Monday, August 27, 2007

وجه السحابة البيضاء THE WHITE CLOUD FACE



وجـه السحابـة البيضـاء




عبـر الممر الطـويل ، تتـوزّع الغـرف البيضـاء الصغيرة ويستسـلم الحي للـرقاد الجميل ، بـدت المـداخل مهجورة ،وغابت أصوات الصغـار ، لكنها خرجت بنشـاط لتسبـق وقت التحاقـها بالمستشفى بسـاعات ، حملت قميص التمريض الأبيض وغمرها عطـرها المفضل فأنعش فيها لـذة الحيـاة المقيمة في داخلـها ، الحياة الصغيرة المسالمة الهادئة ، تركت صوت الأم يأتيها ناعسـا بعيـدا وهي تودعها وقد غـط الباقون في قيـلولة ناعمة ، بدا هيكل المبنى بين الأشجار السـرو المتراعشة المصطفة بانتظام وكأنه مركبة فضائية وقد حطت على رؤوس الأشجـار ، وتدفقت فجأة رائحة الأريج الربيعي المنعش فارتوت نفسهـا الـرقيقة ، ولـذا تدفقت عبـر شفتيها الرقيقتين تـرنيمة قديمة عاشت معها سنينا هي مـزيج من الشعر وإيقـاع الموسيقى وعاد إلى سمعها صوت الفتاة اليـافعة التي كانتها وهي تـرفع سمـاعة الهـاتف فيأتيها النغم شجيا مبهجا ، صوته المنغم العذب ، نفسـه الرجولي الذي يذكي فيها تدفق الأنثى وتألقها ، عاد الصوت وعادت معه لمسـة الكف الخشنة المألوفة وتتابعت عبـر الممر المؤدي إلى الحدائق طرقات وقع خطاها في تنغيم متصل أمتزج مع سيرها الواثق ، بجسدها الرشيق وقامتها المتناسقة الملفتة ، ولم تكـن الانتقالة من أريـج الحدائق إلى روائح المعقمات وهواء المستشفى ألا امتدادا لشخصيتها المحلقة الحالمة ، وجدت نفسها وسط سحابة من الابتسامات والمداعبات والكلمات المشاكسة من صديقاتها ، سلسلة من الكائنات التي ترفل بالبزات البيضاء الناصعة تقطعها بين حين وآخر كتل خضراء كاملة لممرضين وممرضات وأطباء خرجوا توا من غرف العمليات أو يهمون بدخولها ، وكعادتها عندما يلوحون لها تتضرع مع نفسها ضراعة خاشعة للـرب كي ينقـذ أولئـك البشـر المستسلمين لـرقاد التخـدير بانتظـار المشـارط والسـكاكين .
***
في مفكرتها ..كانت هنالك أسماء وأرقام هواتف وعناوين إلكترونية وبريدية لأصدقاء وصديقات ,امضوا مدة التدريب في المستشفى الكبير ثم غابوا ..شعرت أنها وريثة تاريخهم ,فالأولاد انشغلوا في حروب البلاد ,,,,وغابوا في مستشفيات الميدان ,وأَُسر من أسر منهم وعاد من عاد بعد حروب طاحنة ومخاضات عسيرة….
يومها سألت عن رجل ما …شخص تختلط ملامحه بوجوه تلك الثلة الجميلة من الأصحاب وقيل لها انه ظل طويلا وهو ينشغل بإجراءات هجرة إلى بلاد مثلجة بعيدة …..وأنه ترك مهنة التمريض والمستشفيات واشتغل بتجارة العملة في السوق السوداء …لكن انكسارات رهيبة كانت تلاحق هذه السوق ومطاردات وأحكام قضائية شنيعة,ولذا قرر أن يحمل ما تبقى لديه ويلوذ مهاجراَ الى ارض ما ..وهاجر أو غاب أو… أو..لا تدري .. سوى انه هو .. كما كان رجلا اختصر عليها دروب الكلام وقلق الأنثى وتغلغل في قرارة إحساسها لكنه لم يكن مغوياً ولا لعوباً ولا صياد نساء..بل كان رجلاًوانساناً فحسب..طارده نحس الجيل وهزائم الحروب ومآسي التحولات فلم يعرف كيف يحيط بالمشهد كله ولذا دهمه النسيان .
هاجر ا خوانه واغتربوا توزعوا في بلدان عدة وأخواته تزوجن ووالديه فقدهما في قصف وحشي لملجأ مدني في البلاد …ولم يبق من السلالة إلا ّهو..كان يعزف على الكمان..قال انه كان في قرارة الحروب التي كان اسم "الكريهة" يرافقها..كان يتدرب على العزف ..وظل يغني بانسجام في حديقة الجامعة ..ويرنو لعينيها بعفوية وود..ثم غاب وغاب الكمان والكلمات وتسللت شعيرات الشيب ..وبقيت هي كما هي.
***
تقشعت السحـابة البيضاء لتـدخل في الممر الـذي تشبع بأنفاسـها وأصداء موسيقاها المفضلة ، وتلوح الصـور التي علقتها منـذ زمـن ، ثم آيات من القرآن الكريم ، وحتى وهي تستبـدل ثيـابها بالحلة البيضـاء الناصعة وتلسعها ، بـرودة الجـدران فأن ثم كلمات تأتيها غمامـة ناعمـة تحف كيانها فتـزيدها حبــا.
فجأة قرعت أجـراس الإنذار في غرفة الاستدعاء ، وتدفق النـداء عبر مكبرات الصوت وتراكض الممرضون والممرضات وتتابعت العربات ، ارتدت ملابسها سـريعا والتحقت بقسم الحالات الطارئة والمستعجلة ، وبـدأت سيارات الإسعاف تقدم كائنات مـدمّاة ومشوهة من جراء حادث مـروع وتهيأت بكـل قـواها للموقف وكان وجـودها في المكان مبعث ثـقة الجميع لأنها تحـل في اللحظة الحاسمة كمالوأنها كانت محلقة وحطت في وقت الأزمة ولهذا امتلأ ملفها بكتب التقـدير والتكريم والإطراء .. لكنها وهي تتبـع إحدى العربات والطبيب يردد أسماء المصطلحات الطبية وهي تكتب والجسـد مسجى أمامها وقد تكـور في هيئة أثـارت إحساسها العميق المتجدد بالإشفـاق ، وجـدت نفسها وهي تسحب بكف مكدودة شـديدة ، كانت كف ذلك الجسـد المسجّى وقد ارتفعت لتمسك بكفها بقـوة ، امتد شعاع ليزري غمر جسدها كله بقشعريرة شرسة ، وأحست بالهلع لأنها أستنتجت أن ذلك الجسد يعيش لحظاته الأخيرة وحاله حال من يتشبث بقشـة من اجل أن ينجو من الغرق وتجسمت في كيانها كله أصوات الاستغاثة الملتاعة ، لذا سرعان ما انحرفت بالعربة نحو الصالة القريبة وسط دهشة الطبيب والمسـاعد وراحت تخرج من الأدراج عقـاقير المعالجة السريعة وأدت كل شئ بسـرعة وثقة بينما كان الكيـان المسجى قد تلقـى التنفس الاصطناعي وراحت شاشة النبض تعلن عن استمـرار الحيـاة ثم نزول خطها البيـاني وسط قلقها هي واعدادها جرعات المرحلة التالية .
وتنقلت عينها بين صورة النبض وبين تساقط قطرات محلول الجلوكوز وبين الكف المكدودة الـدامية التي مسكت بها ووجدت نفسها مندفعة بحركة آلية نحو زجـاجة المعقم لتنظيف الوجه من البقع الدموية القانية ، ووسط الإغماء ، راحت صورة العين المغمضة تتجسم لها وكذا الحاجب والأنف الشامخ والفم ، عندها ارتجفت كفها ثم اندفعت تسرع في تنظيف الوجه ومع تتابع مكونات الوجه عـادت أليها صورة الحديقة المروية ، صوت الضحكة ، الشعر ، حركة الشفتين ، الموسيقى ، الكتاب الأول المدينة القديمة وعادت كفه الخشنة المتشنجة لتستقر على كفها فتشنج جسـدها كله وصرخت من قـرارة الماضي باسـم رجل تكتشفه بعـد أزمان ومنـذ زمـان وهي تبحث عنه لتشـاهد الخط البيـاني ينحدر سريعا وهي تمسك بالكف متشبثة ومنـاشدة وهي تنشـج بصمت .
1997


القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
اللوحة للفنانة التشكيلية العراقية عفيفة لعيبي