Monday, August 27, 2007

ترجمان الألم THE PAIN TRANSLATER




ترجمـان الألـــم




( إلى روحي ابني عمتي :علي وعبد الكريم ، الضحيتان البريئتان في عراق الثمانينيات )
..
(وجهك معـروف لـدينا .. ضـع أوراقــك.. اخبرنا بكل شئ .. أنت تعرف ونحن نعرف!)
..
في المدى عصـافير صفراء محلـقة في المدينة الحجرية العتيقة ، والعـابرون يسيرون وكأنهم يطفون على سطـوح إسفنجية ، يسيرون غير عابئين بالمدى الرمادي الذي تتابعت طبقاته الأثيرية ودكت في مـداه شوا خص لمـراكز مراقبة وعسس غـرباء ..مفتشين ..ومراقبين غرباء..
.. نـزل عند رغبـات كثيرة ، رغبـة المسؤول أن يرتحل من مدينته وملاعب صباه ، رغبة المدير ان يترك المدرسة إلى مدرسة أخرى , رغبة جاره ان يتوقف عن الصراخ في حجرته , وظل يدور في الحجرة الغبارية , هكذا اسماها (عماد ) صاحبه وزاد:انك كتلة حجرية سمراء والغبار يؤكد وجودها , وأراد ان يوضح انه وسط زحام المدينة , في اللهيب الحارق , وعندما انظم إلي كتلة بشرية , صعد الباص المحمل بالجنود والمتسولين وصغار الموظفين والغرباء المقنعين ،و عندما انظم إليهم مجبرا ًوعبر عدة جسور ومنعطفات أكتشف أنه قد سٌرق..وان أشياء عزيزة قد نهبت منه ، هويته ، بطاقة تعريفه ، هكذا ببساطة .
كان هنالك إحساس بالانقباض يسيطر عليه منذ الصباح ..وهاهو في قسم الشرطة وأمام المحقق يعلن عن سرقة هويته وأشياء اخرى في جوف الباص .
اقترب المحقق منه بعد اخذ أقواله ..وهو يعبث بالقلم الذي بيده ..
-وما لذي يثبت انك أنت ..عزيز ..سعدون..الشلال ؟
-وجودي أمامك يا سيدي ..وجهي ,وبصمة إصبعي.
-ولمَ لم تبلغ عما حل بك منذ زمن..لم َ لم تراجعنا قبل هذا؟
-المسألة يا سيدي انّ أشياء عزيزة قد نهبت مني , الناس تتكاثر في المكان , لم يكن ممكنا منع أية يد أن تتسلل وتنهب .
تطايرت أمامه من على طاولة المحقق أوراقه وبقايا طفولة متشظيّة ,طفولة فتى البراري ,عندما رحلت أمه,بحث عنها في عقله وثقل عليه ذلك الرأس المحشو بوجوده القلق .. وها هو يجوب الآفاق ..الضواحي ..بحثاً عن شهود يحضرون أمام المحقق ليثبتوا (حُسن السيرة والسلوك) ويقسمون على معرفتهم الطيبة به.
ركلته المتاهة ، فكان ماكنة حجرية زادتها الأيام مراساً وعناء ، دوي في الرأس مع الشعر والرسم ، وما صلة هذا بذاك يا أبن ال… وتحب وتكره .. ولا أوراق لك .. لا بطـاقة هوية ولا دفتر خدمة .. عيونك تائهة .. ونظراتك زائغة .. نعرفكم من نظرة عيونكم ، نقرأ فيها الشك ، نشم رائحتكم ، من أين انت يا لعنة جلجامش؟ .
دار المحقق حوله وفجأة صاحت امرأة في الشوارع المجاورة ، صيحة حلّقت معها العصافير النحاسية ودوائر الغبار وأهتز مصباح الغرفة الغبارية وتكور جسد ( عماد ) صديقي ، كان فمي مفتوحا ولحيتي كثة ، وأنا جـاث على ركبتيّ ويـدي ّإلى الخلف وثمّ نهب لا يتوقف لجسدي ، ثمّ وخزات ثمّ أصوات سمفونية لمطارق وطبول وفمي مفتوح والمرأة تصيح والعصافير النحاسية تحوم حول جسدي المسجّى ..
..
لست أعرف سبب انفجار الموقف ، فأنا بطبعي أعاني من التصاق خلقي للسان .. ربما استخدمت الصراخ بديلاً عن الكلمات ، صـراخ تطلبته مواقف معدودة في دروب الحياة ، لكنني لم أصرخ في وجـه المحقـق ، كان وجهه متعـرّقاً باستمرار وهو يوزع نظـراته بيني وبين جرة الماء والثلج والسيجارة .. قـال أنه انتظرني طويلاً وها إنني جئت أليه برجلي ، وأكـدت له أنه مجرد بلاغ عن فقدان بطاقتي ، هويتي ، تعريفي ، وهكذا وضحك عاليا .. بعدما فرغ المخفر من العائلات ولم يبق غير النـزلاء والحراس وثمّ دوي سيارات عابرة بعيدة ، شعرت أننا في كهف ، في فلاة نائية لا تمتد لها يد الله ، لا أدري ، ربما لاحت عبر النافذة المكسورة سحابة بيضاء ومرت ليتدفق بعد مرورها وهج وبريق خاطف ، نهضت ببطء وحاولت جمع الكلمات ونطقها بوضوح أكثر ، لكنه ظل يلوّح بما كتبته ، ثم راح يرغي ويحمحم والعرق يتصبب منه ، فجأة صار يضحك ويقهقه وهو جالس على كرسيه الهزاز .. حفّ بي أشخاص بسحنات محترقة وأخرى خنثيه ..
....
درت في الغــرفة الغبارية وقلت لعماد أنني سألقـي كـل شئ في المدى لتتلقفه الـــريح ، قمصاني سأطلقها للـريح وأوراقي سأنشرها لأكـون كما أريد .. أن أولد .. هكذا .. مع نفسي .. وضحك عماد وروى تفاصيل أخرى عن ( هدى ) فكرهته وطـردته من الغرفة ، هـدى كما هي في دروب الكلية تنتظرنا فتزوغ نظراتي وأتركها مع عماد بسلام .. وفي كل يوم أراهما .. وأكتب لهـدى قصــائد غــزل وعمـاد يؤكد إنها هنـاك بانتظاري ، هنـاك حيث لم يبق غير أسمها في مكان يغمره الغبـار .. بنينا معا صورة الـوطن الصغير .. في بيـوت عصافير منهوبة .. قلت له : يا سيدي هـذه صـورة أخرى لي .. حـديثة .. فخـذها واصنع لي هـوية جـديدة .. تعريفاً بطاقة جديدة .. اجمـل واحدث .. أخرج ملفـًا وراح ينتزع الأوراق مـنه وهو يصـرخ في .. ها أنت .. هذا أنت
.. هذه أقـوالك .. هـذه أفعـالك .. ..
***
قررت الخـروج .. قلت لعـماد دعني أصـرخ وهو يكتفني .. يستخـدم أقصى قواه لمنعي وإغلاق فمي ، في الليل الجهنمي الطويل حيث فرق التفتيش مستمرة بلا نهاية .. وأنا أصـرخ وعماد يشتمني ويـركلني ويجـرني من شعـر رأسـي .. هدى جاثية في الزاوية وسط الغبار .. متكورة .
***
كتلة قاتمة غامضة صامتة ، جرّني فدفعته للجـدار.. فتحت الدولاب ونثـرت ما تبقى وفتحت الحقيبة وحشـوت فيها الأشياء ، وقلت له أنت وهي وأنا في المهب فخـذها واخرج ودعني أخوض الأمر وحيداً .. تقدّمت مثل هرة جائعة ، زحفت ، وتشبّثت بيدي .. شعرت برطوبة كفها وسمعت نشيجاً مكتوما ً، نظرت طويلاً لها ، ثم فتحت فمي وقلت لها : لا يوجد شئ .. فراغ .. فراغ .. فراغ .. لا شئ .. فراغ وطوحت كفي في متاهة الغبار .. عندما كانت الديكة تصرخ .. طوّحت يدي في المتاهة وضربت المصباح بقوة .. فعمّ الظلام .
***
المفتشون أدركوا الحالة بكل أبعـــادها ، هنا وهــناك وفـوق وتحت وفي الماضي والحاضر ، قلّبوا الأمر كلّه وانتهكوا أشياء وأشياء .. كنت بعيداً وأسمع دبيب خطاهم وتحسسهم الفائق لكل ما يفتشون عنه ، أحسست أنـني أنا .. أنا الهدف ، والدبيب يسري في دمـي يتقدم بأضطراد كلّ يوم وكلّ شهر وكلّ عـام ، وسيبقون يترصدون بأجهزتهم ومكائنهم واستراقهم وإنصاتهم ، ولهذا سأخرج .. سأخرج .. مع ان هذا ليس ذلك هو اتفاقنا والتعهدات أصبحت كالـوثيقة التي علقت على جــدار الكعبة ، أكلها الدود ، نهبت حروفها ولم يبق غير أسـم الله .
***
تاهت خطى عمـاد وبقي قميص هـدى على النـافذة .. ونزلنا السلم في الليـل وبقي باب الغرفة مفتوحا ، نظرت أليه نظرة أخيرة ، كان هيكلا خشبياً مثقّبا ً،نقشت عليه أسمـاء الأولاد كلهم ، كل الذين مروا ، طلبت منهم أسمائهم وتواقيعهم على الباب فأكتظ من الداخل بأجيال الأولاد الذين مـرّوا ، عـدت إلى البـاب وركلته بعنف ، أنـزلت رغبـتي في محوهم واحداً وحدا ً، نزلت السلم سريعاً لتستقبلني ظلال هدى وعماد ، ظلان طويلان ممدودان ، شعرت بثقل الليل ، ولم أجد في نفسي تبريراً ولا قبولاً لهذا النوم ، إذ كانت المدينة ببيوتها الحجرية لا تعرف ليونة النوم ولا أحلامه الرقيقة وكذا أناسها الذين سيصحون في الصباح وكأنهم لم يناموا .. مثلي حيث حلت اللعنة على غرفة الغبار ، وخلفت ليال مليئة بالسخرية واللوم والجـدل..
. اندفعت نحو ميدان التماثيل ، حيث تتابعت وجوه الحكّام والقادة والثوار في ذلك المدى الصامت ، قامات حجرية لّفتها العتمة فبدى الرجال الصيد تائهين في تلك الساحة ، خارجين من التواريخ والأمجاد والصولجان ، هكذا ، ينظرون في الفراغ المعتم العميق للمدينة المستباحة حيث تتجسم إلى أزقة وبيوت فخمة وأخرى آيلة للسقوط بينما تلـوح من حولهم كاميرات المراقبة واسـوار الإنذار المبكر ، وتتلا مع تحت أقدامهم سلاسل الذهب التي تسوّر كلاً منهم ، جلست على الحقيبة ريثما أتممت سيجارتي وتحسست لساني فلم أشعر بوجوده .. انتابتني رعدة مباغتة ، نهضت مذعورا ًفتعثرت بإحدى السلاسل فصرخت الصافرات وشعرت بالـرجال الأشاوس يشيرون لي بأصابعهم ، لا أدري كيف وصلت إلى غابة المدينة والعـرق يتصبب مني والحقيبـة قد تفككت عـراها وأنا لا أكاد أقـوى على الـوقوف …
صرخة الديك في رأسي وكذا العصافير الصفراء وسط العاصفة والريح ، عصافير تائهة .. والناس تحتمي وتلوذ .. وأنا اجر حقيبتي والتراب يغمر شوارع المدينة ، بقينا طيلة ساعات الصباح ونحن لانكاد نرى للمدينة وجها فثم سيارات قليلة ، المفتشون ينادون زملائهم في مواقع أخرى ويصفون أوضاع السير وحركة الناس .. كنت ارقب قطة المقهى وهي تلوذ هي الأخرى معي في تلك الحجرة الملوثة بالدخان ولطخات الدهان ..ظل العـامل يرمقني بنظـرات متسائلة وأنا أقلب الأوراق وأعيد صفها ، وأنا أربط الحقيبة المفككة ، كنت منهمكا والريح تصفر والصفيح يتساقط . عندما وجدت العامل بالقرب مني يضع كفيه حـول وسطه .خرجت عنـدما هدأت المأساة .. وجاءت الشمس محملة باللهب .
***
تـدافعت في الـرأس بقـايا صفير العـاصفة وصـوت صافـرة الإنذار وسيل الأغاني ..
(يا ..يا ..يا ..ديـرة هلـي )
توزعت أمامي فصول المحــاولة ، أكيد أن هــدى وعمـاد في الحـديقة يتداولون الأمر ، ويصلون إلى حصيلة عني والمشروع الكبير يفجر فيهم عشرات الآمال فيشتمونني .. أكيد بقيت في دولابي كتل ورقية ملأناها ، كانت إرادة غريبة ، خاطب عماد مراكز معلومات وأبحاث وأدخلنا في متاهة الشبكات الحاسوبية ليعزز بناء ذلك المجد .. وكنت حينها اشتمه بالشعر ، أهجوه ، وهدى تضحك منه وهـو ينحت بكدّ تلك الفكـرة المجنونة التي عصفت به ، وقفت علـى الطـاولة وأديت دوري كــاملاً ، أثبت تلك الخيـانة .. خيـانة .. في كل مرة ثمة خيانة وخونة أتفهمون ذلك..؟ عجيبة ، كان عماد يرقص فرحا وهو يقول : وجدتها .. وجدتها .. ويدور من حولي وسط ضجة أشعار السياب وعبد الأمير الحصيري وحسين مردان ....
في دروب الكرخ القديمة بحثت عن هدى .. وأردت أن انظر في عينيها لآخر مرة .. لم يبق لبيتنا القديم من أثر بعدما جرى ماجرى .. لا أدري من الذي سوّره بهذا السور العالي الرهيب ، ومتى ،المهم أنه الآن وجود اسمي ، وجـود تحمله ذاكرتي حيث تتجسم النوافذ العتيقة وفضاءات ( الحوش) وأبراج الحمام والنوافذ على السطوح ، سرت في غيهب غريب من أسجية فولاذية وشوارع مقفرة انكمشت الدنيا يا رجل .. ولكن وسط كآبة المكان لاح دجلة العتيق هادئا محزونا .. وبث في الفضاء نسمة رطبة افتقدتها طويلا ، دلفت عبر دهليز طويل تحفّه حجارة عتيقة مصفوفة بانتظام ورميت نافذة هدى بالحصى وخرجنا . بعد طول جدل نظرت في عينيها طويلا ففهمت .
ثم راحت تسرح بنظراتها في أفق المدينة فجأة استــدارت وعينيها غارقتين بالدموع .. أمسكت بي بما أوتيت من قوة .. تشبثت كالغـريق ، ضـربتني على صدري ثم ارتمت باكية ، ثم انصرفت سريعا وفي يدها آخر أوراقي التي أردت أن تكون بين يديها ويدي عماد .
رأيت صورتها في ملفي وقال المحقق : أليست هي ؟ لم أكن أشعــر ألا بخفة روحي … غاب الجوع وبقيت ( هندسة الألم ) ، كيف شربت الألم من اللثة إلى الأذن ومن اسفل الرأس إلى نهاية العامود الفقري ومن أصابعي إلى الصدر والبطن خارطة الألم كانت متكاملة تتوزع عليها قارات جسدي، تداعى سائر جسدي بالسهر والحمى بعدما اشتكت الأغلبية من الاجتياح.
أدركت تلك المعادلة وقدمتها لعماد ، وحار فيها في البدء ثم جسمها واقعيا ،تكوين هولوغرافي ينطلق فيه التيــار سريعا ، شعــاع ليزري تتدافع فيـه الشحنة في موج عاصف ، كانت روحي خفيفة ونفسي مطمئنة لتلك الحملة المخلصة التي شنوها لصنع الألم في جسدي .. تأكدت أنني لا أشعر بوجود المعدة ولا الجوع ولا العطش ويتناءى وجود أعضائي الأخرى في مسار الألم الطويل كانت هندسة الألم كوكباً نارياً ذو قلب أحمر تحف به هالة صفراء وزرقاء وتمتد أشعة حارة كالنصال إلى الجسد ومن حوله .
كان كوكب الألم يجتاح جسدي جزءاً فجزءاً ، يقيم فيها ، وتتكور النوى الألمية الصغيرة لترحل في العروق ، تشق مساراً كاوياً في دروب المجهول الإنساني . حطت كرة الألم على كراسي التحقيق والحبال والفوضى والركل والتعليق والشد والكي .. فهل بقي شيء من روحك الطائرة لتحط قرب عماد وقرب هدى فتشرب كأس الألم عنهما؟ ..قال أحدهم : انهم بجوارك ..في زنزانة اخرى يشربون ما تشرب.
***
افعلها ولتنزل سحابة الألم , لتفرغ هالة الألم أشعتها النارية .انزلي يا نار جلجامش يا ألم الخليقة ..انزلي يا سطوة الصولجان .. انزلي مرة واحدة .. انزلي يا اسطوانة العذاب كتلة نار وحشية .. اخترقي الأجساد .. انزلي وافتكي بهم .. تدفقي يا نـار جلجامش خيمة من شظـايا ..
انشري عذابك ولنعلن ترجمان الألم مرة واحدة …
***
يا عزيز سعدون الشلال .. قال المحقق أنهما ألان دونك يفتك بهم العذاب .. وملفك بين يديك فأخرج به إلى الفضـاء أحمل حقيبتك سريعا أيها المجنون .. اخرج بلا عماد وبلا هدى .. أتركهما واخرج ..
***
في غرفة الغبار بقي الرجل قرب ملفه ، يقلب فصول النظرية التي ألفها الآخرون عنه .أقواله في الخونة... خواطر عنه في لياليه وأيامه .. حقائق عن تكوينه وقدرته على تحمل الألم .. حقائق وقرارات تقول أنه منـزوع الهوية حتى إشعار آخر .. انهم تـركوه هكذا في غـرفة الغبار ، قدموا هـدى وعماد قرباناً وأطلقوه هكذا لا في ليـل ولا نهـار .. هكذا كبندول ضخم يطـرق كـرة العالم فينطلق الصراخ بلانهاية……

القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة