخرج من الخزانات كل شيء واندفع مثل ثور هائج يبحث عن شيء ما يخصها ..فتش في الأرجاء ودار على نفسه بينما كانت المحطة تبث اوبرا تحبها هي ..اثارته الأصوات الأوبرالية ..صوتها يلاحقه والأوبرا وعطرها .. والكلام وضعفها ولامبالاتها : متى تتعلمين درس المبالاة والأهتمام ..متى ؟
وعبر شراسة الكلمات تردد مستسلمة خائفة : علمني ؟
عاد عبر سوق المدينة عبر الساحل، مر بالصيادين ومقاهي الرصيف حيث امضيا الليل، تناهى اليه صوت ما يناديه، لم يلتفت، لاحقته الخطى، اثنان ثلاثا، اربعا، حشد من الناس ... تجمهروا حوله، اعطوه الحقيبة الصغيرة واروه صورتها ... تطلع في الوجوه، دار دورة سريعة رأى وجوه صيادين وغرباء، عمال المقهى، الراقصين الصغار، الحمالين في الميناء القديم، عمال المحطة، الباعة المتجولين، الكهول، كلهم.. كلهم جميعا ...انقطع عنهم برهة ونظر مليا في الصورة. نظر عميقا ..عميقا، تغلغلت الصورة مثل نهر مائي صغير في قراراة عقله ووجدت لها مكانا في شريط السلولويد: كتبت هي: كتمان. حبها وصرخ هو فيهم: لااعلم. لااعلم


بروكسل : كانون الأول ديسمبر 2007
اللوحة مهداة من الفنانة العراقية المبدعة رؤيا رؤوف
http://www.kikah.com/indexarabic.asp?fname=kikaharabic\live\k1\2007-12-12\24.txt&storytitle=

Sunday, November 18, 2007

MONODRAMA

قربان البيانات وصعود الكائن

مونودراما مسرحية



(ينفتح المسرح عن مساقط جانبية للضوء وشبه عتمة وثمة مقدمة سيارة غائرة في الرمل ..يتقدم كائن موشح بالسواد ومع تقدمه تظهر صور سلايدات هي خليط من الأنفجارات وملامح الآلهة العراقية القديمة ومقاطع خليط من الشعر وملامح من بغداد القديمة ووجوه آلهة بابلية وصوت ريح عاصفة ...............يتقدم الكائن المتشح بالسواد الى ركن في المسرح وتظهر ملامحه ........يقترب من مكان السيارة الجاثم مايدل على انها سيارة في الرمال ....)
الكائن : في الطريق ..في الطريق اليك ...في الطريق اليك ...في الطرق اليك ...في الطريق اليك ....كنت استعيد طفولتي ..استعيد مع تلك الذكرى وجوها محتقنة امضها عناء الترحال في الفيافي ، لم تكن تائهة ولا مشردة بل كانت تريد ان تصنع جنة ارضية مفقودة من مادتك الخام ، من نسغك ومن صلصالك ومن حمأك المسنون من زكي طلعك ومن شهد صغارك ، وكنت مع اولئك المشردين الدراويش ،
(اصوات مختلطة لترانيم واهازيج شعبية وهوسات ...)
كان ابي في العتمة لست اراه لكنني تسللت بين الصفوف وعرفني وضمني اليه وسط الجلبة ، ضمني الى صدره كما لم يضمني من قبل وصاح في الناس : ياايها الناس هذا صبي يعشق وطنا صنعه من طين اصطناعي وجاء به الى محفل الدراويش ، كانوا ثوارا يافعين ومردة عاشوا على يقين عذري وتبتل نذروه لزفاف الوطن الى اهله .. وظلت تلك الصورة النشطة في مخيلتي تتكون من ظلماء وثوار كالدراويش عاشوا وماتوا فقراء ماقطعوا شجرة ولا اثكلوا امرأة ولا يتموا صبيا ولا نهكو ا عرض فتاة من الوطن ..
لكن الصور السريالية تلك تتابعت الى مخيلتي وسط نعاس طويل ..طويل وانا في طريق بري اليك من اقاصي الأرض وحتى تخومك ..وعدت اليك بالحناء والخزامى وورد الآس وقلت سينشق غبار الصباح عن وجهك وسألوذ بك كما لذت بأبي منذ ربع قرن اويزيد في الظلماء ..قلت سأتنشق شذاك مثل صبي اخرس وارفع سبابتي في حضرتك دون معنى وستعرف مااقصد وستمسح عني عذابات الرحلة .
كنت ادري وانا عائد اليك انك مثقل بجراحات وغربة وانك خرجت من نفق طويل من المجهول ولكن لتدخل مجهولا آخر لكن لابأس سنداوي جراحاتنا كلها .
في الطريق اليك كنت ارقب سائق حافلة شبه شارد وغير معني بطقوسي وهرطقتي وتعاويذي في ذلك الليل الشاتي اذ كان بين الحين والحين يفتح النافذة فتارة يتجشأ واخرى ينفث دخانه في وجه سحابك ... قلت له مااكثر دخانك ياصاح ... ضحك من قلبه .. وكفكف دمعة من شدة الجذل .. وقال: لم يعد لكم من وطن يذود عنكم الدخان .. وانا الذي اقود الحديد والبأس الشديد في هذه البرية .. لي البلاد ورقاب العباد ...
(اصوات قصف طائرات ومدافع واضواء خاطفة ودوي انفجارات ..الكائن يحتمي ...يخفي رأسه ..يتوارى خلف حاجز الرمل ...ثم ينهض مع انخفاض صوت الدوي ينهض الكائن تدريجيا مع صعود صوت النشيد : )
النشيد : هل اراك ...هل اراك ...هل اراك ... هل اراك .... هل اراك ... هل اراك ...في علاك؟
الكائن :كان سؤالا كارثيا تم تلقينه للصبية في المدارس ...هو الشك الديكارتي وبقيا اسوداد معرة النعمان ..تلك الفوبيا الفاجعة : انكم ايها الصبية في شك منه مريب ... انكم قد لاترونه في علاه ...ولا وهو يبلغ سماه ...

لماذا ..حالوا بينك وبيننا مذ كنا صبية صغارا وانكروا علينا ان نراك في علاك ولانراك الا وانت تتخبط وسط نجيع اولادك الصغار ..لماذا ؟
لماذا صادروا حقك ان تصعد الجلجلة وتموت بنا ونحن في حضنك فرادى وجماعات .؟
لماذا اوحش المعلم الدرب امامنا وقال انها اشواك وحجارة ...
وقلت في نفسي هي طريق العلماء والأنبياء ..ولكن اينهم في هذه الصحراء المترامية اينهم ؟ وانا اناجيهم كي اراك في علاك .. جئتك بعد عقود كي ارتقي معك ..كي نصعد معا ..بعدما نزلنا معا ..
ولكن من اكون ايها الوطن ؟
من انا ؟
انت لاتعرفني ... فلست كبيرا ولاصغيرا ولا عالما ولا جاهلا ..ولاظليلا ولا حافيا ولاظالما ولاقاطع طريق .ولا .. ولا .. ولا .. ولا
ولكنني في العتمة استرجعت كيف ضمني ابي وصاح : ياايها الناس ...وكان معشر الدراويش يرددون ترانيمك مرارا مرارا .. وعلمني كبيرهم تلك اللغة التي غدت منقرضة .. ولم يبق منها الا تعويذة اناجيك بها اذا ماضاقت بي السبل ..
وصرخت فيك كما لم اصرخ من قبل ..صرخت عبر القارات والمحيطات وعبر وجوه اليتامى والغرباء من اولادك ..ياوطن ..يارهين المحبسين ..محبس العام 1991 ومحبس العام 2003 ومابعده ..الى اين انت ماض في دهماء محبسك الطويل..الطويييييييييييييييييييييييييييييييييل في لياليك التي تتنشق فيها عذاباتك صامتا تبتلع جرعات النار والشقاء وترفرف مثل نسر جريح في فضاء قاتم تتابع فيه قوافل اولادك الماضين بصغارهم ولواعجهم واشعارهم وعذاباتهم ..ماضين من دفئك الى زمهرير الفضيحة ..زمهرير الغرباء عبر القارات ..صاروا وشما ناتئا في المطارات وصاروا ايقونة في قواميس المهربين وصاروا اسطورة في سجلات هيئة الأمم وصاروا فيضا بشريا بأجنحة ومناقير يفرون من اوجاعهم وغربتهم اليك ..ياوطن ... الا... متى تخرج من محبسيك ..الا ...متى تعود الى فراديسك الصغيرة ؟ الا.. متى ؟ الا ..متى ؟ الا.. متى ؟ متى نراك في علاك ؟
لكنك في محبسيك ياوطن رهنوا فراديسك الصغيرة حتى تتخلى عن ابنائك وحتى تسلم تاريخ الكلمات والأشعار بديلا بطلاسم وتخاريف ورقصات غجرية وطواطم حجرية ومدافن في الصحارى والفيافي والقفار وحتى تنطق كلمة الحق في محبسيك انك لاترى .. وانك سعيد بالعمى العظيم الذي جادوا به عليك ... اذ شوشوا بصيرتك وحفروا بآلاتهم الجارحة روحك السمحة .. وغذوا الامك بآلام اخرى كي تنسى ابنائك وتعوم في محبسيك في خرافة الفيلسوف ..(يتمثل الكائن هنا شخصية ابو العلاء المعري :رهين المحبسين في ازدواج مقصود )فترى مالانرى وتسمع مالانسمع وانت هنا او هناك في المحفل المعتم في زنزانة الكلام ...
في تلك الفسحة الصامتة رأيتك كما لم ار من قبل اوطانا ارهقتها الكلمات والأناشيد ..اوطانا ارهقتها المواثيق والعهود وطوابير الفقراء ...
في الطريق اليك شاهدت الشريط السينمائي الطويل : في الصباح ومع اذان الديكة يخرج الأولاد حاملين فؤوسهم وسكاكينهم ونارهم وحديدهم وبياناتهم ولفافات دخانهم واهواءهم وعذاباتهم وطيشهم وتصعلكهم ونزقهم وانسدادهم ليعلنوا ان ماكان قد كان وما هو آت آت ...فالبيان الأول فالبيان الثاني ...وحتى البيان الأخير والوطن يرقب ابناءه وهم ينقلبون على بعضهم البعض يخونون بعضهم البعض ويكرهون بعضهم البعض ..ياوطن ..ياليلك الجديد ونهارك القديم ..اولادك الصيد :يريدونك وطنا خاصا بهم ..هل ثمة انانية وطينة ياوطن ؟ هل يمكن احتكارك ؟ هل تتحول الى رصيد مجمد في بنك الكلام ؟
اسمك جواز المرور الى طوابير الفقراء هذا ماشاهدته في فليمك ياوطن ..تدفق اولادك الفقراء حفاة غرثى صائحين :ياحيهلا ...ياحيهلا ..ياحيهلا ...وطن في عرسه الجديد ....وكرت قوافل المن والسلوى في الى كل فج وصوب وكل حضر ومدر وشاهدها العامة مع انشقاق الأقمار الجديدة ..كانوا يتجمعون في كل افق برتقالي لالشيء الا ليرون قوافلك الأفتراضية ومنك وسلواك ...صاموا دهرا ..وصبروا وتلذذوا بأحلامهم على امل انقلاب في المعنى :
(سنراك في علاك ...سنراك في علاك ...سنراك في علاك ..بالغا سماك ..................)
وظلوا يرمقون صعودك ..صعودا الى قوافل السراب ..ومواكب الأنين الطويل ..................................
(اصوات الجوقة ...............)
حي ...سفربرلك ...
حي ....جهادية .............
حي ....حرب على الأعداء..........
حي ....حرب على الخونة .................
حي ....حرب على الأستعمار .....................
حي ....حي حرب على الرجعية .........................
حي ....حرب على ...............................................
حي ............حرب على...................................................
الكائن : ومضيت محني الظهر ....مصدقا ابناءك ..متعففا راضيا بهم وهم يكبرون في افيائك ..وتحت وارف نعمتك .,.وقلت سيرشد الأولاد ويبلغون الحلم ...وسداد الرأي ويكفون عن دسيسة البلاط والصولجان وفتنة الحاشية ...وغذيت اولادك الطيبين نسغا من امانيك المرفرفة الشفافة الخالصة ...
وانتظرت رشدهم ...حتى اكتهالهم ...
لكن الجوقة ظل صائحها يصيح .........................
(الجوقة)
حي ...حي
حي...حي..
حي ...حي .....
وملئت الآفاق بالعويل ...
ملء الزمان والمكان بأوجاع العامة ...
وورث الأولاد ترانيم الفقدان ..
ونزول دموزي الى العالم السفي ....
والنحيب الليلي لأينانا ...لايتوقف ...........
ياأرض السواد طبت وطاب ليلك ونهارك وافقك وارضك وسماك ..............
الكائن : ايها الناس ...اليكم البيان رقم واحد .........................ايها الشعب العظيم .........ايها الشرفاء في كل مكان
وبعده النشيد ...
وبعده النعوش .............
والتابوت ....فيه سكينة من ربكم .............
وورث الأولاد توابيتهم عابرين متخفيفن ...............
لن نراك في علاك ربما (وهم يحملون توابيتهم على كاهلهم )
لن نراك في علاك ربما .....................
وتنزل ياصاح الى تابوتك النحاسي ..تابوت الأناشيد والكينونة الجديدة .........
في الطرق اليك وعبر السراب وسجف الخراب القديم ...
ينقطع الشريط وامضي ...في ليلك الحالك وانا ارى الحشود تجر سجف الظلام وينشق افق ما قرب بيتي ...
كي ما اتنشق بعضا من نعمائك واحلامك ..............
في الطرق اليك ..قال المذيع ...الى هنا نأتي .......وتصبحون على خير .......
(يحمل الكائن هيكل تلفزيون يضع رأسه فيه ويدور معه دورات عدة ..ثم يجلس قبالته على الأرض ويردد J
بيان ...
بيان ...............
ايها الشعب .........
ايها الناس .............
الى هنا ..نأتي الى نهايتكم ..وتصبحون على ....................................
.وناموا ...........
واستيقظوا ....
ثم ناموا ...........
ثم استيقظوا ..........
ثم ناموا ............
ثم استيقظوا ............
تصبحون على خير ...........
على خير .................................على خير .............
ولكن في الطرق البرية اليك كنت اناجيك ياغلام ...يافتى ممشوق الكينونه ...على خير ...يابهي .....
لكني كنت ارى الندوب وآثار الطعنات ومواضع السكاكين في سائر جسدك ..
وكنت تقول لابأس سنصبح على خير ...........
والأولاد سيرشدون ...ويكفكفون آلام الماضي لنبدأ من جديد ...........
في الطريق اليك كنت انشد لك كينونة.......... اخرى........ امان امضها العناء واثقلتها الرحلة .....
لكنهم ناموا عنك واغلقوا فصول المواثيق ..وصاح صائحهم :سنبدا من حيث انتهينا ...........
(تظهر في زاوية ملامح العلم العراقي )
يارهين المحبسين ياوطن : ثلاثةايام من الرحيل اليك ..كما هي الوان ساريتك في عليائك ونحن نتطلع اليك طالعا الى علاك اسوداد ..واحمرار ..وابيضاض ....ثلاث........ ثلاث ...........ثلاث ..........ثلاث
(ثلاثة ايام هي الدهر كله
وما هن غير الأمس واليوم والغد )
.............ياوطن...يارهين الدهر كله ..........قادم االيك بجثمان الزمان العتيق العتيق ...
قادم اليك بترانيم دموزي ..في الف وجه لدموزي ..كلهم دموزي ...يارهين المحبسين ..كم الف دموزي مروا على قربان البيانات ..منذ الف الف الف الف ..ياوطن ....
(تظهر تفصيلات اما بواسطة العرض الخلفي (باك بروجكشن) او بنزول ديكور من اعلى يدل على معبد دموزي وحضارة سومر )
الكائن (مواصلا ): بيان السعادة ...
بيان الرحيل ......
بيان الأمل ......
بيان الثورات .....ثم بيان بأمر البكاء عليك ياالف دموزي ...........
من يبكي ..بل هم المغنون والهتافون والراقصون والطبالون ......
ضحك ...كالبكاء ...وبكاء ...كالأماني .........
ازواج يضربن الدفوف على مقدم ...موات ...دموزي ...نزوله الطويل الطويل ...من اجل اينانا ..من اجلها ياوطن كفكف دموع كل اينانا في ارضك وايقظ كل دموزي من محبسه المعتم الطويل ......................

(صوت الكائن مع صوت مضخم كخلفية لما يردده من ترانيم نزول دموزي ):

أمرُّ بكاء الدنيا نبذله على زوجها. من أجل إنانا، أمرُّ البكاء نبذله على زوجها. واحسرتاه على زوجها، واحسرتا على فتاها. واحسرتاه على بيتها، واحسرتا على وطنها. على زوجها الغائب ، على فتاها الحبيس. على زوجها الراحل، على فتاها الراقد. على زوجها الغائب، من أجل أوروك، في الأسر. قد مضى فتاي يطلب الماء، ولكنه أُسلِمَ هناك إلى الماء.

الكائن : في الطريق اليك ..كانت قوافل اينانا في البرية تنشدك راعيا للرحيل الجديد نحو دموزي :إنانا تبكي بكاءً مرًّا على زوجها الفتى: "اليوم قد قضى زوجي الحلو، زوجي قد قضى. اليوم قد قضى فتاي الحلو، فتاي قد قضى. لقد مضيتَ، يا زوجي الحلو، إلى زرع البواكر. لقد مضيتَ، يا فتاي الحلو، إلى زرع الأواخر. قد مضى زوجي إلى الزرع، ولكنه قُتِلَ بين الزرع.

قادم انا في الهباء في السراب نازل الى رحم ارضك ياوطن ..طالع اليك في عليائك وامانيك وتواريخك وتحولاتك ...
(يتصاعد بالتدريج دوي يدل على الحرب او اصوات ناقلات ضخمة وصراخ ثم اصوات قصف ..يخرج الكائن رافعا يديه ..ياوطن ..انا دموزي لست نازلا بل طالع اليك ...يظهر مايدل على اغتيال الكائن من صوت رصاص او رصاصة واحدة ويسقط ..ليمر حشد من لابسي السواد يحملونه وتعم العتمة في المكان) .
..................................................................

· البيت الشعري من ابي العلاء المعري
· والمقاطع من نص سومري لموت دموزي في الأسطورة القديمة

(نهاية)

بروكسل
تموز يوليو2007


Thursday, September 13, 2007

احدث نص
طيور المساء
في الوقت نفسه من العام، في الذكرى التي تمر هكذا، بكل صمت ووقار، في الوقفة الجليلة التي عليه ان يقفها الآن. هو وسلالته وتاريخه. شجرة العائلة من خلفه وصورته على المرآة امامه. وشعاع النور القادم من النافذة يصبغ جانبا من وجهه.
لايدري في اي عمر هو الآن. لكن المؤكد انه الوقت نفسه من العام ، الظهيرة الشاتية، والليل المطير ، والذكرى.
حفل المساء بمسيرة العسكر ، ومرقت البساطيل من امام النافذة صعودا الى الطبقات والسطوح العليا. مر العسكر على المكان وكانت همهماتهم وقعقعة سلاحهم تمثل جوقة اعادت اليه الذكرى نفسها.
الورقة الملوثة ببقع الحبر طمست خارطة المكان المنشود. وهاهي امامه قد اختفت تحت طبقات التواقيع اسهم الأتجاهات. وارقام الهواتف التي عليه ان يتصل بها حال هروبه من المدينة.
اوان الهروب كانت لحظة دقت فيها الساعة معلنة قدوم العسكر وتسلقهم الجدران واستقرارهم في الحجرات والممرات الداخلية.
كان ليل كانون الذي حمل له الذكرى قد حمل معه احساسا جامدا هو مزيج من الرغبة في الخروج والرغبة في التماس الدفء. .
لاسبيل امامه للأفصاح عن حواسه وكينونته. ولا التعرف على ذاته وعمره. سوى انه مؤطر بمربع مغلق لنافذة ربما كانت في قارة من القارات ، في بلقع او فلاة ، في مساحة مقفرة وجافة ، او حتى مدينة من مدن المنفى الأختياري. اللاجئ السياسي ورقمه (11111) ودفتر تنظيمه وشهود الوقائع. مرت وجوه الخبراء من امامه. كما مرت قامات العسكر. النزول الى الأرض تكاملت مع تقادم الحشود على الشاشات احتفاءا بالرايخ الرابع ، الكل يساوون الكل ويؤمنون بالطريق والثورة والتاريخ. الشاشات تحمل اخبار اللقاء المشهود. الأولاد الصغار مثل رسوم متحركة يلوحون بباقات الزهر ، الأمهات هناك عند قدور الطهي.
حشد من النساء بوجوه موردة. نساء بدينات وأولاد اصحاء في ساحة الرايخ الرابع. مجرد فيلم على الشاشات. .
اما هو فقد كان لصيقا بموسوعة يجري احضارها : الطريق الى الأمة.
مر العسكر قرب النافذة. كانت بوصلة الأتجاهات قد اشارت الى كتل الحديد والمغناطيس والزئبق والفوسفور. تأثرت البوصلة بالأجواء الكهرومغناطيسية ، فيما هو يرمق الشاشات بلا ادنى رغبة في الأنفصال عن الجدار. .
السواد الذي غلف كيانه. كاملا بعد ذهابها والجدار الأبيض الذي تم دهنه مؤخرا. قبيل ذهابها بقليل. .
كان مطلبا من مطالب عدة. ان تمحى التواقيع والأسماء والتعليقات والرسوم والرموز من الجدار ويدهن بدهان ابيض.
وها هو نموذج داكن تماما على جدار ممتد ليفصل المكان عن ساحة الرايخ الرابع والشاشات وعن الأمهات البدينات وعن.
مرت الذكرى. وتغلغلت في المكان. وكان عليه ان يعيد رسم اي شيء يدل عليه.
انا. عابر سبيل. ياسيدي.
انا اعيد استذكار. .
من ؟
الأجندة تقول انه كائن داكن. خرج من حرب ما. هكذا.
المخلفات التي وجدت عنوانها : الطريق الى الأمة. الأولاد الصغار الذين يعرضهم خرجوا الى ساحة الأستعراض وظهروا على الشاشات ثم غابوا. وهي احتضنتهم مثل كل ام. وغابت معهم. بعد ما بقي هو متشبثا بالجدار. غابت ربما هي في اسكندنافيا. او قريبا من القطب المتجمد. .
مرت بساطيل العسكر عبر النافذة. وتصاعد صوت الطبول وأبواق الأستعراض. مرت قافلة من طيور المساء.
انفتحت النافذة ومرت بساطيل العسكر بكثافة الدود الذي يسير على ذراعيه وهو يدب في الذاكرة واهنا ساكنا. البوصلة تدور بالقرب منه والجدار الأبيض تملؤه الثقوب.
في المساء الخريفي اسدل الستار واوصدت الأبواب والبوابات الخارجية ومر حشد من الأباطرة ثم نزلوا عبر سلالم حلزونية الى مساحة من اسفل المباني المكتظة. مساحة كانت بالأمس مستودعات لمجتمع المكان وصارت اليوم متحفا للتاريخ.
وانتشر موظفون وموظفات نشيطون بأزياء موحدة. وكأنهم جزء واحد متحد مع الألات والأجهزة.
لم يكن مهما التعرف على اللهجات واللغات والملامح والأزياء فقد كان المشهد شبه كرنفال لأمم واقوام متعددة. بينما كان العسكر من حوله وهو يغيب تماما عن المشهد
.
اللوحة : مهداة من الفنان التشكيلي العراقي ستار كاووش

Sunday, September 9, 2007

الرحيل المر

الرحيل المر...قصة وطن يلفظ ابناءه



لأنه هكذا ..اسمه ال ........ عراقي
هكذا ..ليست اسطورة ولاحكاية قبل النوم بل دمغة على الجبين............. فاقبلها ايها الكائن
ومضى كما يدرج كل كائن في سيرورة مغلقة على اسراراها
العراق هو العراق والدولة هي الدولة وانت هو انت لااكثر ولا اقل
انت هنا او هناك في صقع او بلقع اوفلاة او بر او سهل اوجبل موشوم بالضرائب كما هي الدمغة على الجبين
الضريبة الأولى : هي ضريبة القبيلة / الدولة...والقبيلة مجازا هي (غزية)...
وهل انت الا من غزية ان غزت ..غزيت وان ترشد غزية ترشد
تحمل معول الهدم ساعة شاء سادتنا وكبراؤنا
وتحمل معول البناء ساعة شاؤوا
(وقالوا ربنا انا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا ءاتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) الأحزاب 67-68
ولكن من انت ..وفيم انت ؟
ماموقعك في الخريطة الجينية للوطن المجهول ؟
ساعة غزت القبيلة/ الدولة وحملت روحك صافية هدية للقبيلة / الوطن
وما وجلت ولاارتعدت فرائصك ولسان حالك يصرخ : كلنا للوطن
وحاربت ...... حاربت طويلا وطويلا جدا
حتى امتصت الحرب آخر رحيق فيك وخلفت فيك الشيب وعلامات الشيخوخة
ويومها قلت كما قال الصائغ :
(تعبت من الجري خلف المواكب
سلاحي على منكبي وابحث عن سبب لأحارب .....)
ياللهول ..هل مفرقة الأهل والعيال ومخربة الديار ومقطعة الأكباد ومشردة الصغار..الكريهة ..الحرب كما سماها العرب الأوائل ..هي كما هي ..مجرد سبب لكي يصدر البيان الأول ؟
مرة ...قبل حين تفقدني شبه صديق ..وارسل لي ايميل ..
فتكاسلت عن الرد ..كما ان ذاك الكائن يذكرني بحقبة سوداء اريد ان امحوها من ذاكرتي ..كما اني اتذكر له كلمات ومواقف اريد ان انساها ايضا............
ولكن يبدو ان العقل الممنهج على خوض الحروب حتى مع النفس يأبى الا ان يمضي الى مساره
اذ ارسل لي ذاك الرجل ايميلا لاحقا ابتدأه بالحمد والتسبيح ثم بآية قرآنية ثم اعلن قراره بشأني...الى آخر القرار
لكنه كان قرارا يشبه بيانات الحرب تماما : الديباجة ، الآيات المفصلة المختارة خصيصا وبعناية بحسب الحاجة ، ثم القرار...
واذا ..لقد تلبست الحرب وبياناتها وديباجاتها في الكائن الشرس المريض
وهكذا ..
صحا الكائن المسالم على انفضاض الكابوس ..كابوس الحرب
وظن واهما وأي وهم ..ظن انه ساعة انفضاض الحرب سيكرمه الوطن ويعزه
يبني له صرحا يسميه بأسماء المحاربين الشرفاء الأشداء
ثم تنازل عن الصرح ورضي بمنزل صغير ولو في فلاة ..يضمه مع امرأة طيبة واولاد كحمائم السلام
ثم تنازل عن البيت في البرية الى عمل لائق بكرامة المحاربين
ثم تنازل عن هذا ..ورضي ان يقال عنه انك محترم وكريم ..وتستحق التكريم والأحترام
ثم .............
ثم..............
ثم..............
وجد الوطن منهوبا ممزقا ..لايقوى على لملمة ذاته الحزينة
ووجد ان حروبه ..وكبرياءه القديم كانت اضحوكة سمجة
وعليه اليوم ان يغادر الوطن الى غير رجعة ...
..........

في وسط هذه التراجيديا ..وعلى شفير اللحظة التي يلفظ فيها الوطن ابناءه ..كتبت له ..الى الحب الأول والآخر ..الوطن ... الجرح الذي لايندمل ..العراق ..قلت له :
( قبل عامين او ثلاثة اعوام من الآن
كنت اقطف السوسن
اصنع قلائد من اجل جيد الوطن
حسبته ارجوحة للعامة
ومرضعة تطوف الأماكن
حسبته بغلا او حمارا يحمل اسفار الغرباء ..ابناءه
حسبته ابا مفتول الشارب يلوح بعصاه للتاريخ
حسبته اما تدور مع دائرة الرغيف
قبل عامين من الآن
رأيت الوطن معلقا على الجسر المعلق
وقلت : ستحط قوافله
وتدب صغاره
يعبرون الجسور المقطعة الى المدارس
رأيت الوطن على ابواب وزارات محترقة
نحيلا يمد يده للسماء
وقلت ستصدق وعود الآباء المؤسسون
وستصدق نيويورك تايمز ...
وستصدق سي ان ان...
وستصدق يو اس اي تودي ...
وستصدق بي بي سي ........
وستصدق ... وستصدق ....
ورحت اطعم الوطن كلاما
واسقيه خطبا
ونمت معه على ارصفة الثورات
تدثرنا بالرضا
واكتفينا بحسن النية
لكن الوطن المعلق ظل معلقا
والآباء المؤسسون علموا الوطن اصول النفاق
سرقوه ...وهو يمد يده للسماء
وحيدا ..كان يتطلع في الفراغ ......)

..........................................................................

من هنا بدأت رحلة المستحيل
لاجديد في القول ان كل هذا جرى غب 1991
اصدقائي الكثر في العديد من ا لمنافي لفظهم الوطن منذ ذاك التاريخ
ومسخ السلاطين اسماء الأولاد الطيبين الى صعاليك يترنمون بخراب وتآكل يمضي في جسد الوطن منذ
1991

في الرحيل المر:

هو برنامج / فيلم وثائقي عرضته احدى الفضائيات قبل ايام يقدم صورة بانورامية لأولئك الذين لفظهم الوطن دون ذنب وتنكرت لهم كل الحكومات منذ عقود وحتى اليوم ...تنكرت لهم هذه الحكومات يوم احتقرت آدميتهم وسلبتهم حقوق المواطنة
مشهد 1: رجل اقترب من خريف العمر يروي قصة تهجيره ويحاول ان يستجمع كلماته واحاسيسه ليقول : احب العراق ..ثم تختلط كلماته وحروفه بنشيج مر وتطفر دمعة حرى على الشاشات
مشهد2: شاعر يحكي حبه لجواز سفر الوطن ..وكيف انه يتنقل على ابواب السفارات منذ سنين في لهجة بالغة القتامة والأسى وصدق الأحساس...
مشهد 3 : رجل يحكي قصة طفله الذي احرقت جسده قنبلة حارقة ابان الأحتلال وانه اجرى للطفل عشرة عمليات جراحية : ازيل في احداها التصاق وجه الطفل بكتفه ، وفي الأخرى جعل ذراعه قابلة للحركة ..لكن وجه الطفل البريء المصاب بحروق فضيعة يحول دون التحاقه بالمدرسة ..كما ان الأب استنفد ماله من اجل اجراء عملية اخرى ..ثم يبكي
كلهم بكوا .....
كلهم يبكون ....على الشاشات
ترى لماذا صارت دمعة هذا العراقي اكثر من رخيصة امام انظار العالم اجمع ؟
لماذا تحول الرجال المحاربون الأشداء بالأمس الى طالبي رحمة هذا الكون ؟
في الرحيل المر ........
كان هنالك عرض بانورامي شاسع لمجتمع النزوح والشتات العراقي
مجتمع يمضي الى غايته المجهولة في كل منفى
لكنه في المنفى السوري اشد مرارة
ففي وقت بلغ تعداد هذا النزوح المليون ونصف المليون تقريبا
قبلت الولايات المتحدة.....مثلا ... استضافة بضعة مئات بشرط ان يكونوا علماء وبشهادات عليا من جامعات عالمية ...
........

الكل من ابناء يعرب قلبه على العراق
ولكن قليل جدا من يتخيل يوما يكون فيه جاره في المسكن عراقي نازح مشرد
او ..........عزيز قوم ذل...حاشا وكلا
الكل يدبج بيانات في حب العراق
وقليل من يريد لهذا العراق ان يخرج من كابوسه المرير وليله الطويل
....
في الغيتو العراقي الجديد ...حمل ذاك العراقي على كاهله موسوعة الحرب
ترك لعشاق التمثاثيل والجداريات تغنيهم بمقولة: احنة مشينة للحرب
وكأننا ماشون الى نزهة سابقا ولاحقا
ولهذا صار سهل يسير ان يضغط عراقي ضال على الريموت كونترول ليبيد بضعة مئات ممن شاركوه في الجبهات فيمزقهم عن بكرة ابيهم
وصار سهلا ان يقتص عراقي من بضعة عراقيين ذبحا بلا رحمة وتهجيرا وترويعا
كلهم عادوا من حروب القبيلة/ الدولة متساوين
لكنهم مختلفون في التعبير عن الجريمة المزينة بالآيات والخطب وديباجات الوطنية
ولهذا كان الرحيل المر...قصة وطن يلفظ ابناءه ............

Monday, September 3, 2007

في مديح الفشل


في مديح الفشل


ليس مستغربا ان يكون هذا الكائن الرعديد- الأنسان - فاشلا ..
لكن الفجيعة تكمن في عدم اعترافه بالفشل او بقيامه بقلب الفشل تألقا ونجاحا وفوزا وانتصارا ..
لأن لامعايير تحكم الأشياء في هذا الشرق العجيب ..
فقد وجدها الفاشلون فرصة للتغني بفشلهم ..
حتى جاء يوما جيش الشعراء الهتافين من كل صنف ، العمودي القريض والحر والمرسل وصولا الى الشعر الشعبي ...جاؤوا زرافات ووحدانا للأمبراطور مدبجين المطولات التي تتغنى بفشله المريع في صورة مجد وانتصار ...
انا حائر في توصيف هذا الفصام المرضي عندما تتحول الأيديولوجيا الى اصفاد وحديد وعقل مدجن وثلة من الحشاشين من صغار الكتبة والأميين
ويتحول الفاشل الى صنم
حكام فاشلون تقريبا من حولنا وحولكم ..
لكنهم اباطرة وسادة وسواهم عبيد وصعاليك
لاتحدثني عن رومانسيات الثورة وشعارات المراهقة السياسية
فتلك العذراء الفاتنة ، الثورة- الأنقلاب ، ستتحول بعد الفشل في الحكم الى مجرد غانية لعوب يتقادم عليها الزمن الى عجوز شمطاء ليس فيها من بهاء الماضي شيء
هذا التأكسد الأيديولوجي هو عنوان الفشل
لكن المعضلة المستشرية المتوارثة ان لاوجود لعلماء الفشل.,..لاوجود في القاموس للأسئلة المدوية من قبيل : لماذا ؟ وكيف ؟ وقع الفشل ؟
ولهذا كان المحذوف الكلامي كناية عن حذف ترمومتر الفشل السلطوي
وفشل الفاشلون في ادارة عراق هو هذا من قبل ومن بعد
ودبج المدبجون القصيد المتبجح الكاذب ..ليغالطوا الفصاحة ويحولوا الفشل الى عجمة معرفية منطمسة
فالكل مصابون بالحول المعرفي ان هم اعترفوا وسلموا بالفشل
والكل فاشلون في عرف ولاة الأمر ان صرخوا : اوقفوا ايها الناس هذا الفشل
انه ان كان عاهة مزمنة في الجسد العربي
فلأنه عاهة يسوق لها دواء الأمم من مسكنات آلام الفشل منذ عقود وحتى اليوم
وعراق اليوم والأمس ليس مختلفا
هم جميعا على الوجهة ذاتها : نسكن (بتشديد الكاف ) جبهة ونشعل اخرى ، نقمع تيارا ونؤجج آخر ، نسكت صوتا ونطلق آخر
هذا الفشل في المسؤولية الأخلاقية عنوانه : ان هنالك من يصدق ان بأمكانه وبالأحلام الطوباوية ان يقلب المعادلة او يقلب الطاولة على اللاعبين
بينما مقامرته مع فئته هي اخرى تمهيد لفشل جديد من لون جديد
الفئوية والزحف على الظهر لن يقيم ذاك الكائن الأنساني المصنوع في احسن تقويم
لن يكرم تلك الآدمية التي اكلها الفشل في ان تكون
الآدمية ديست عبر جندية هي اقرب للعبودية والأحتقار وسوق طبقة العبيد الى المحارق
والآدمية ديست ومرغت بالوحل يوم جيء بأصنام السلاطين ابتداءا من الملك العضوض وحتى الساعة
وقيل للناس : بايعوا طوعا او كرها
فكيف والبيعة لزنديق او فاشل ؟
كل هؤلاء واولئك ..كان الفشل مختبرهم ..منذ لحظة الضمير الأولى
الضمير الذي يصرخ في من شرب كأس السياسة : اين انت من الفشل ؟
الضمير الحي دفع قادة وزعماء وعمال الى العدول عن البلاط والصولجان درءا للفشل
وتحوطا من خرقة بالية سترمى عليهم وهي ارذل العمر الذي يلاحق الكل
وكذا الأمم : تفشل ..وترد الى ارذل العمر
حتى لاتعلم من بعد علم شيئا
افتحصي الأمم المتطاحنة المتصارعة قتلاها ؟
افتشعر بالفشل والخزي وهي ترى الدم والأشلاء والثكالى والأرامل وعواصف الموت تزحف في الدروب والمفازات ؟
فأما سقط البريء عابر السبيل ..وهو واحد لاغير ..فقد فشل الجاه والسلطان..وفشلت الأيديولوجيا وديس المبدأ واحتقرت حصانة الكلام
ولهذاكانت قصة حقا ..هي يوم قتل العبد الصالح ذاك الغلام وجاء بشيء نكرا
اقتلت نفسا زكية ؟
السؤال الأستنكاري من موسى للعبد الصالح
وان هو الا غلام ضال ....لم يتبين منه خير
فكيف والفشل يتربع على حصاد الحاصدين بمئات الألوف .. ياللهول ..
الحصاد المر ..الوحشية وازمنة البرابرة الذين يفتكون بالمقدس وسيذيقون الناس طعاما ذا غصة وعذابا اليما
الشيطان الأرضي الذي علم وعوله وغيلانه فنون الأبادة
بينما وعاظ الشيطان هم الذين يدبجون قصائد المديح للجندي الأمبراطوري الهمجي القادم
كمن يدبجون قصائد المديح لقتلة ابناء جلدتهم
الفشل هو الفشل
الكل يبيعونه ويهدونه
يوزعونه ويلقنونه للناس
يرضعونه للأولاد الصغار
كراهية ومقتا وحقدا وسعارا حيوانيا وضغائن همجية
ويحسبون انهم يحسنون صنعا
.......
ايها الفشل
ايها الدستور الأرضي
انت محكمة الآن..وقاضي الزمن
ترمومتر النفاق والهراء والأحلام المستعارة
انت صرخة الضمير المدوية في زمن عزت فيه الكلمات وشح فيه الأمل
انت الشاهد الأرضي / السماوي على جرم الأنسان ..
(من يفسد فيها .........ويسفك الدماء )....يالحلمك بعد علمك يارب الأنسان
انه الفشل .. الفطرة الناتئة الكامنة
الرحمة الأرضية والسماوية
لمن نظر في عيني قلبه وصرخ :
ياايها الناس ..اني وليت عليكم ..اني تسلطت عليكم ..اني قطعت الدروب عليكم ..اني وعظتكم زورا ..وافتيت باطلا ..وسننت الكلام زورا ..ودبجت البيانات كذبا ..وعقدت المؤتمرات الصحافية نفاقا ..وجعلت بعضكم يضرب رقاب بعض ..
ياأيها الناس : انا الفاشل .. الفاشل في هذا الزمان
فلتسامحني الأرض قبل السماء ...
فمن ينظر في عيني قلبه ..من؟ من؟ من ؟

2007

Monday, August 27, 2007

بورتريه امرأة مجهولة UNKNOWN WOMAN PORTRAIT

بورتريه امرأة مجهولة



قالت :
انا امرأة من دخان ، اتكور في زمن مجهول ، ادور حول نفسي وأتحول من حال الى حال حتى اغدو امتدادا لتحولات المادة وأصير دخانا ...
يمكنني التنقل في حجرات المنزل وفي اجزاء المكان ، كما احلق حول ملجئي وأطير روحا مرفرفة خفيفة من دخان ..
اتخلق في مديات احلامي ، وأطير دخانا على مكان نزوحي القديم ..
انا من فلسطين ، من مخيم الشاطئ ، انا شاهد على النزوح والجلاء ومخيمات اللاجئين ومدارس الغوث .. وها أنا دائرة من دخان في ملاعب طفولتي ... هنا في قلب الحدث : بغداد .
من الذي جاء بالدخان وجعل سيكارتي دالة علي ؟ ، هذه الماركات الأستعمارية لسكائر تعود الى سلالة سيجار تشرشل وسيجار هافانا وصولا الى سيجار طارق عزيز ...
ميامي وهوليوود ثم سومر وبابل والرشيد وكليوباترا وروثمان وكاميل وكمران .. و .. , وبقي الدخان هو الدخان ... ربما كان سبب الأختلاف اني قلت للطبيب انك على خطأ وأنا اكثر حيوية ونشاطا مع الدخان وأكثر بؤسا من دونه .. ولهذا قال ... انها حالة سايكولوجية محظة .. وأما القبلة الذابلة فقد تلاشت وذوت بسبب طعم الدخان وذوت الشفاه بسبب طعم الدخان الممزوج بالقهوة ..
واعترف بذلك .. ان القبلة الأولى هي التي جعلت ذاك الغلام ينفر سريعا .. بطابعه الوسواسي العريق ... ان الدخان والقهوة اسباب كل المصائب التي نمر بها ... ولو جمعت الأموال التي انفقت على الدخان لصرنا اباطرة وسلاطين ، نحن معشر الفقراء والموظفين الصغار ..
المفاجأة اني وجدت قلما في شكل سيكارة فاشتريت علبة كاملة .. ومصباح النوم في حجرتي طورته وصار في شكل سيكارة .. ونظرت في القاموس النسائي فوجدت اجماعا ان من تدخن فهي اما امرأة مسترجلة او معطوبة سايكولوجيا ..
مرت سحابة الدخان ، بالقرب من وجهه الشاحب ، ومفرق الشيب الذي بدا ناصعا على جانب شعره ، ودون ادنى اكتراث .. كان يحدد قراره .. انه سيغادر حتما ..
كانت غرفة المحررين قد خلت الا منا .. ورئيس التحرير ودعنا وبروفات الجريدة دخلت المطبعة .. اما هو فقرر ان يقول كلمته : سأذهب ... قلت له : لاسبيل لأسترجاع الكلمة او تصورها في هذا المكان ... ولهذا مسكت يده وخرجنا ... في شارع الكرادة وقد حل الخريف وبدأت ريح هادئة منعشة تضرب حدائق الورود ، توقفنا ... وأدرك حاجتي للدخان .. فتح زجاج السيارة وأشعل سيكارتي .. كانت تسريحتي لذلك اليوم نحسا علي ، فقد اتخذت تسريحة ( ولادية ) كما سموها .. تسريحة شعر قصير شبابي وعملي .. حتى بدوت مسترجلة بحق وحقيق .. ياه اشياء عجيبة تحصل لنا ..
احاط الدخان الزجاجة الأمامية ولم يكن من سبيل للوداع بقبلة او عناق او ماالى ذلك .. فقد طغى الدخان على المشهد .. وسمعت كلمة واحدة من كل النشرة الخبرية التي كان يستمع اليها ..
ا ..ن ..ت ..ف ..ا.. ض..ة
كأنني غفوت .. او ربما تعمقت في تأملي الفتاة التي عند منعطف الدار .. الفتاة المكتنزة البيضاء التي خرجت لتلقي نظرة على من يطرق الباب الخارجي .. وعرفتها فورا وياللعجب وكدت اناديها بأسمها ..
فلو قلت ( دخان او smoke ) لهرعت الي ولأسترجعنا ايام غرفة الطالبات في الجامعة حيث كنا نتبادل السكائر وقصص العشاق . لكن سربا من العصافير كان قد مر والتحقت بالسيدة ثلة من الأطفال .. وتأكدت انها اصبحت في عالم آخر اذ اشترط الزوج ان تقلع عن الدخان كي يشبكها بخاتم الزواج .
قلت له .. نحن في خريف الثورة .. وأنت تريد ان تحيي التاريخ ..
استغرب كلماتي .. وقال باستخفاف .." عن اية ثورة وأي تاريخ تتحدثين بالله عليك ؟ " .
انا اريد ان اهاجر .. اعاني تمزقا حقيقيا .. اريد ان اعيد اليك انوثتك المسلوبة ..
ان تعودي كما كنت يوم شاهدتك قبل سنوات ، يوم همت بك ومنعني كبرياؤك من ان ابوح بمكنونات نفسي .. ولست اصدق الآن انك هنا .. في مكان يجمعنا .. ولكنك قد تحولت الى كيان آخر ..
من فضلك عودي سيرتك الأولى ... من فضلك حررني انت من عبودية النار والدخان اذا شئت .. عود ثقاب يحرق المملكة .. وعود ثقاب يحرق دفتر التاريخ المزيف .. ويصبح كل شيء دخانا ..
ماذا بقي عندي .. هاأنا قد تجردت من كثير من اثقال الأنثى .. فقدت عدة كيلوغرامات من وزني ، لم يعد هنالك ردف يثقل حركتي ولا ساقين مترهلتين ، ولا صدر بمقاس ( اكس لارج ولا حتى لارج ) ولا كرش ولابطن ولا رموش صناعية ولا شفاه مطلية .. . هاأنا ... جاهزة ان اشتعل واتحول الى دخان ... مد يده .. ورسم على الزجاج دائرة ووضع نقطة .. ثم غمغم :
"سأعيدك سيرتك الأولى .. لكن .. لكن ساعديني .. استعدي من فضلك لذلك .. اتركي شعرك اطول وتناولي الفيتامينات من اجل نضارة الوجه .. ولابأس ان تزدادي بضعة كيلوغرامات .. بصراحة .. بصراحة .. انا سأكون دبلوماسيا بعد بضعة شهور .. وافترض ان سيدة يفترض ان تقف من ورائي وألى جانبي .. ".
كان الدخان قد غطى وجه مدن اجهلها من قبيل اطلال المخيم التي لم ارها الا خيالا في المرويات العائلية القديمة ..
دخان كان يغطي مضارب نزحنا عنها جميعا وبما فيها جلسات طفولة ومراهقة ، ولقاءات حب مختلسة ، اما هذا القانون الأرضي الذي شرعناه في السيارة من اجل ان اعود سيرتي الأولى فهو نقلة نوعية من حياة الأمم ..
لاأدري من اين تسللت المفردة ( حياة الأمم ) ، ولا ( النقلة النوعية ) في حياته وهو يتحول الى دبلوماسي من اهم مهماته ان يدين ويستنكر .. . ويصنع لغة دبلوماسية شاحبة كما هي لغة الدبلوماسية في بلاد العرب اوطاني ..لغة تطيل عمر الكائن الذ ي يملك مفتاح العاصمة وفيما يقصر من عمر الرعية ..
ترك لي متسعا ان افكر وأجيبه .. لكنني كتبت له على الزجاج .. ( سأواصل التدخين حتى النصر ) .. وأغلقت الباب ومشيت عند الغروب في شوارع وأزقة هادئة تتفرع من الكرادة .. وكنت ادخن وامزج كل نفس من دخان بصرخة وحشية تنبعث من سيارة عابرة حتى استنفدت سجائر ميامي ..
ببنطلون الجينز والكنزة السوداء ،والحذاء الرياضي ، بالشعر المقصوص والوجه بلا مساحيق ، من سيتحرك قلبه نحوك في نظرك ؟
مرت كلماتها .. وهي تتربع على عالم من العطور والماكياج والبدانة والملابس الضيقة والأماكن المعلنة من الجسد برسم الأغراء العام ..
كانت صورة مشاكسة ، نفخت عليها الدخان كمثل دخان السحرة ، وشاكستها واغلقت الباب من خلفي .. وتكونت من ورائي خرائط دخان جديدة ... مصحوبة بسحب النميمة ...والرثاء الجميل ...
كأنني في صالة قمار : تخسر الفتاة انوثتها بهذه الملابس وقصة الشعر ، وتخسر الفرص تباعا لأنها نفثت في وجه رجل الدخان ...
وهاهي ... اسطورة من دخان ...
تمضي في شارع نصف مضاء في ليل خريفي .. لتقول له : من فضلك ... هلا ارسلت لي دخانا مستوردا يوم رحلتك الدبلوماسية الهانئة ..؟
2006
القصة من مجموعة بورتريه امرأة مجهولة
اللوحة للفنانة العراقية عفيفة لعيبي

طفل الأمبراطورية THE EMPEROR`S CHILD


طفل الأمبراطورية

(اهداء :الى اطفال العاصفة الذين تشربوا اليورانيوم المنضب قهرا نخب السادة الكبار).
................................................................................................
عنــدما بـزغت شمس الإمبراطورية تكاملت البهجة وأنتشت روح جديدة ، روح مجيدة طالعة ، فـريده ، تحفها أصوات الكـرنفال وخطب المشـاركين الكبار في صنع ذلك المجد الباهر الكبير، أفــواج المبوقين وضاربي الطبول الأبنـاء الأشــاوس الذين صنعوا ذلك الوجود الفـريد .. كلهم جميعا يلتقون على صعيد واحد ، صعيد التمجيد والمباهاة ، الناس كبـاراً وصغارا ًومن شتى الأجنــاس ينشـدّون كما تنشـدّ الفراشات للضوء ، هاهم ينشـدون طـائعين متغنين لهذا الذي يـرونه ويسهمون في صنعه بحماسهم وصراخهم وصخبهم ونشـوتهم وغرابة أطوارهم ، يلوذون بالغابات والأماكن الـرخوة البعيدة ويختلـون مع أنفسهم ومـع أقرانهم ليؤججوا ذلك الأوار العارم الذي جاءت به الإمبراطورية وحتى أولئك الحـراس القدامى وهم يجولون بحواماتهم أو مركباتهم العابرة يشـدون على أيدي أولئك الأبناء عشاق الإمبراطورية الذين يلعقون حـلاوة أيامها ويلتهمون مكاسبهم ولا يتوانون عن التعبيـر عـن أنفسهم بالشعـوذة والجمـوح والضجيج والافتعال .
وهنـاك غير بعيد عن شمـس الإمبراطورية وكـرنفالها في أمـاكن مخبأة نائية ظليلة يغمرها الدفء وتغشـاها الحـركة الـدائبة..
هنــاك .. كانـوا يتوارون عـن الأنظــار بأقنعتهم وبزاتهم الغـريبة .. ثلّة من الكائنـات الصـامتة التي تمشـي داخـلة خارجة ، طالعة هابطة بلا هوادة .. هنـاك .. كانـوا يدبـّون كالخرافة ويصنعون للإمبراطورية مصدّاتها الشوكية .. صولجانها .. وذراعها القاسية كانوا يستخلصون من خطاب الإمبراطورية وبرتوكول المستشارين حقائق مؤكدة .. ليست المصدّات الشوكية ألا إحداها .. ولذا امتدت الرحلة طويلاً بأولئك الأشخاص الصامتين القابعين في القاع .. الذين يصنعون المصدّات الشوكية ولذا كان من دلالات كل ما أدركوه أن قوة ما .. غاشمة مجهولة .. أن لم تكن هناك في مرمى البصر حاقدة عدوة .. فيجب صنعها لتجريب المصدّات الشوكية في أجساد أفرادها .. يجب أن يعلنــوا إلى الأبـد أن الإمبراطورية تملك أسرارها التـي تنتظم لها المجالات والفضاءات والبــلدان ..
ولــذا مر حشد من المشاورين الكبار ببدلاتهم السوداء وأحذيتهم اللماعة ذات الأعناق الطويلة ورؤوسهم الصلعاء …مروا مثل سحابة كحلية هبطت على الأرض القفراء على رمال الجزيرة البعيدة ..وجاءوا بأشباه السحرة الذين يرون ما يكمن في القاع من عين خفية ..عبر مهاميز ومجسمات ترتبط بكوكب الإمبراطورية أو حزمة أقمارها المسؤولة عن الوشايات والنبش في أحوال الناس عن بعد .. وبعدما ما هبط أولئك المشاورون مرت بالقرب منهم قافلة من الجمال الضالة .. وتأكـدوا أن مثــل هذه الظـواهر لا ينبغي لها أن تكون أو تستمر .. فلا حيـوانات ضالة .. ولا أحد من حقه في هذه الفلاة أن يقول أن الرمل لي .. فالـرمال ملك للطبيعة ولكلّ امرئ الحق في أن يـرتمي عليها ويغوص في أعماقها .. ولذا كانت المصدّات الشــوكية هي الأداة المناسبة لوضع كلّ شئ في نصابه .. إذ بهــذه الاسواط التي يسخر حاملوها بأنها ( سلَطَة ) منوّعة من المعادن الكوكبية تم صنع تركيبة خاصة منها تنطلق عن بعد عبر الفضاءات ومدى القارات وتستقر حيث تشاء لتفتك بذلك الرمل السائب . تبقـى كامنة فيـه دهــوراً طوالا ًفلا يقـوى من لا يرغب في الإمبراطورية إلا أن يسلم بحقّها في كـل الأشيــاء .
والمهم عند ذاك .. أن محصلة أخرى كانت تتخلق وهي ذلك الرذاذ الجميل الذي صنعته الإمبراطورية بصبــرها وكدّها .. الــرذاذ الذي يمر كسحـابة العطر على شتى البقاع..
***
ولذا صنعوا هناك سحابة صغيرة اهدوها لغلام يافع من تلك البلاد البعيدة .. جاؤا به حافيا ًجائعا ًخائفا ًدون أب ولا أم .. إذ تـاهوا كما تاهت الآلاف المؤلفة في البيداء وحفت بهم المصدّات الشـوكية وأبقتهم كما هـم أرواح طائـرة تتسـامى في الملكوت .
أما الغلام فكانت حاله نتاجاً لعبقرية جديدة .. أن يعبروا له عن ذلك الإحساس الإنساني النبيل فيهدونه غيمة عطر داخل علبة براقة جميلة ومتى اشتاق لها فتحها فلفحته بغبارها الجميل .. ولانّ أولئك الذائدين عن الطفولة الجريحة هم أكثر عطفا ورقّة حاشية فقد أرادوا تخليص الأولاد من عبث آبائهم وشجن حياتهم .. لذا وجدوا { الغلام الإمبراطوري الجديد} ضالّتهم هكذا أسموه وجدوا فيه ما يحقق الأحلام كلها ..
لذا اكثروا من حوله علب الغيوم الماطرة بالرذاذ والغبار الجميل وسط هذا وقبل أن ينغمر الغلام في تيه تلك السحابة الحالمة أقيم الكرنفال السري الذي بموجبه ستغمر غيوم الإمبراطورية المخبأة أفق الأقوام الأخرى لتضلل غمامات العطر مزيداً من الأولاد اليافعين .. كان احتفالاً صامتاً توارى فيه المشاورون والغرباء خلف واجهات زجاجية ضخمة وأختبأوا في صناديق بلورية وارتدوا واقيات وكمامّات مزودة بخراطيم حلزونية طويلة وقرون استشعار متعددة .. وكان أنصاف السحرة بملامحهم الهجينية يعدون العدة لما سيجري وسط شاشات عملاقة شكل الرمل قاعدتها فيما بدت هناك أبراج كبيرة ومراجل ومستودعات ولاحت في الآفاق طيور حديدية نفثت حمماً فظيعة وتلوت وصعدت وهبطت وخلفّت ورائها سحبا ًصغيرة مخصصة للأجيال الطالعة من رحم الإمبراطورية . سرت في دخيلة القوم إمارات السرور وخيلاء الانتصار .. وهم يرون الطيور المسحورة تفتك بتلك الأرض الصحراوية وتستبدل شمسها الساطعة وهوائها النقي بالسحاب الإمبراطوري والرذاذ المعطر.. وتغرس هنا وهناك مصدات شوكية ولوده ستبقى إلى عدة مليارات من السنين وهي تتناسل وتكثر .وفي أفق رمادي مغلق جاءت رافعات آلية بجسد ذلك الغلام العاري وبمجرد أن تعرض للموج المنضب حتى طفى على سطح هلامي سابحاً في موج هيدروجيني كاشفاً عن أعضائه كلها وراحت تنبت في خلايا الغلام مصدات شوكية معدنية صغيرة سرعان ما تتعملق وتمتلك رؤوسا كرؤوس الشياطين .. بينما كانت صناديق الغيم تنفتح على التوالي وتنطلق منها تلك السحب المعطرة .. والغلام يجري تحليله إلى عناصره بينما كان نشيد الإمبراطورية المهيب ينطلق في الفضاء الشاسع وسط نشوة الانتصار بولادة طفل الإمبراطورية الناضب الذي صار له نصب كبير وارتبط باسمه ووصفه بعشرات الآلاف من الأطفال في شتى بقاع الأرض الذين يجري رزقهم بالغيم المعطر ، وإهدائهم الصناديق البراقة ويجري تدريبهم وتهيئتهم لتقبل المصدّات الشوكية في أجسادهم الرخوة كي يكونوا رمزاً للإمبراطورية التي يحفها الحفاة والعراة والأباطرة على السواء وهم يلمحون صباحها البنفسجي وموسيقاها وعبقريتها وشراب الرفاهية الذي تسقيه للخواص من أصدقاء ارض الإمبراطوري.
***
في المدى المجهول .. كان هنالك رجل صغير وأم نحيفة يطلون عبر الفضاء الصحراوي القاحل ويحملقون في السماء البعيدة منتظرين قدوم الغلام الذي غشته غيمة الإمبراطورية وظنوا إنها مجرد سحابة صيف عابرة لكنهم وعبر المدى رأوا أفواجاً من الرجال الصغار والنساء النحفيات وهم ينتظرون أبنائهم الذين التحقوا بطفل الإمبراطورية الناضب.
2000
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
اللوحة للفنانة التشكيلية عفيفة لعيبي

وجه السحابة البيضاء THE WHITE CLOUD FACE



وجـه السحابـة البيضـاء




عبـر الممر الطـويل ، تتـوزّع الغـرف البيضـاء الصغيرة ويستسـلم الحي للـرقاد الجميل ، بـدت المـداخل مهجورة ،وغابت أصوات الصغـار ، لكنها خرجت بنشـاط لتسبـق وقت التحاقـها بالمستشفى بسـاعات ، حملت قميص التمريض الأبيض وغمرها عطـرها المفضل فأنعش فيها لـذة الحيـاة المقيمة في داخلـها ، الحياة الصغيرة المسالمة الهادئة ، تركت صوت الأم يأتيها ناعسـا بعيـدا وهي تودعها وقد غـط الباقون في قيـلولة ناعمة ، بدا هيكل المبنى بين الأشجار السـرو المتراعشة المصطفة بانتظام وكأنه مركبة فضائية وقد حطت على رؤوس الأشجـار ، وتدفقت فجأة رائحة الأريج الربيعي المنعش فارتوت نفسهـا الـرقيقة ، ولـذا تدفقت عبـر شفتيها الرقيقتين تـرنيمة قديمة عاشت معها سنينا هي مـزيج من الشعر وإيقـاع الموسيقى وعاد إلى سمعها صوت الفتاة اليـافعة التي كانتها وهي تـرفع سمـاعة الهـاتف فيأتيها النغم شجيا مبهجا ، صوته المنغم العذب ، نفسـه الرجولي الذي يذكي فيها تدفق الأنثى وتألقها ، عاد الصوت وعادت معه لمسـة الكف الخشنة المألوفة وتتابعت عبـر الممر المؤدي إلى الحدائق طرقات وقع خطاها في تنغيم متصل أمتزج مع سيرها الواثق ، بجسدها الرشيق وقامتها المتناسقة الملفتة ، ولم تكـن الانتقالة من أريـج الحدائق إلى روائح المعقمات وهواء المستشفى ألا امتدادا لشخصيتها المحلقة الحالمة ، وجدت نفسها وسط سحابة من الابتسامات والمداعبات والكلمات المشاكسة من صديقاتها ، سلسلة من الكائنات التي ترفل بالبزات البيضاء الناصعة تقطعها بين حين وآخر كتل خضراء كاملة لممرضين وممرضات وأطباء خرجوا توا من غرف العمليات أو يهمون بدخولها ، وكعادتها عندما يلوحون لها تتضرع مع نفسها ضراعة خاشعة للـرب كي ينقـذ أولئـك البشـر المستسلمين لـرقاد التخـدير بانتظـار المشـارط والسـكاكين .
***
في مفكرتها ..كانت هنالك أسماء وأرقام هواتف وعناوين إلكترونية وبريدية لأصدقاء وصديقات ,امضوا مدة التدريب في المستشفى الكبير ثم غابوا ..شعرت أنها وريثة تاريخهم ,فالأولاد انشغلوا في حروب البلاد ,,,,وغابوا في مستشفيات الميدان ,وأَُسر من أسر منهم وعاد من عاد بعد حروب طاحنة ومخاضات عسيرة….
يومها سألت عن رجل ما …شخص تختلط ملامحه بوجوه تلك الثلة الجميلة من الأصحاب وقيل لها انه ظل طويلا وهو ينشغل بإجراءات هجرة إلى بلاد مثلجة بعيدة …..وأنه ترك مهنة التمريض والمستشفيات واشتغل بتجارة العملة في السوق السوداء …لكن انكسارات رهيبة كانت تلاحق هذه السوق ومطاردات وأحكام قضائية شنيعة,ولذا قرر أن يحمل ما تبقى لديه ويلوذ مهاجراَ الى ارض ما ..وهاجر أو غاب أو… أو..لا تدري .. سوى انه هو .. كما كان رجلا اختصر عليها دروب الكلام وقلق الأنثى وتغلغل في قرارة إحساسها لكنه لم يكن مغوياً ولا لعوباً ولا صياد نساء..بل كان رجلاًوانساناً فحسب..طارده نحس الجيل وهزائم الحروب ومآسي التحولات فلم يعرف كيف يحيط بالمشهد كله ولذا دهمه النسيان .
هاجر ا خوانه واغتربوا توزعوا في بلدان عدة وأخواته تزوجن ووالديه فقدهما في قصف وحشي لملجأ مدني في البلاد …ولم يبق من السلالة إلا ّهو..كان يعزف على الكمان..قال انه كان في قرارة الحروب التي كان اسم "الكريهة" يرافقها..كان يتدرب على العزف ..وظل يغني بانسجام في حديقة الجامعة ..ويرنو لعينيها بعفوية وود..ثم غاب وغاب الكمان والكلمات وتسللت شعيرات الشيب ..وبقيت هي كما هي.
***
تقشعت السحـابة البيضاء لتـدخل في الممر الـذي تشبع بأنفاسـها وأصداء موسيقاها المفضلة ، وتلوح الصـور التي علقتها منـذ زمـن ، ثم آيات من القرآن الكريم ، وحتى وهي تستبـدل ثيـابها بالحلة البيضـاء الناصعة وتلسعها ، بـرودة الجـدران فأن ثم كلمات تأتيها غمامـة ناعمـة تحف كيانها فتـزيدها حبــا.
فجأة قرعت أجـراس الإنذار في غرفة الاستدعاء ، وتدفق النـداء عبر مكبرات الصوت وتراكض الممرضون والممرضات وتتابعت العربات ، ارتدت ملابسها سـريعا والتحقت بقسم الحالات الطارئة والمستعجلة ، وبـدأت سيارات الإسعاف تقدم كائنات مـدمّاة ومشوهة من جراء حادث مـروع وتهيأت بكـل قـواها للموقف وكان وجـودها في المكان مبعث ثـقة الجميع لأنها تحـل في اللحظة الحاسمة كمالوأنها كانت محلقة وحطت في وقت الأزمة ولهذا امتلأ ملفها بكتب التقـدير والتكريم والإطراء .. لكنها وهي تتبـع إحدى العربات والطبيب يردد أسماء المصطلحات الطبية وهي تكتب والجسـد مسجى أمامها وقد تكـور في هيئة أثـارت إحساسها العميق المتجدد بالإشفـاق ، وجـدت نفسها وهي تسحب بكف مكدودة شـديدة ، كانت كف ذلك الجسـد المسجّى وقد ارتفعت لتمسك بكفها بقـوة ، امتد شعاع ليزري غمر جسدها كله بقشعريرة شرسة ، وأحست بالهلع لأنها أستنتجت أن ذلك الجسد يعيش لحظاته الأخيرة وحاله حال من يتشبث بقشـة من اجل أن ينجو من الغرق وتجسمت في كيانها كله أصوات الاستغاثة الملتاعة ، لذا سرعان ما انحرفت بالعربة نحو الصالة القريبة وسط دهشة الطبيب والمسـاعد وراحت تخرج من الأدراج عقـاقير المعالجة السريعة وأدت كل شئ بسـرعة وثقة بينما كان الكيـان المسجى قد تلقـى التنفس الاصطناعي وراحت شاشة النبض تعلن عن استمـرار الحيـاة ثم نزول خطها البيـاني وسط قلقها هي واعدادها جرعات المرحلة التالية .
وتنقلت عينها بين صورة النبض وبين تساقط قطرات محلول الجلوكوز وبين الكف المكدودة الـدامية التي مسكت بها ووجدت نفسها مندفعة بحركة آلية نحو زجـاجة المعقم لتنظيف الوجه من البقع الدموية القانية ، ووسط الإغماء ، راحت صورة العين المغمضة تتجسم لها وكذا الحاجب والأنف الشامخ والفم ، عندها ارتجفت كفها ثم اندفعت تسرع في تنظيف الوجه ومع تتابع مكونات الوجه عـادت أليها صورة الحديقة المروية ، صوت الضحكة ، الشعر ، حركة الشفتين ، الموسيقى ، الكتاب الأول المدينة القديمة وعادت كفه الخشنة المتشنجة لتستقر على كفها فتشنج جسـدها كله وصرخت من قـرارة الماضي باسـم رجل تكتشفه بعـد أزمان ومنـذ زمـان وهي تبحث عنه لتشـاهد الخط البيـاني ينحدر سريعا وهي تمسك بالكف متشبثة ومنـاشدة وهي تنشـج بصمت .
1997


القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
اللوحة للفنانة التشكيلية العراقية عفيفة لعيبي

ترجمان الألم THE PAIN TRANSLATER




ترجمـان الألـــم




( إلى روحي ابني عمتي :علي وعبد الكريم ، الضحيتان البريئتان في عراق الثمانينيات )
..
(وجهك معـروف لـدينا .. ضـع أوراقــك.. اخبرنا بكل شئ .. أنت تعرف ونحن نعرف!)
..
في المدى عصـافير صفراء محلـقة في المدينة الحجرية العتيقة ، والعـابرون يسيرون وكأنهم يطفون على سطـوح إسفنجية ، يسيرون غير عابئين بالمدى الرمادي الذي تتابعت طبقاته الأثيرية ودكت في مـداه شوا خص لمـراكز مراقبة وعسس غـرباء ..مفتشين ..ومراقبين غرباء..
.. نـزل عند رغبـات كثيرة ، رغبـة المسؤول أن يرتحل من مدينته وملاعب صباه ، رغبة المدير ان يترك المدرسة إلى مدرسة أخرى , رغبة جاره ان يتوقف عن الصراخ في حجرته , وظل يدور في الحجرة الغبارية , هكذا اسماها (عماد ) صاحبه وزاد:انك كتلة حجرية سمراء والغبار يؤكد وجودها , وأراد ان يوضح انه وسط زحام المدينة , في اللهيب الحارق , وعندما انظم إلي كتلة بشرية , صعد الباص المحمل بالجنود والمتسولين وصغار الموظفين والغرباء المقنعين ،و عندما انظم إليهم مجبرا ًوعبر عدة جسور ومنعطفات أكتشف أنه قد سٌرق..وان أشياء عزيزة قد نهبت منه ، هويته ، بطاقة تعريفه ، هكذا ببساطة .
كان هنالك إحساس بالانقباض يسيطر عليه منذ الصباح ..وهاهو في قسم الشرطة وأمام المحقق يعلن عن سرقة هويته وأشياء اخرى في جوف الباص .
اقترب المحقق منه بعد اخذ أقواله ..وهو يعبث بالقلم الذي بيده ..
-وما لذي يثبت انك أنت ..عزيز ..سعدون..الشلال ؟
-وجودي أمامك يا سيدي ..وجهي ,وبصمة إصبعي.
-ولمَ لم تبلغ عما حل بك منذ زمن..لم َ لم تراجعنا قبل هذا؟
-المسألة يا سيدي انّ أشياء عزيزة قد نهبت مني , الناس تتكاثر في المكان , لم يكن ممكنا منع أية يد أن تتسلل وتنهب .
تطايرت أمامه من على طاولة المحقق أوراقه وبقايا طفولة متشظيّة ,طفولة فتى البراري ,عندما رحلت أمه,بحث عنها في عقله وثقل عليه ذلك الرأس المحشو بوجوده القلق .. وها هو يجوب الآفاق ..الضواحي ..بحثاً عن شهود يحضرون أمام المحقق ليثبتوا (حُسن السيرة والسلوك) ويقسمون على معرفتهم الطيبة به.
ركلته المتاهة ، فكان ماكنة حجرية زادتها الأيام مراساً وعناء ، دوي في الرأس مع الشعر والرسم ، وما صلة هذا بذاك يا أبن ال… وتحب وتكره .. ولا أوراق لك .. لا بطـاقة هوية ولا دفتر خدمة .. عيونك تائهة .. ونظراتك زائغة .. نعرفكم من نظرة عيونكم ، نقرأ فيها الشك ، نشم رائحتكم ، من أين انت يا لعنة جلجامش؟ .
دار المحقق حوله وفجأة صاحت امرأة في الشوارع المجاورة ، صيحة حلّقت معها العصافير النحاسية ودوائر الغبار وأهتز مصباح الغرفة الغبارية وتكور جسد ( عماد ) صديقي ، كان فمي مفتوحا ولحيتي كثة ، وأنا جـاث على ركبتيّ ويـدي ّإلى الخلف وثمّ نهب لا يتوقف لجسدي ، ثمّ وخزات ثمّ أصوات سمفونية لمطارق وطبول وفمي مفتوح والمرأة تصيح والعصافير النحاسية تحوم حول جسدي المسجّى ..
..
لست أعرف سبب انفجار الموقف ، فأنا بطبعي أعاني من التصاق خلقي للسان .. ربما استخدمت الصراخ بديلاً عن الكلمات ، صـراخ تطلبته مواقف معدودة في دروب الحياة ، لكنني لم أصرخ في وجـه المحقـق ، كان وجهه متعـرّقاً باستمرار وهو يوزع نظـراته بيني وبين جرة الماء والثلج والسيجارة .. قـال أنه انتظرني طويلاً وها إنني جئت أليه برجلي ، وأكـدت له أنه مجرد بلاغ عن فقدان بطاقتي ، هويتي ، تعريفي ، وهكذا وضحك عاليا .. بعدما فرغ المخفر من العائلات ولم يبق غير النـزلاء والحراس وثمّ دوي سيارات عابرة بعيدة ، شعرت أننا في كهف ، في فلاة نائية لا تمتد لها يد الله ، لا أدري ، ربما لاحت عبر النافذة المكسورة سحابة بيضاء ومرت ليتدفق بعد مرورها وهج وبريق خاطف ، نهضت ببطء وحاولت جمع الكلمات ونطقها بوضوح أكثر ، لكنه ظل يلوّح بما كتبته ، ثم راح يرغي ويحمحم والعرق يتصبب منه ، فجأة صار يضحك ويقهقه وهو جالس على كرسيه الهزاز .. حفّ بي أشخاص بسحنات محترقة وأخرى خنثيه ..
....
درت في الغــرفة الغبارية وقلت لعماد أنني سألقـي كـل شئ في المدى لتتلقفه الـــريح ، قمصاني سأطلقها للـريح وأوراقي سأنشرها لأكـون كما أريد .. أن أولد .. هكذا .. مع نفسي .. وضحك عماد وروى تفاصيل أخرى عن ( هدى ) فكرهته وطـردته من الغرفة ، هـدى كما هي في دروب الكلية تنتظرنا فتزوغ نظراتي وأتركها مع عماد بسلام .. وفي كل يوم أراهما .. وأكتب لهـدى قصــائد غــزل وعمـاد يؤكد إنها هنـاك بانتظاري ، هنـاك حيث لم يبق غير أسمها في مكان يغمره الغبـار .. بنينا معا صورة الـوطن الصغير .. في بيـوت عصافير منهوبة .. قلت له : يا سيدي هـذه صـورة أخرى لي .. حـديثة .. فخـذها واصنع لي هـوية جـديدة .. تعريفاً بطاقة جديدة .. اجمـل واحدث .. أخرج ملفـًا وراح ينتزع الأوراق مـنه وهو يصـرخ في .. ها أنت .. هذا أنت
.. هذه أقـوالك .. هـذه أفعـالك .. ..
***
قررت الخـروج .. قلت لعـماد دعني أصـرخ وهو يكتفني .. يستخـدم أقصى قواه لمنعي وإغلاق فمي ، في الليل الجهنمي الطويل حيث فرق التفتيش مستمرة بلا نهاية .. وأنا أصـرخ وعماد يشتمني ويـركلني ويجـرني من شعـر رأسـي .. هدى جاثية في الزاوية وسط الغبار .. متكورة .
***
كتلة قاتمة غامضة صامتة ، جرّني فدفعته للجـدار.. فتحت الدولاب ونثـرت ما تبقى وفتحت الحقيبة وحشـوت فيها الأشياء ، وقلت له أنت وهي وأنا في المهب فخـذها واخرج ودعني أخوض الأمر وحيداً .. تقدّمت مثل هرة جائعة ، زحفت ، وتشبّثت بيدي .. شعرت برطوبة كفها وسمعت نشيجاً مكتوما ً، نظرت طويلاً لها ، ثم فتحت فمي وقلت لها : لا يوجد شئ .. فراغ .. فراغ .. فراغ .. لا شئ .. فراغ وطوحت كفي في متاهة الغبار .. عندما كانت الديكة تصرخ .. طوّحت يدي في المتاهة وضربت المصباح بقوة .. فعمّ الظلام .
***
المفتشون أدركوا الحالة بكل أبعـــادها ، هنا وهــناك وفـوق وتحت وفي الماضي والحاضر ، قلّبوا الأمر كلّه وانتهكوا أشياء وأشياء .. كنت بعيداً وأسمع دبيب خطاهم وتحسسهم الفائق لكل ما يفتشون عنه ، أحسست أنـني أنا .. أنا الهدف ، والدبيب يسري في دمـي يتقدم بأضطراد كلّ يوم وكلّ شهر وكلّ عـام ، وسيبقون يترصدون بأجهزتهم ومكائنهم واستراقهم وإنصاتهم ، ولهذا سأخرج .. سأخرج .. مع ان هذا ليس ذلك هو اتفاقنا والتعهدات أصبحت كالـوثيقة التي علقت على جــدار الكعبة ، أكلها الدود ، نهبت حروفها ولم يبق غير أسـم الله .
***
تاهت خطى عمـاد وبقي قميص هـدى على النـافذة .. ونزلنا السلم في الليـل وبقي باب الغرفة مفتوحا ، نظرت أليه نظرة أخيرة ، كان هيكلا خشبياً مثقّبا ً،نقشت عليه أسمـاء الأولاد كلهم ، كل الذين مروا ، طلبت منهم أسمائهم وتواقيعهم على الباب فأكتظ من الداخل بأجيال الأولاد الذين مـرّوا ، عـدت إلى البـاب وركلته بعنف ، أنـزلت رغبـتي في محوهم واحداً وحدا ً، نزلت السلم سريعاً لتستقبلني ظلال هدى وعماد ، ظلان طويلان ممدودان ، شعرت بثقل الليل ، ولم أجد في نفسي تبريراً ولا قبولاً لهذا النوم ، إذ كانت المدينة ببيوتها الحجرية لا تعرف ليونة النوم ولا أحلامه الرقيقة وكذا أناسها الذين سيصحون في الصباح وكأنهم لم يناموا .. مثلي حيث حلت اللعنة على غرفة الغبار ، وخلفت ليال مليئة بالسخرية واللوم والجـدل..
. اندفعت نحو ميدان التماثيل ، حيث تتابعت وجوه الحكّام والقادة والثوار في ذلك المدى الصامت ، قامات حجرية لّفتها العتمة فبدى الرجال الصيد تائهين في تلك الساحة ، خارجين من التواريخ والأمجاد والصولجان ، هكذا ، ينظرون في الفراغ المعتم العميق للمدينة المستباحة حيث تتجسم إلى أزقة وبيوت فخمة وأخرى آيلة للسقوط بينما تلـوح من حولهم كاميرات المراقبة واسـوار الإنذار المبكر ، وتتلا مع تحت أقدامهم سلاسل الذهب التي تسوّر كلاً منهم ، جلست على الحقيبة ريثما أتممت سيجارتي وتحسست لساني فلم أشعر بوجوده .. انتابتني رعدة مباغتة ، نهضت مذعورا ًفتعثرت بإحدى السلاسل فصرخت الصافرات وشعرت بالـرجال الأشاوس يشيرون لي بأصابعهم ، لا أدري كيف وصلت إلى غابة المدينة والعـرق يتصبب مني والحقيبـة قد تفككت عـراها وأنا لا أكاد أقـوى على الـوقوف …
صرخة الديك في رأسي وكذا العصافير الصفراء وسط العاصفة والريح ، عصافير تائهة .. والناس تحتمي وتلوذ .. وأنا اجر حقيبتي والتراب يغمر شوارع المدينة ، بقينا طيلة ساعات الصباح ونحن لانكاد نرى للمدينة وجها فثم سيارات قليلة ، المفتشون ينادون زملائهم في مواقع أخرى ويصفون أوضاع السير وحركة الناس .. كنت ارقب قطة المقهى وهي تلوذ هي الأخرى معي في تلك الحجرة الملوثة بالدخان ولطخات الدهان ..ظل العـامل يرمقني بنظـرات متسائلة وأنا أقلب الأوراق وأعيد صفها ، وأنا أربط الحقيبة المفككة ، كنت منهمكا والريح تصفر والصفيح يتساقط . عندما وجدت العامل بالقرب مني يضع كفيه حـول وسطه .خرجت عنـدما هدأت المأساة .. وجاءت الشمس محملة باللهب .
***
تـدافعت في الـرأس بقـايا صفير العـاصفة وصـوت صافـرة الإنذار وسيل الأغاني ..
(يا ..يا ..يا ..ديـرة هلـي )
توزعت أمامي فصول المحــاولة ، أكيد أن هــدى وعمـاد في الحـديقة يتداولون الأمر ، ويصلون إلى حصيلة عني والمشروع الكبير يفجر فيهم عشرات الآمال فيشتمونني .. أكيد بقيت في دولابي كتل ورقية ملأناها ، كانت إرادة غريبة ، خاطب عماد مراكز معلومات وأبحاث وأدخلنا في متاهة الشبكات الحاسوبية ليعزز بناء ذلك المجد .. وكنت حينها اشتمه بالشعر ، أهجوه ، وهدى تضحك منه وهـو ينحت بكدّ تلك الفكـرة المجنونة التي عصفت به ، وقفت علـى الطـاولة وأديت دوري كــاملاً ، أثبت تلك الخيـانة .. خيـانة .. في كل مرة ثمة خيانة وخونة أتفهمون ذلك..؟ عجيبة ، كان عماد يرقص فرحا وهو يقول : وجدتها .. وجدتها .. ويدور من حولي وسط ضجة أشعار السياب وعبد الأمير الحصيري وحسين مردان ....
في دروب الكرخ القديمة بحثت عن هدى .. وأردت أن انظر في عينيها لآخر مرة .. لم يبق لبيتنا القديم من أثر بعدما جرى ماجرى .. لا أدري من الذي سوّره بهذا السور العالي الرهيب ، ومتى ،المهم أنه الآن وجود اسمي ، وجـود تحمله ذاكرتي حيث تتجسم النوافذ العتيقة وفضاءات ( الحوش) وأبراج الحمام والنوافذ على السطوح ، سرت في غيهب غريب من أسجية فولاذية وشوارع مقفرة انكمشت الدنيا يا رجل .. ولكن وسط كآبة المكان لاح دجلة العتيق هادئا محزونا .. وبث في الفضاء نسمة رطبة افتقدتها طويلا ، دلفت عبر دهليز طويل تحفّه حجارة عتيقة مصفوفة بانتظام ورميت نافذة هدى بالحصى وخرجنا . بعد طول جدل نظرت في عينيها طويلا ففهمت .
ثم راحت تسرح بنظراتها في أفق المدينة فجأة استــدارت وعينيها غارقتين بالدموع .. أمسكت بي بما أوتيت من قوة .. تشبثت كالغـريق ، ضـربتني على صدري ثم ارتمت باكية ، ثم انصرفت سريعا وفي يدها آخر أوراقي التي أردت أن تكون بين يديها ويدي عماد .
رأيت صورتها في ملفي وقال المحقق : أليست هي ؟ لم أكن أشعــر ألا بخفة روحي … غاب الجوع وبقيت ( هندسة الألم ) ، كيف شربت الألم من اللثة إلى الأذن ومن اسفل الرأس إلى نهاية العامود الفقري ومن أصابعي إلى الصدر والبطن خارطة الألم كانت متكاملة تتوزع عليها قارات جسدي، تداعى سائر جسدي بالسهر والحمى بعدما اشتكت الأغلبية من الاجتياح.
أدركت تلك المعادلة وقدمتها لعماد ، وحار فيها في البدء ثم جسمها واقعيا ،تكوين هولوغرافي ينطلق فيه التيــار سريعا ، شعــاع ليزري تتدافع فيـه الشحنة في موج عاصف ، كانت روحي خفيفة ونفسي مطمئنة لتلك الحملة المخلصة التي شنوها لصنع الألم في جسدي .. تأكدت أنني لا أشعر بوجود المعدة ولا الجوع ولا العطش ويتناءى وجود أعضائي الأخرى في مسار الألم الطويل كانت هندسة الألم كوكباً نارياً ذو قلب أحمر تحف به هالة صفراء وزرقاء وتمتد أشعة حارة كالنصال إلى الجسد ومن حوله .
كان كوكب الألم يجتاح جسدي جزءاً فجزءاً ، يقيم فيها ، وتتكور النوى الألمية الصغيرة لترحل في العروق ، تشق مساراً كاوياً في دروب المجهول الإنساني . حطت كرة الألم على كراسي التحقيق والحبال والفوضى والركل والتعليق والشد والكي .. فهل بقي شيء من روحك الطائرة لتحط قرب عماد وقرب هدى فتشرب كأس الألم عنهما؟ ..قال أحدهم : انهم بجوارك ..في زنزانة اخرى يشربون ما تشرب.
***
افعلها ولتنزل سحابة الألم , لتفرغ هالة الألم أشعتها النارية .انزلي يا نار جلجامش يا ألم الخليقة ..انزلي يا سطوة الصولجان .. انزلي مرة واحدة .. انزلي يا اسطوانة العذاب كتلة نار وحشية .. اخترقي الأجساد .. انزلي وافتكي بهم .. تدفقي يا نـار جلجامش خيمة من شظـايا ..
انشري عذابك ولنعلن ترجمان الألم مرة واحدة …
***
يا عزيز سعدون الشلال .. قال المحقق أنهما ألان دونك يفتك بهم العذاب .. وملفك بين يديك فأخرج به إلى الفضـاء أحمل حقيبتك سريعا أيها المجنون .. اخرج بلا عماد وبلا هدى .. أتركهما واخرج ..
***
في غرفة الغبار بقي الرجل قرب ملفه ، يقلب فصول النظرية التي ألفها الآخرون عنه .أقواله في الخونة... خواطر عنه في لياليه وأيامه .. حقائق عن تكوينه وقدرته على تحمل الألم .. حقائق وقرارات تقول أنه منـزوع الهوية حتى إشعار آخر .. انهم تـركوه هكذا في غـرفة الغبار ، قدموا هـدى وعماد قرباناً وأطلقوه هكذا لا في ليـل ولا نهـار .. هكذا كبندول ضخم يطـرق كـرة العالم فينطلق الصراخ بلانهاية……

القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

المحاكمة THE COURT


المحــاكمة

نسي أسمه أمام المحكمة ، وربما دار في خلده أن يطرح هذا السؤال أمام الحاضرين فيعرفون أسمه ويجربون قوة معلوماتهم من جهة و يخرجونه من مأزقه من جهـة أخرى ، لكنه وهو يرى تنمر الجالسين والمحيطين وعيونهم الجاحظة ونظراتهم العدوانية وعدم اكتراثهم ، حتى أحس انه لطخة حبر على الجدار ،ولــذا أنتبذ لنفسه مكاناً منزوياً وأطرق وراح يفكر في أمره : تذكر أن آخر مرة قرأ فيها اسمه هي عندما أحيل على المعاش ، أجل يذكر ذلك جيدا ، وقد أحيل علناً وأمام الجميع ولذا سمع أسمه عبر طوابق المبنى كلـها إذ أعلنته الإذاعة الـداخلية : تقرر إحالة السيد الذي يحمل الرقم (……… ) على المعاش ، ومرة أخرى قرأ الإعلان بطريقة أخرى : نظراً لإكمال (الموما إليه) سنوات الخدمه المقررة في القانون تقرر أحالتـه .. ومرة أخرى ومرة أخرى : نظرا ً
لقرارات مجلس الإدارة الأخيرة تقرر إحالة المرموز له برمز الحاسوب (أ. ب. سوفت ) إلى …… ومرة أخرى وأخرى، ووجد الرموز نفسها وغيرها في قائمة الكهرباء وفاتورة الماء والتلفون ولائحة المرتب الشهري ، وفي كل مرة كانت القائمة تحمل رموزاً دالة على اسمه لا يمكن التعرف عليها إلا بتلقين ألحوا سيب تلك الرموز فيحيلونك إلى ملفه وتاريخه ، ووجد نفسه يفتش في الأوراق القديمة عن الوثائق التي كانت تستخـدم اسمه الصريح فـوجد تنويهات باسمه برموز خاصة سرية تسهّـل أمر التعرف عليه ، فمثلا كان أسمه مكوناً من عشرة حروف في إحدى الوثائق وتأكد من الدليل الخاص الذي لا يحمل عنواناً ولا أسم مؤلف ، أن تلك الحروف تنقسم إلى وظـائف فالحرف الأول يدل على اسمه والثاني أسم أبيه والثـالث أسم العائلة والـرابع ثقــافته والخـامس ميــوله والســادس ماضيه والسابع رصيده والثامن .. والتاسع …… و…… .
ولذا انطمست الأشياء وتداخلت الرموز أمامه وصار أكثــر عطشاً لجلسة أمام الحاسوب ليلقنه كل هذه الــرموز وليكتشف ماذا كانوا يكتبون عنه .
كان يحسب طيلة حياته أنه هكذا ، رقـم محايد ، لا مشكلة عنـده ، لا شكوى لديه ، لا ثرثرة لا ميل يميناً ولا ميل شمالاً ، مستقيم ينام في الوقت المقرر ويصحو قبل الوقت المقرر بساعتين تحسباً للظروف ، لا يمر أبداً من موقع فيه علامة ممنوع الوقوف أو ممنوع المرور ومع أن تلك الممنوعات هي خاصة بالسيارات ، لكنّه كان يفسر الأمر تفسيرا صائباً عندما يسائل نفسه إذا كان المنع للسيارة فمن الذي يقود السيارة ، أليس شخصا ؟
فأذن المنع هو للشخص وليس للسيارة ، ويجب أن تفهم ، كما أنه لم يكن يعاني من مشكلة بخصوص الخضار ولوازم وجبته اليومية ، فهو لا يشتري أبدا ًمن نوع الخضار الذي تكتب عنه الصحف وتعلن الإذاعة عن أية مشكلة بصدده وتجري لقاءات مع الفلاحين وربات البيوت والنقابات حول أسباب الشحة مثلاً وارتفاع السعر ، لأنه يذكر دائماً أن تلك الشحة مادامت قد دخلت في الأخذ والرد والقيل والقال فستحصل من ورائها بلاوي وهو لا يريد أن يخزن أسمه في الحاسب بأنّه تكلم عن شحة البطاطا أو البصل أو الباذنجان فيقال أنه ينبش عن السيئات ويغمض العين عن الحسنات ، وهو رجل يملك سجلاً حافلاً من النكات والقفشات وكلما سنحت الفرصة في جلسة أو لقاء عابر مع زميل في العمل فانه يلقي إحداها ويترك الشخص يتلوى في الضحك ويغيب هو ، فهو مواطن سعيد هذا هو المؤشّر عليه ، والسعادة مترجمة عنده إلى نكات لا تنتهي حتى أنه كان ينصت للنكات التي تلقى هنا وهناك ويدونها في سجل خاص ويبقى يستظهرها .
وعندما يسأله أي صديق عن أحواله كان يردد : كلّ شئ جميل ، كل شئ لطيف ، كل شئ مناسب أما حرّ الصيف اللاهب وسط الزحام وقلة المواصلات فكان يفسر على أنه اختبار لكفاءة الإنسان على الصبر أي أنها ممارسة وتدريب على الصبر ، و( الطابور ) مثلاً كان دليلاً على أنّ كلّ شئ في هذه الدنيا إلى زوال وان الحــكمة تقتضي أن يتنبه الناس أن كلاً منهم آخــذ دوره في ( الطــابور ) ومصيره إلى النهاية بحسب الأسبقية ، وأما إحالته على المعــاش فهي أيضا اختبــار مقصود له .
فأن أنزوى في منزله وحيداً مكسور الجناح لا يستطيع سد قوت يومه فأنّ هذا دليل على أنه رجل مصلحي غير مقتنع بأن مصلحة المؤسسة تقتضي خروجه وأنّ دوره يبدأ الآن في توعية الآخرين في المقاهي بأهمية وعمق فلسفة الإحــالة على المعاش وأبعــادها الخاصة ، فهو عندما سيتكلم عن تلك المزايا فسيسمع حديثه شبـاب وفتية في أول سلم الوظيفة وشق طريقهم في الحياة فيحسبون من ذلك الوقت حساباً للمعاش وأنه آت لا محالة مثل الموت تمــاماً فعليهم التهيؤ له من الآن والتحلي بالصبـر واستقبال الأمر بفرح غامر.
حاول (أي ، بي . سوفت ) أن يفسر بعض الأشياء المتعلقة بكثرة مراجعاته للدوائر والمؤسسات الرسمية وكثرة الأوراق والإمضاءات وساعات الانتظــار لإنجاز أوراق المعاش ، فوجد أن روعة ذلك تكمن في ( الخبرة ) أجل ، أن الغاية من كل ذلك هي أن تتراكم عند المواطن الخبرة في كيفية أداء مؤسسات الحكومة والمراحل التي تمر بها إجراءاتها فلا يبقى المواطن مجرد اسم أو رقم بلا وعي بل يصبح جزءاً من حركة الحكومة ومؤسساتها وعندما يسمع مغالطات أو أخطاء من قبل بعض المغرضين والأعداء فمطلوب منه ان يصحح ما سمع وا لا لماذا صرفت عليه الدولة ثمن الورق وأجور الموظفين وحبر الإمضاءات وفواتير الماء والكهرباء التي تصرف للمؤسسات
وكان الرجل – والحق يقال - على قلة مرتبه لا يقصر في واجب ، فهو يحضر كلّ عزاء وكلّّ عرس وكلّ حفل ، ما أن يسمع بمناسبة أو حدث ما يمس زميلاً في المؤسسة بطوابقها الثلاثة عشر حتى يهب مسارعاً لأداء الواجب ولذا عرف عنه هذا التتبع اليومي لحوادث الناس وحضوره لأفراحهم وأتراحهم ، بدلة سوداء للمآسي وبدلة بيضاء للأفراح .
وفضلا عن ذلك فهو لا يتوانى عن نشر البرقيات ذات المساحات المحدودة والكلمات القليلة المعبرة في الجريدة ، وهاهو يقرأ فجأة عن ترقية كبيرة لزميله وصديق عمره الذي نشأ معه في حارة واحدة ، لعبا معاً وأكلا معاً ودخلا في مدرسة واحدة وفصل واحد معا ً، هاهو يقرأ خبر ترقيته الكبيرة مزهواً، فلا يتمالك نفسه ألا المسارعة للجريدة الأكثر انتشاراً ليكتب برقية تهنئة لذلك الزميل الذي تقلد موقعاً رفيعا ًوحساساً في الحكومة وعندما طلب منه مندوب الإعلانات ذكر أسمه وعنوان سكنه تحير ,اكتشف لأول مرة أنه لا يحفظ إلا(الكود) ، ولأنه على قناعة بان زميله المتمرس في العمل الوظيفي على علم بخلفيات الأمور ويعلم بصيغة تجريد الموظف من أسمه ومكانه والمعلومات الكاملة عنه واستبدالها بالأرقام أو الرموز أو كليهما معاً ، لهذا راح يدبّج البرقية بكل ثقة وحماس قائلاً :

" سعـادة الأستاذ الكبير والـرجل الهمام فلان الفـلاني .. لا يسعـني وأنتم تتقلدون موقعكم الرفيع إلا أن ……………………………..……… "
التوقيـع صـديقك وأبـن حـارتك
( أي . بي . سوفت )
أو ( الموما أليه )
أو الموظف المحال على المعاش الذي يحمل الرقم (………)

وعندما قرأ الرجل المهم تلك البرقية الساخرة ، وصاحبه القديم قد نشر صورته وهو يضحك إلى جانبها استشاط غضباً وفسر تلك الصورة الضاحكة بأنها سخرية مؤكد ومقصودة منه وكأنه كان يقول : هل نسيت أيام الحارة وبنطلونك المرقع وحذائك المثقوب وهل نسيت إدمانك السرقة وأبسطها وأنت تسرق الثمار من حديقة الجيران عند الظهيرة وأنت تأكل كل يوم علقه ولا تتوب ، وهل نسيت كذبك ونفاقك وانتهازيتك المبكرة ؟ وهل نسيت شكوى أبيك منك ؟ وهل نسيت فشلك المزمن في الدراسة وتفوقي عليك ؟ وهل نسيت.. وهل نسيت .. وها أنا محال على المعاش راغماً وأنت ما شاء الله …
وها هو الرجل … ودليل اتهامه بين يديه أمام المحكمة ، لأنه مسّ شخصية حكومية بالقدح والسخرية ، ومطلوب منه الآن أن ينطق ويعرف بنفسه ومازالت المحكمة تنتظر … وهو يردد أنا أي . بي سوفت .
1997
ا
لقصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

ميدان القرن THE CENTURY SQUARE


ميدان القرن

العودة
عاد إلى الحياة ..حياة الألوان ..ولوحات الغاب والمدن ..والناس ..غاب زمنا ..وعاد متوجا بالذكريات ..هو رجل التكوين وجماليات الخط والملمس بلا منازع ..مر بالتكعيبيين والواقعيين وخرج بالحروفيات وكان حرف( الصاد ) عنوانه ومثار تجليات أفكاره ’كان لذلك الحرف سحره الخاص ..وكذا اشتق علاقات لونية وتعبيرية للحرف ..كلنا نتحد بالحرف ..ولكل منا لون روحي قابل للاشتقاق ..هكذا كان يردد بعدما شاخ وبعدما انقطع عن الحياة ..وغاب في نزعة اختطاف صادرت لوحاته وحر وفياته ..وحفرياته على بورتريه (منصور) شخصيته الأثيرة ..هو والمرأة ذات الشال .
منصور

كانت المرحلة التعبيرية عنده مربكة في زمن غير الزمن والناس غير الناس ..المدينة غارقة في الصمت ’ في فجر شتائي بعيد ’وهو هناك يتأمل تلك الرحلة المجهولة التي قرر خوضها إلى آخرها ..أبواب غاليري الفنون مغلقة منذ مدة بسبب ظروف حظر التجوال ..وهو يقيم على مقربة من المكان..حائر ..قلق روحه لائبة ..اخترق حاجز الفجر ’وغبش المجهول ..وأطل عبر نافذة مضببة إلى الأزمة والدروب الساكنة ..تتابعت صور الآخرين في ذاكرته وهو يجمع المراحل كلها في لوحاته ..فقراء وعابري سبيل وظل وجه الحاج منصور يلاحقه رغم كثرة البورتريهات التي رسمها ..وظل يؤكد في معارضه أنّ بورتريه الحاج منصور ليس للبيع والشراء ..رسمه بتنويعات شتى ’تداخلت في تكوين لوحاته آثار عصر النهضة والمدارس المعاصرة واندمج عنده بالتواريخ وتمثلت في أعماله ملامح سومرية وبابلية وآشورية وبدوية.
إشراق
مرت في الطريق المغسول بالمطر والرذاذ سيارات الدوريات الحكومية ورجالها المخلصين وهم يضيؤون الأركان المعتمة بمصابيح ضخمة للتأكد من أن كل شيء على ما يرام.
عادت إلى وعيه لوحة غويا والسلاح موجه لحشد الفقراء وتأمل طويلا صمته ومكابداته ..تسلل بصمت حاملا لوحاته ..
كانت المرأة في أعماله كائن اكثر إشراقا ..واكبر من حدود الجسد ..ورغم لمسته السحرية في تتبع لمسات الأنثى إلا انه أبى دائما أن يجسدها إلا وهي محاطة بنور ..وتحتل مساحة اكبر من اللوحة.
سار بخطى ثابتة عبر الطريق الحجري فيما كانت الشعارات تنتشر على الجدران ..اليسار واليمين..والوسط والائتلاف والتأصيل .
ميدان القرن
تسلل عبر دروب وممرات متعرجة و أدرك ميدان القرن ..ليجد شاشات تنقل خطبا وتعليقات وبيانات ..شاشات في ميدان مقفر تمتد مساحاته وإضاءاته لتغمر المكان بالأمان ..تسلل إلى نفسه شيء من الدفء والتوازن ومد لوحاته وأطوارها ..مدها طويلا طويلا على امتداد ميدان القرن في ظل حضر التجوال ’وكانت في لوحتها تبدو مترفة بفستانها البيض وحيائها النبيل ’ والشال الذي غطت به شعرها ..كانت ملهمته وتتابعت بورتريهات الحاج منصور بينما الخطابات تعلو والأناشيد تتصاعد وهو متوحد ..يطلق ألوانا طيفية في ليل الوطن الثقيل ..عادت إلى ذهنه صور الحروب والثورات واندفاع الحشود الهادرة ..وراح يوزع لوحاته على جدران غطتها الشعارات والصور..
وبدا له ذلك الريف الوديع المسالم اكثر إشراقا في لوحاته ..هناك كان الحاج منصور ..عندما عادت صورة فيلم الأرض وشاهد العم أبو سويلم يتحد بصورة الحاج منصور وهو ينتصب شاخصا كنخيل البلاد الجريحة ..جسّده مرارا ..وكذلك كانت صورتها.
المقنعون
كانت صورة الحاج منصور قد دخلت دائرة المتابعات الخاصة ..ولوحق ولوحقت ذريته واصحابه ومحبيه ..إذ جاب المكان فتية مقنعون وسرعان ما توارى في سياراتهم أولاد ورجال وغابوا تماما وانطمس تاريخهم ولم يكن الحاج منصور إلا رجلا يرتدي ثوبا كالكفن ويعلن انه مستعد ..فقد قال كلمته مع حظر التجوال ..وغاب تماما وبقيت أشعاره وحكاياته ورؤاه في صدور الناس.

سيدي ..أيها الراحل الجليل ..هكذا ردد الرسام ..وهو يتتبع سيرة الحاج واصحابه ..استذكر (أيامنا..ذاكرتنا ..أحلامنا..فكرنا) وكل دفاتر الفكر التي طافت مدوية في مديات الدنيا والناس ..منقوش أنت في مآقي العيون وفي سويداء القلوب.."..أن يتغير سلوك الإنسان يجب أن يتغير مفهوم اللذة والمنفعة عنده."
صاد الكلام
صاد الكلام ..سحر التو’اريخ ..كان ذلك الحرف يلاحقه وينثال في ذاكرته في مثل صدى وصرخات ’كان يتمثل في هيئات وتشكلات صهرت تواريخ شتى كان الصاد يحيط باللون والفكرة ..كان يمتلك شفافية عجيبة ’ وقد عرض فكرته في تمثل تجليات الصاد في اكثر من ندوة وملتقى ..وقيل لأنه الحرف الأول من اسمه (صادق)..أو الحرف الأول من ملاذه ’فتاته وسيدة الرحلة..(صدى)أو وليدته (صحراء)أو نجله(صافي)وظل حرف الصاد يحف به في الزمن والتاريخ لكنه كان يقترب من صاد الصوفية في الإبداع ’تلك الدوال الأثيرة التي ارتبطت ( بالميم ) و(العين) و(السين) .تلك التي شكلت مدار الفكرة ومؤداها وإطارها المعرفي.
فوهرر
شاهد تلك الصورة بدا الإنزال الجوي في ساحة القرن ..واستشاطت القوات وهي تشهد عشرات اللوحات العملاقة التي ملأت المكان والتي لا يعرف متى علقت وكيف تسلل صاحبها وراح الفنان يدور في مدى ساحة القرن ..فيما كانت صورة الفوهرر والرايخ الرابع هناك هناك تكرر المأساة..الموسيقى العسكرية تتصاعد وأصوات التعبئة في كل مكان .
كانت صورة الفوهرر قد ضاعت وسط لوحاته ..وبسبب جهل القوات فقد بدءوا بتمزيق صورة الفوهرر واحرقوها ..تتآكل الصورة ولم تبق إلا العينان والشنب الصغير
أما هو فقد كان هناك مطوقا بالقوات وبينما هو في العتمة ’كان بورتريه الحاج منصور في ساحة القرن وقد طارت به بالونات ضخمة إلى الأعالي وكانت القوات بحاجة إلى مزيد من التكنولوجيا للإمساك بها ..لكنها كانت هناك في الأفق البعيد تجوب المدن السجينة والأرياف الحزينة.
# فبراير2002
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

Sunday, August 26, 2007

هو الذي رأي HE IS WHO SAW



هــو الـذي رأى


الشقـوق .. الشقـوق .. عبـرها يتكـون العـالم .. سيـاج طويل يحيط العـالم .. احتواء غير محـدد .. ومبـرر ومشروع وحتمي ، لا سبيل لولوج ذلك المـدى المسفوح الذي تتوزع فيه الأشيـاء والكـائنات .. المـدى الـذي تتداخل فيه الأصداء . تـرى من أيـن يبدأ و إلى أين ينتهي ذلك التتـابع المبهـم ؟تساءل صامتا..تتناهبه كآبة مريرة ..غابت صور الأمس ..بقايا كلية العلوم وقسم الفيزياء ..أبحاثه وماضيه ..المعادلات التي تسعى للإحاطة بالموجود والسـائد، الرموز والأرقام تنـوب عن ذلك العالم المشوش القـريب ، أما تلك الدنيا المترعة الفذة ، ذلك التنـاغم الفـذ في قوانين هـذا الكوكب الذي يتحرك فيه من مدى إلى مـدى ومن بـدء إلى انتهاء ومن فكرة إلى حقيقة ومن فـرضيات إلى مفاهيم تستحق عناءً وكـدّا .. كم يطيب لك أن تكتوي بذلك الوهج والأسئلة تترى والمعادلات لاتنتهي .. اكتشاف .. اكتشاف .. قوة x ذراعها = مقاومة x ذراعها ، خطوط التعجيل إذا تحركت القوة (س) إلى النقطة (ص) ستواجه مقاومة . استخرج معادلة القوة الدافعة والقوه الطاردة المركزية والتعجيل المركزي ، القوة تغيـر أو تحاول أن تغــير حـركة الجسم المتحـرك السـاكن وتسكـن المتحـرك ..تشكلت على مربعات السياج قوانين الكم و نسـبية أنشتاين - محصلات القوى ، الحركة الخطية ، على كل مـربع من حـائط البيت الداخلي حيث تحتشد قوانين الفيزياء .. ومحاولة أيجاد الصلة بالعالم المحيط وقوانين الفصل والتواصل .
. الأم منشغلة في القـدور الفـوارة وتذوق الملح وتقـدير كمية صلصة الطماطم وخلط اللحم بالباميا ، وأشياء أخرى لا تخضع لقوانين الفيزياء .. وهـو ينثر معـادلاته مع الصباح البـاكر .. أوراقه ، كتبه الضخمة تشكل نصف الدائرة ، التشكيل المتوازي ، تشكيلات هنـدسية أخرى تـوضح كل شـئ .. وهنالك الحبـال التي تحمل أثقالا مختلفة والميـزان الحسـاس .
أثـاث مكتمل وحياة متصلة تـؤكدها الفـأرة المحبوسة في الزجاجة لأغراض الدراسة مع بـدء الجوع والخـور الذي ستعانيه وفقـدانها الـوزن النوعي وتأثير ذلك على الحجوم المجاورة وما يسببه مـن اختـلال .. يجري تثبيته أول بأول على مـربعات الجدار وبالنسبة له كـان هنالك حوار ما .. يجـري بينه وبين عيني الفـأرة التي بـدت ساكنه بعدما استنفدت محاولاتها في الفكاك من الأسر الطويل.. بـدأت ضجة الشـارع بعد اكتمال صنع أقراص الخبز ، تركت ألأم أمامه قرصا سـاخنا وخيارة مملحة وليمونه .. بدأت الضجة بناقلات ضخمة مرقت فجأة رافقها قـرع طبـول وصافرات شـرطة المرور وصوت المعلق ، أنحسر الموكب وعـاد الهـدوء مع بدء مـؤشرات لتبـدل الوزن النوعي على الميزان الحساس مسح نظارته ذات الإطار الفضي اللماع ، حك لحيته سمع صرخة ما ، أطل عبر الشق وعبر السياج ، كان هناك رجل طويل القامة مفتول العضل يصفع صبياً بلا رحمة ويصرخ عاليا وسرعان ما تأتيه عصا غليظة تفجر الـدم فـواراً من الـرأس .. أحتشد الآخرون يؤدّون واجبهم كما يجب .. ينتهي المشهد .. تعود الحركة ..
قسّـم هو عمره على خمس وعشرين بـلاطة على الأرض وجعل كلاّ منها جـزءاً من العملية الحسـابية لاستخراج نسبـة التعجيل والدفع الـذاتي ، حشـد من النسـاء ضاحكات للـرجل المفتول العضل ، غمزات وغنج ودلال ، يتوقف حشـد السيارات الطويل عند بوابة المدينة والناس تـدفع عربة ضخمة معطلة وصفير وأبواق ، عربة صغيرة تحمل كيس دقيق وأكيـاس أخرى من الـرز والسكـر والشـاي والـرجل يدفعها وتقطع الشارع والشرطي يطلق صافرته ،كان هنالك فوج من الأشخاص قصيري القامة يدفعون عربات محملة بمواد التموين ..سيرة شهرية لعصر جمع القوت حيث الحصار أطبق على البلاد كلها ..وصار الناس يأكلون لقماً محسوبة بحسب الميثاق الاممي والقرارات ذات الصلة ..وهاهي البوابة تشهد مرور الرجال قصيري القامة ..بوابة يسهر عليها رجال قرويون ذوي ملامح عابسة يحملون أسلحة أوتوماتيكية وهراوات وأجهزة لاسلكي ولديهم تفويضاً مطلقاً للذود عن البوابة التي لم يبق منها إلا الحجرة والحاجز الحديدي وبقايا الشعارات وعلامات ممنوع المرور ..و(قف للتفتيش) , هناك من يسارع لـزجر رجل قصير وأخراجه مـن الطـريق وينشب الشجـار وينتشـر الدقيـق ، دقيـق أبيض على إسفلت أسـود = تركيب الألوان القياسي النسبي ، مـوجات كهرومغناطيسية بأطـوال موجيّة متباينة 7800 انكستروم فما دون ، ألـوان طيفية أخـرى ( اللون هو صفة الضوء التي تعتمد على تـردد الموجه الكهرومغناطيسية ) دقيـق أبيض على مسـاحة الانتشـار الإسفلتية ، أبيض على أسود ، كم النسـبة الموجيّة بين اللـونين بحسب معادلة مكسو يل؟
، نزلت الهراوة بشدة وتساقطت قطرات الـدم : أحمر + أسود + أبيض ، الأرضية السوداء للوحة أكثر فتنة وتأثـيرا وخليـط من دقيق القمح والـدم ، كـوّن معادلة جديدة للّون والطيف ، تحديد نوع اللون ودرجته ، إشباعه وسطوعه ، مرت الأطياف الحزميّة البـراقة عبر جهاز المطياف وعلى أرضية سوداء .
قسـم الفيزياء الذي في عمـق الكلية ، الناس تخرج ، السيارات تنطلق ، الطلبة يـذرعون المسافات لبلوغ السياج ، قاسوها بالأمتـار وأحصوا عدد البلاطات ممزوجة بالضحكات والثرثرة ، لاح أمام الحشد ، ولاحت هي أمامه كما هي دومـا ، فاتنة ، بابتسـامة حالمة ، عالمان مختلفان ، انك تدمن ذلك البزوغ اليومي لها هذا الذي يترك في داخلك تفاعلات شتـى . أن تمعن في التوازي معها ، توازي الحركة وتوازي التفكير أنت تتفـوق وهي تجاري فعلك فإلى أية محصلة تتحرك الأشياء وأنتما تكرسان معادلة ما لعشق قاس يحتاج حلها إلى وسـائل عـدة كي تتحقق نتائجها بشكـل صحيح .. بحاجة إلى عوامل مساعدة واستحداث قوانين ، قد يكون قال لها ذلك ، التوازي إلى مالا نهاية لا يحقق التحاما حقيقيا يغير في الموازين ويسهم في تألق الثوابت ، ظل هو يحدد القوانين على الورق وهي تنظر له وهو يذهب بعيدا عبر الممرات وكتل الزرع ، هي تعبث بسلسلة المفاتيح الذهبية وذلك أمر مزعج ومشوش بالنسبة له يحاول أن يوضح ان سلسلة المفاتيح تشتت الفكرة ، فجأة صرخت هي وهو يـدافع عن الفكرة وهو يندفع مشيرا إلى هباء وفوضى تعم الكون حروب ..إرهاب،.
كان هنالك حشد عبر زجاج القاعات الدراسية يرمق ما يجري وهي تسخر وهو يوضح الفكرة بحماس وصوت عال وهي تسخر وتضحك وهو يرمي أوراقه في الهواء ، ، صفعة على وجهها تدوي عبر الـقاعات والممرات والأفق وتقفل الأبواب وهـو يلفـظ خلف سيـاج طويل .. طويل .. طويل ..اجل ..لقد عوقب لأنه صفعها ..وقال في المجلس التأديبي انه صفعها لأنها كانت تضحك بسخرية ولم تدرك تصوره عن حقيقة العالم..
كان ينظر عبر السياج… رجل البوابة الضخم يتلفت يمينا وشمالا ، ويهرع نحو غرفة الصفيح ، ويختفي ، تـدخل امرأة مذعورة ، تتلفت ،تتبّعها عبر السياج . كان هنالك احتقان وألم وبكاء ، وتشتت طويل ، ثقيل ، صفعات يسمعها فيدور ، يدور لا سبيل للخروج ، ، ، كبلوا يديه بالقيد ، ، ، تضطرب أمامه صور الناس وتتداخل ، الرجل منفرد بالمرأة الأنثى المترعة الفذة .. الرمز الأزلي للوجود المتخلق اليومي ، المتجدد ، يحاول اللحاق بها دون جدوى..
سارت العجلات مرارا على لوحة الدقيق والدم والإسفلت وتلطخت الأقدام بالألوان البيضاء والحمراء . وصاحب الصافرة قرب البوابة يحذر العابرين ويضحك منهم وصاحبه الحارس في علبة الصفيح يشتم ويبصق ويصفع ويمزق .
. دوّن حدود المسافة بين نقطة العبور وعلبة الصفيح ولك أن تخمن من أين خرجت الفتـاة وكيف وصلت إلى المكان .. أوقفوا آلة ذات عنق طويل وطلبوا إلى رجل ملثم أن ينظف الطريق ذلك المفترق الموحش .. حراس البوابة متوحدون يحاولون أن ينهوا الوقت وتنتهي مهمتهم ، أحدهم بقبعة بنية يقضم شطيرة ويحتسـي شاياً والآخرون ينادون وهو لا يجيب والهاتف يرن وهو لا يجيب وصاحبه في علبة الصفيح يسحق عظامها فتصرخ ويطبق على فمها ..
عندما اكتملت التركيبة الغذائية في القدور ووهنت قوى ألام واستسلمت لرقدتها اليومية في المطبخ سمع سعالاً يأتي عبر بوق يضخم الصوت ، أنه السعال اليومي للمؤذن .. الضربات الثلاث على لاقطة الصوت .. نفخة .. نفختان .. ثلاث ، وشعر أن خدرا يتسرب إلى جسده مع الظهيرة ومع الإجهاد المألوف ، ينحني على البلاط طويلا وتخضل عيناه وتختلط أمامه الأرقام والمعادلات ورائحة القدور وفحيح الرجل الرياضي .. والصبي المدمى والعربة التي تم نثر حملها ..هولا يقوى على النهوض ، لا يقوى ، تتقدم سحابة ما ، سحابة الصبية الخارجين من المدرسة ، يقرع الجرس ويحف رنينه بهم ، يمد أحدهم – بفضوله المعتاد – عنقه عبر نافذة الغرفة المحاطة بشريط أحمر عبر علبة الصفيح وينادي على آخر وآ خر ، ويختبئون ويشهدون اليد القابضة على فم الفتاة .. يشاهدون الفحيح والتلاشي .. الرجل وهو يجرجرها من شعرها وهي وتحتمي منه وهي تبكي منه وهي تحتمي وينقطع المشهد والرجل قد أنهى شطيرته وشايه وأندفع يطارد الصبيان
.. عبر الشقوق أجريت تحريات عن مصرع الصبي عند البوابة وتم أيجاد صلة ما بين الدقيق المنثور على الإسفلت وحادث الصبي .. وتمت أقوال الشهود بإفادتهم الصريحة وتثبيت القرائن والأدلة وذلك بتاريخ … سمع تقرير الحادث عبر جهاز الإرسال اللاسلكي للبوابة وعبر شقوق الجدار ولأنه شهد كل شئ شعر أنه ينبغي الربط بين الظواهر .. فيؤجل قليلا رحلة الكم التي ينشغل بها إلى ( الكيف ) الذي تجري وفقه الوقائع .. أنتقل إلى المــوقع الذي جرى فيه ماجـرى .. ليجده قد أكتمل ، بهيكله الخشبي اللماع وصندوق الصفيح ذو الشريط الأحمر ، ولكنه هذه المرة بأرائك نفيسة ومصبات ماء ونافورة وأصص زهر ، الرياضي المنتشي ينفث دخان سيجارة بتلذذ وهو شبه عار وصاحب الشطيرة ينشغل بالفاكهة والصحن الكبير أمــامه يمتلئ بأنواعها . حاول أن يخرج .. أن يفك الوثاق .. استيقضت العجوز من قيلوتها على ضجيجه نظرت أليه بعينين واهنتين ثم واصلت نومها ، حاول انتزاع نفسه من السلسلة الحـديدية ضرب بقوة دون جدوى ، تتابعت أمامه المعادلات والزوايا والخطوط المتوازية والمتقاطعة وتـدافعت أدوات العمل المعدنية وتلاطمت وأصـدرت ضربات متتابعة دار هو دورة فأمحت الإشـارات على البلاطات الخمس والعشرين وأنقذ فت الزجاجة التي تحبـس الفـأرة بعيدا لينطلق الحيوان سـريعا إلى جحـره.. أنقذف هو فجـأة بدافع التعجيل وقوانين القـوة والأجسام المقـذوفة شاقوليا ، جمـيع المتجهات الـواقعة بمستوى واحد بطـريقة مقـدار الشغل لحث جسـم بإزاحة مقـدارها ..
أنقذف نحو الباب الضخم ، عنـدها لاحت أمامه المنـارة شاخصة بأبواقها الأربعة والهلال الفضي والنشـرة الضوئية المتلألئة ، تشكلت أمـامه منظومة القوى التي تساعد على الفكاك واسترجع حـروفها ورمـوزها ورددها بيقيـن مع نفسـه .. عندها انخلعت قـاعدة السلسلة وأنقـذف هو إلى الرصيف المحـاذي للجـدار .. شعـر بـدوار وهـو يستنشق هـواء مختلطـا بالغبار والغازات ، كان يطلق سراحه بنفسه بعدما غاب طويلا منذ صفع الفتاة وأحيل الى الحبس التأديبي ..وثبت انه مختل عقلياً ولذا أعادوه بأعوامه ال25 الى منزله مقيداً بالسلاسل فيما كانت محاضرات الفيزياء تتردد أصداؤها في رأسه وهاهو يتلقى ذلك الضجيج المرعب الذي يخلفه احتشاد السيارات والناقـلات في خضوعها اليومي إلى إجراءات الفحص والتـدقيق ، نهض مـرتبكاً ذاوياً ، قطـع مسـافة الرصيف .. شعر بوخـز في قـدميه الحافيتين ، وتـقدم وهو يجـر السلسلة الطويلة ولسـانه كقطعة خشبية جـامدة حاول أن يصـرخ .. أن يجـرب تحريك قطعة اللحم الحمـراء التي كانت يوما ما لســانه ، فكر بصعوبة أنه سيكتب ما رآه إذا ما عصا عليه الكلام ، قطع رصيف الحصى وأصبح في مواجهة البــوابة.. وما أن قطعها حتى كان في مواجهة الرجل مفتول العضل والآخـر صاحب الشطيرة ، حـاول أن يوضح لهما الأمر إلا أن ذلك الضخم كان قد مد يـده وأمسـك السلسلة وجـرها وهو يضحك بمكر .. ثم بقهقه عاليـا .. شعر هو أن ذلك الوحـش سيلحق به أذى ما .. ولهذا أستجمع قـواه وأندفع بشكل مباغت منفلتا من قبضته.. وراح يـركض بأقصى سرعة وهو يجـر خلفة السلسلة حتى قطع منتصف الشارع وأوشك أن يبلغ الحـافة الثانية ليخـرج نهائيا عندها كان حشد المشيعين قد دخـل .. رجـال يحملون النعش وصورة الصبي .. يسبقهم ضـاربي الدفوف وأصحاب المسابح والقلائد الطويلة الذين يحيطون خصورهم بأحزمة قماش خضراء .. تصـاعد ضرب الدفوف وهو وسـط الجوقة يحاول أن يكتشف الأسرار .. إنـي .. أنـا .. الـذي .. رأى كـل شئ .. شهدت رأسه وهو ينشـق ويتدفق دمه على الإسفـلت ، صـرخت فيهـم .. ولكن الدفوف ظلت تهدر والعويل يتصاعد ، والاثنان يخترقان الحشـد وهما يحملان هراوتيهما وهما يبحثان ، وشهـد أمه تتبعهما وحاول أن يحتمي بالنعش وتمنى لو دخــله و أذهب مع صـاحبه كي يمضيان معـاً في ســلام ..
لكن أيد صارت تجـره وأقداما تـركله والحشود تتقــدم والاثنان يخترقان الناس بعيون ذئبية ويلوحان بالهراوات والناس تتحاشاهما ويتعالى قـرع الدفوف وتتكون بعد ذلك دائرة بشرية ضخمة يتوسطها نعـش الصبي تحف به حشـود ضاربي الدفوف والنادبين والمرددين أما الاثنان فكانا يمارسـان لعبة ( الثعلب ) يدوران حول الحلقة وهو في الوسط يحمل سلسلته والاثنان يصرخان .. امسكوه .. م .. ع.. ت.. و.. ه ، خرج توا من مشـفاه.. امسكوه .. يربطونه كوحش كاسر .. الناس تركض وهو في وسط الدائرة يرتطم بالوجوه وتتتابع أمامه الأفواه والأنوف والأعين والفحيح والبكـاء .. امسكوه .. هو الــذي أحـرق البـيت ..
أعلـن وقـائع ضرب الصبي وقتـله من قبلـهم .. أؤكـد ذلك بالحساب والمسافات المحسوبة والخـريطة المثبتة .. يصرخ .. يعلــن الحقيقية ..
يبلـغ الحشـد حـدود العلبة المعدنية المسـورة بالشريط الأحمـر يقتحم العـلبة ، يشهد بقايـا المرأة ، يفـور المـاء في إبـريق الشاي ، يلتقط شعـلة ، يوزعها في الأركان ، يختـرق الضجيج بالتدريج ، تتصـاعد النـار في البوابة ويتهاوى الحاجز.. النـاس تبكي الصبي وتـركض وتختص والسلسلة طـويلة .. طـويلة والعـرق يتدفق .. والحروق في اليدين والرجلين والاثنان ..صاحب الشطيرة والرياضي يتلاشيان في المبنى .. تحترق البوابة وحجرتها ويتدفق الناس والعربات والناقلات والرجال قصار القامة والكائنات المتراعشة الحبيسة , كلها في ما راثون هائل ..وهو يحييهم ويصفق وهم يمرون في روعة هائلة يعبـر السياج ، يضرب الأنبـوب مـرارا .. يتفجر المـاء .... يغتسل كطائر بري محلق بلا حدود .. يخفت الضجيج هنـاك تستيقـظ ألأم مـن رقـدتها وتقـدم لـه صحن طعـامه .

1996
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

حب فرعوني



حب فرعوني


هناك في حدائق المكان ..وقرب مسبح صغير ..هناك في الليل الرطب ثمّ انعكاس ضوئي واهن على شفاه الزهر..والندى يبلل طاولات متناثرة حيث كانت هنالك خطى عابرين ..عندما بدا النزل موحشاً وممراته خاوية ..وليس هناك غير موظف الاستعلامات الذي نال منه النعاس ..وبدت السيدة مثل طيف فرعوني زائر حطّ في ذلك المكان ..مرّت كظل شفاف على وجوه واسماء ,وقلّبت تفاصيل مجهولة..من أين جاء كل هؤلاء النزلاء الذين لم ترهم من قبل؟
فجأةً دوت في رأسها صافرة الإنذار ..واحتشد المشهد بالناس المذعورين ..صراخ الأطفال وألسنة اللهب ,والمبنى السكني الذي بدا لقمة سائغة للحريق ..وخرج الناس من شتى الجنسيات مذعورين لا يلوون على شيء وهم يشاهدون منازلهم الصغيرة تتحول في أطيافها من ألوان النيران إلى ألوان الانفجارات ..والضجيج والصراخ والفشل المرير في السيطرة على الحريق ليأكل كل شيء بسرعة عجيبة..
ولذا خرجت عبر مساحة عريضة ..وهي ترى مساقط النيران وألوانها على الوجوه المذعورة ,وهي ترى السيارات الهاربة ..والناس المحبطين وهم يتحدثون بشتى اللهجات ..شعرت بوهن ..وانقبضت روحها وهي ترى حجرتها أسيرة للدخان واللهب ..مازال هنالك وقت لكي تنزل النيران من الطوابق العليا إلى حيث حجرتها في الطبقة الأرضية ..ولذا راحت تناجي أشياء عزيزة محتجزة ..أشياء تستعرضها ..لا..هي ليست في حاجة لملابسها ولا لأثاثها ..هي بحاجة إليه..وحده تمثال ..آمون رع..تناجيه في عتمة المكان وتنشج بين يديه :"كم أنا ذاوية وروحي متراعشة في فضاء ممتد خارج الدنيا والحريق".
مرة .. لا تدري متى بالضبط .. لكنها في صيف عابر قريب .. قالت له أنها ابنة آمون رع أو هي أمه .. وفي ساعات الليالي المقمرة الطويلة سترتدي مخملاً من طيبة وتنزل إلى البحر لتخضب قدميها بمياه الليل .. ولتلبس الأصداف قلائد وخواتم .. ولتجس ّ وجه الرمال .. وتلوذ بجسد البحر .. مرةً قالت له ذلك ..وكان يحتسي شيئاً من عصير ..وبدت نظرته ساهمة ..وهو يحاول جمع حروف اسمها ..ثم يطلق ضحكة قصيرة للريح ..وهي ترنو الى محيّاه الطالع وخطواته الواثقة ..مؤكّدة له أنها مأخوذة في الليالي المقمرة إليه..الى آمون رع ..فهي أمه ..التي ترضعه صغيراً وتسقيه لبنا سائغا.
وسيكبر في خيالها وتقبّل جبينه الأسمر ..وهو يكبر ويكبر بين يديها وفي حجرها ووسط أحضانها ..وهي تسقيه عبقا فرعونيا يذكي فيه شموخ الرجال ..وهي ستغدو ابنة له ..وهو بقامته الفرعاء وحدبه عليها ..سيبقى هكذا بهياً كبيرا ًدائماً.
عادت الى الضجيج خائرة القوى تتشبث بركن بارد بعيد فيما يتناهى إليها صراخ فرق الإنقاذ وعربات المطافئ وهي تشهد أسراب النمل وهي تخرج من مخابئها ….مر الناس كشريط المجهول ..هذا يولول لفقد جواز سفره وذاك لاحتراق شهاداته والآخر لفقدان مصاغ زوجته وآخر لفقدان لوحاته العزيزة .’وتلك تبحث عن كلاب جراء دفعت من أجلهم دم قلبها وهي تربيهم وتكبرهم وقد اختفوا جميعاً وبين من يحمد الله على السلامة ’ومن يولول على أثاثه ومتاعه ..هكذا كان هؤلاء ..جوقة كبيرة كانت مختبئة في شقق المبنى ..لم ير ولم يعرف أحدهم الآخر ..الى الآن
وقفت هي هناك خائرة تتشبث بركن بارد أرادته بحراً شتائياً وعصفاً ودفقاً للنثيث ورائحة السمك والأصداف واليود .. وتأملت في الأفق السماوي ولاحت لها صفحة قمرية سرعان ما تداخلت مع وجه آمون .فانتابتها رعشة مفاجئة ... وأطرقت ، ثم تسللت نظرتها الى سفائن النور التي تتنقل على نجوم الغرباء في ذلك الليل . وتمنت لو كان هو بقربها فينطلقان في عربة من الفضة واللازورد .. وينزلان عند مملكة آمون رع التي أعلنت الآن طقوسها ودقت طبولها وأطلقت العنان لعازفيها بتعاويذ الكهان .. وآمون يحتشد وينزل بأثوابه ليطلي جسده بزيت الغار ويتطهّر في مياه بحره المتثائب النابض .
مرت أمامها ثلة من حاملي السلالم الطالعين الى النار ..وتشبثت بأحدهم وسألته ان ترى حجرتها ..فتركها الرجل محملة بنظرته الساخرة الرافضة ولذا وقفت كطلل طيبة .. صامتة كالغريبة ، لكنها فجأة عادت الى قرع الطبول وضجيج تعاويذ الكهّان الذين قادوها وخضبوا أصابع يديها ورجليها، وترا عشت أمامها اسماك الفضة وفراشات النور وانساب الماء بين يديها .. وهي ترى تمثال آمون محاطاً بغلالة ذهبية .. وهي ترنو لصمته وذراعيه المتعامدتين وأصابعه المتشابكة كان هناك ينذرها بأنه قادم الى غمامات ليلها وياما رأته في نومها ويقظتها وسقته ألذ ما تحبه لنفسها ’وشاركته الكلمات والقصائد والتعاويذ ..تاركة له مساحة هائلة لمداواة كيانها المعذب بالوحشة والفقدان..ربما كان آمون وحده هو الذي غاب في ليل المدينة وأشعل غضباً رهيباً تشظى في المكان .. وبقي هو حيث هو هناك رافضاً .. شرساً .. عنيفاً .. ورأته هي في صورة اخرى لم تستبعدها ... ولذا فكلما اشتدت عليها فكرة غضبته سافرت الى البحر .. وارتدت ملاءة الكاهنات والعرافات وتغنت وحيدة على سقوط قرص الشمس الدامي في بحار آمون العميقة ونقلت في يوم ما للرجل نفسه شيئاً من أشعارها وتعاويذها العتيقة وكانا يذرعان أرصفة المدينة في ظهيرة شاتيه ..وأكّد لها ان هناك مساحة ما بمثل براءة البحر تمتد عميقاً في نفسها وستثور وتتوالد وتشتد ..وقاطعته بأنها مساحته هو التي لا تتسع إلا لكلماته وملاحمه وأيامه..
كانوا هناك أفارقة وغرباء ..حاولوا درء اندفاعها بينما المرأة الأخرى تبحث عن كلابها والأستاذ يبحث عن شهادته الفخرية والصبية تبحث عن دميتها كانت تسير بملاءة رمادية عندما تسللت إليها كف الصبية صغيرةً باردة راعشة .. تشبّثت بأصابعها كالغريقة .. أرادتها مشاركة في رحلة البحث عن الدمية .. وصفت الصبية شكل دميتها .. شعرها المنساب .. وجهها الدائري الوردي .. شفتيها الممتلئتين .. ثوبها الأزرق البحري .. كفيها المحلقتين في فضاء مائي أو بخاري .. كانت الصبية يافعة نحيفة القوام حادّة الملامح .. لكنها بدت واثقة مدافعة عن ذات اخرى تخصها .. وناشدت السيدة إن تنضم إليها في تخليص دميتها من النار .. لم تقو السيدة أن تخفي في نفسها ارتعاشه روحها وان تعرب عن قلقها نفسه إزاء القسم الآخر من كيانها الذي مازال هناك في المجهول بين النار والدخان وخراطيم المياه وصراخ رجال الإطفاء وهلع الناجين ..حتى بدت مطالبة السيدة والصبية بشيء مما يسعيان له ضرباً من الجنون والبطر...
وقادت الصبية بين أفواج الناس .. وتراءتا وسط غلالات الأضواء التي غلفت المكان ككائنين قادمين من الماضي .. من ماضي المعابد .. من بلاط آمون نفسه .. تسيران كمن يطفو على سطح مائي .. ويجتازان العتبات ويرتقيان في الطلوع السحري .. وهمست السيدة للصبية بأنها هي نفسها تبحث عنه هناك إذ تراه في كل يوم شاتي إن صائف أو ربيعي أو خريفي في منتصف ليل .. أو في فجر .. كما هو .. محاط بهالة برتقالية مقدسة .. ويتّقد نور ابيض شفاف .. يتقدم كمحارب مخضرم واثق .. مثقل الخطى .. خداه منحدران الى ذقنه .. عيناه مسهّدتان متعبتان .. شعره طويل منسدل .. وشاربه مخملي هكذا رأته وجسّت شفتيه ..شفتي آمون رع ..نفسهما اللتان نطقتا بالإخلاص للرحلة ..عندما شربت معه من عصير المعبد نفسه ..عصير العنب الأحمر عندما مرت حاملات القرابين وسط التعاويذ وغمامات البخور وضوء الشموع ..
وصحت السيدة من شدة ولعها بآمون .. وقرأته مرارا وكشفت أسراره وحفظت تعاويذه وأشعار الكهّان من حوله ..وعرفته حقاً واتحدت به ..وتغلغلت في إنسانيته الشفافة ونقائه الفريد ..وطيبته التي فأنعشت فيها مواسم البرتقال والآس والخزامى والغار ..إذ فاضت من حوله أوفياء محملة بعبق السنين وتمنت مراراًٍ لو غرفت هذا العالم منذ سنين ..
كان ذلك يوم عصفت الريح وهاجت أمواج البحر عاصفة شرسة وغلفت بالرذاذ كيانها .. وهي تراه هناك في الهيجان قادماً على مركب من الفضة وحيداً طيباً يوسع لها المدى كلما ضاقت الدنيا عليها...
رحّلوهم جميعاً صغار أو شيوخا وقططا وكلابا وعصافير ..رحّلوهم الى ذلك النزل المحاذي للبحر الصامت الرمادي ..ووجدت السيدة نفسها الى جانب الصبية ..هكذا توشكان ان تنهزما..وتخسر هي الى الأبد شيئاً ما ..عزيزا غاليا لكل منهما لكنها وهي ترى الباص وقد غصّ بالناس والطيور والقطط والكلاب ..نفرت واندفعت عندما انطلقت طبول رع من عقالها بالطيور البرية والطواويس ومسوح الكهان والنيران المطفأة ..رأت المبنى كهفا حجرياً قاتما يبتلع الناس والأشياء ...... لكنها شعرت باحتشاد الإرادة في داخلها .. وهي تخوض في نهر من الرماد والحطام والماء الأسود والشظايا .. كأنها ركبت زورقاً مجنوناً انطلق بها في كهوف مائية .. وراحت تناديه .. في تلك الآونة الذاوية من الليل .. واصطدمت بأبواب ومنافذ وبقايا جدران .. ولاحت لها أساور من فضة وبقايا أثاث محترق ..وأجهزة هاتف طافية وبقايا صور وتذكارات محطمة ودفاتر واوراق مشبعة بالرماد ومياه الإطفاء ..حتى إذا صمت الزمن ..ولم تعد تسمع نداءات مكبرات الصوت المحذرة بأن بقايا المبنى سينهار في وقت قريب .. .. اندفعت الى ركن ناجاها .. والتمعت منه صورة ما .. طاولة كان يشاركها فيها شخص ما..#
حزيران (يونيو)2000 القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
……