Sunday, August 26, 2007

قطار المساء THE TRAIN OF THE NIGHT


قطار المساء

تغلق النوافذ ، تسدل الستائر ، صورتها على المرآة القريبة ، تمر امام المرآة ، لاتنظر لوجهها ، تتجنب تلك النظرة الشرسة التي تخترق كيانها وتتشظى في داخلها وتلقي على اطرافها ضعفا باديا ، دبيبا ، خدرا ، تترامى على الأريكة القريبة ، تخفي وجهها بين كفيها ، تصرخ فيها ، تدعوها ، تنجذب للنداء ، تقترب ، ترى ظلالا حادة على الوجه ، شرخ معتم يشطر وجهها ، ترتعب ، تنسحب الى الحجرات الداخلية ، تقف عند مفترق بين غرفة الضيوف ، غرفة المكتب وصالة الحفلات ، تشعر بالغثيان ، تتوقف ، تمسك العمود المرمري الضخم الذي ينطلق من قاعدة سوداء الى سقف شاهق تتوزعه ثريات ضخمة ، تمسك بالرتاج ، يمر ، يسألها : " اهذه انت ؟ ماجديدك ؟ " ، تجيبه : " غ .. ث .. ي..ا ..ن " ، يتركها ، كالعادة ..
يخرج في صباحه المعتاد .. تلوح له مع اقتراب سيارته السقوف الفضية اللامعة لمستودعات الحبوب والبطاطا وقبل الدخول ستتدفق روائح الغلال مختلطة غريبة ، يترك الممرات المكتظة ، الأعناق المتدلية ، الأحزمة الناقلة للغلال التي تضج بالحركة المتصلة ، يختلط ضجيجها بضجيج العاملين ، يلحقه مراقبون وعمال كهرباء ،، كالجراء ، يركضون خلفه وهو يلقي اوامره ، القاعة الأولى تغلق فورا وتنقل الغلال الى القاعة الثانية ، يمر خلال ممر مكتظ بنساء يفرغن اكياسا جديدة في جوف حديدي دوار ، يصرخ برئيس العمال وهو يرى الناس تهرع مسرعة ، ينهره طالبا المزيد ، صبي يحمل له القهوة والماء ، يضرب الصينية ، يركل الصبي ، يغلق باب الأوفيس ، اين يذهب ؟ والأوفيس غرفة مثلجة يتجمد من يدخلها رهبة اولا ثم لدرجة الحرارة المنخفضة التي يحلو له ان يشيعها فيها ، يطل عبر نافذته ، يشهد حشد الصبية والنساء وهم يحملون الصناديق ، يتنفس بعمق ، يدير قرص الهاتف ، يتابع سلسلة الأتفاقات ، يضغط على زر الجرس ، يتقدم رئيس الحسابات الأزلي ، يباغته "هاانت قد طليت نفسك بالزيت جيدا حتى لم تعد اللعنات تلتصق بجسدك " ويضحك ويضحك معه المحيطون خوفا ونفاقا ، يحتسي وينتشي ويدخن وينطلق ويخرج الى الأذرع الناقلة والأعناق المتدلية الآلية ، يتوقف ، امرأة مكتملة ، وجه مدور ، عينان سوداوان ، ذراع بيضاء ، انحناءة تحرك رغبة ، يصرخ في طوره الهستيري في رئيس العمال : لابأس بها ساعية في الأوفيس . النهار نار ، ريح السموم تلفح الوجوه والأوفيس قطعة من ثلج ، مطفأ الأضواء ثمة حوار مسموع وامرأة تنتزع اسمالها وتتهاوى تحت الصفعات ، ثم تنسحب وهو يصرخ فيها :" ياسارقة .. يامجرمة .. "، رئيس العمال يشهد ، يؤدي دوره المزيف ويخرج ، تغلق المرأة فمها وتبتلع صرختها ، يسمح لها ان تغسل وجهها ، بل ان تغتسل كليا ، يسقيها الشخص الآخر في داخله ، وهي تفتقد رحيقها بالتدريج حتى ترمى في الظهيرة مثل خرقة مستعملة ، تترنح وهو يصرخ ، يصرخ في الخدم ، يركضون ، طائعين مقبلين الأرض بين يديه ، كلاب وسراق ،مجرد ثلة نزحت الى المدينة بنصف نعال ، يتوسلونه وهو يدور دورة ماكرة ثم ينام .
بقيت الصغيرة تتابع القطار وهو يكمل دورته على السكة ، يدور ويصفر وهي ترمقه بانكسار ، مر قطار الساعة الثانية عشرة ، عبر المنازل كلها وعبر الزمن الساكن ـ مر القطار الأخضر فهز صمت البيوت وصمت القصر المتلألئ بأضوائه وخمائله ، تطل هي عبر النافذة ، تتبادل النوافذ المجاورة انعكاسات الضوء مع المرايا المؤتلفة في تراكب متصل ، مرايا تجمع قطع الوجوه والأعضاء ، صور غير مكتملة ، ملامح متوزعة بلا انتظام ، قطار يمر ويسحب من خلفه بقايا اصداء واهنة ، كم مرة يمر في ليالي الشتاء .
بدت قاعات الجامعة مهجورة يوما ما .. وهو يخرج لاهثا ، خلل الشجر الأجرد والجدران الباردة ، يخرج لاهثا عبر المقاعد التي تركها الجالسون ، ، اذا كان قد اخطأ مراميه فهي لم تخطئ ...هي لم تخلق الا لرجل واحد .. يقول عن نفسه انه اخرق في العشق ، مجنون بلا حد ، كان هو ظلال الذكرى التي تعود اليها في هذا الليل المديد .. يومها استدعته الباحثة الأجتماعية ، سألته مباشرة : ترى ماهو السر وراء احاطة خصر فتاة في مكان عام ؟ طلبت اليه ان لايتعجل الأجابة ، ليتذكر على مهل اية مشكلة كبيرة كانت قد وقعت له مع اية امرأة ، ليتذكر اية ذكرى مؤلمة في الطفولة ، طلب منها ان يخرج لحظة ويعود ليجيبها عن حادثة مهمة ستفاجئها ، وافقت الباحثة ، يعود بصحبة فتاته ، يدخل مغلقا الباب بركلة خاطفة ثم يحتضن الفتاة ويغيب معها في قبلة .. تذكرت الحادثة والساعة تتابع دقاتها الثقيلة ، عصيت عليها الضحكة ، بدا امامها هيكل صنعته الطفلة ونامت ، هيكل من لعبة الميكانو ، هيكل يقوم على ركيزة هشة ماان تحركها حتى يتهاوى ، دار كل شيء دورة سريعة مباغتة ، تغيرت الأسرة ، بحثت عن صورة جماعية يظهر فيها الى جانبها ، لكنها فضلت دسها في البومات الصور التذكارية ، تغير كل شيء ، لم تعد ولا الأولاد ولا الفتيات كما هم ، ينتظرون العيد بلهفة ويخبئون ملابسهم الجديدة تحت رؤوسهم . هم سارعوا في اقتسام حطام منزل العائلة ، لتغيب هي في اروقة القصر ، ظهر امامها صرحا اثريا من تلك المباني التي تراها في الأفلام ، اعمدة المرمر ، واجهات الرخام ، البوابات الفخمة التي تحتشد عليها التكوينات الهندسية ، اضواء وحدائق ، والزائر لايراها ولا تراه ، والصبية تكرر دورة القطار في الصباح والمساء ، تصنع هيكل الميكانو بصبر ثم تطيح به . على جدران القصر او على ستائره ثمة انفا س لأمرأة تلوح كل يوم وهي تتناوب ادوار المكتفية الثرية الواثقة التي لاتضحك الا بمقدار ولا تجامل الا في حدود ولا تتحدث الا بمناسبة ولا تحلم ولا تفكر في نزق ولا جنون .. يصعد الزمن وينزل بها ويحتطب ماشاء من فرص ورغبات ونضارة ..
........
ظلت صورة الأم والصبية على صدر الصحيفة تدور بين الأيدي والناس تتلمظ لضخامة المكافأة لمن يدل عليهما .
1989
القصة من مجموعة صعود القمر