Sunday, August 26, 2007

مهرجان البلور THE CRISTAL FESTIVAL


مهرجان البلور



الى / الراحل علي جواد الطاهر الذي اثارته هذه القصة فعبر عن غضبه عليها والى استاذي الدكتور عبد الأله احمد شيخ مؤرخي القصة العراقية الذي ادهشته هذه القصة بحق ... فقال فيها ماقال .
................................................................................................

عندما خرجا كانت بقايا الليل تنسحب بحذر من على واجهات البيوت المستسلمة للرقاد الطويل ، كانت القرية صامتة لايقطع انهماكها في بقايا النوم غير صياح متقطع للديكة . لم يكن الباب الأخضر بخشبه المتقشر غير مستطيل ناشب في العتمة محايدا بين الهالات الضوئية المعدودة وبين الكسف المستحكمة المنسحبة على استحياء .
انفتح الباب وخرجا ، الفتى النحيل مرق بسرعة ببنطلونه الرصاصي وسترته الطويلة التي طوى اكمامها ، خرج وهو يسحب الحبل والصوت المكتوم يتكسر في الخلف ، تبعت عمليات الشد المتكررة نشوب حوافر تتمسك بالأرض ، ثم القفزة المفاجئة المصحوبة بالمأمأة الضاجة للمعزى .
عندما بلغوا الطريق كان الفتى النحيل قد شعر بتشنج في ذراعيه من جراء حمل ذلك الحيوان الضئيل الذي يبدو انه قد استسلم للرقاد وتسربت حرارة جسده الى جسد الفتى مما اشعر هذا الأخير بخدر لذيذ . وقفوا على جانب الطريق بانتظار قدوم سيارة ، لاح في المدى القريب الجسر الذي يربط شطري القرية ، حيث تلوح المدرسة القديمة ويافطتها ( تأسست عام 1948) .. وتتابعت كلمات يراها الفتى كل يوم تقريبا كتابات مشوشة وحروفها متداخلة مما يخطه الأولاد بالفحم على جدران المدرسة . انقطعت السلسلة من الحروف والكلمات مع صوت الأب ، وتوقف الباص وفتح سائقه الباب وهو يردد مستاء :" انت وابنك والحيوانين ، هل هي سيارة ام حضيرة حيوان ؟ " .. انتظر ردا من الأب لكنه لم يجبه بكلمة عندها قال السائق بنبرة مراوغة " حسنا .. لاشك انك رجل فقير ، لكني سآخذ اجرة شخصين اضافيين عنكم وعن حيواناتكم " .
دخل الجسد الحيواني المكان محدثا جلبة ايقظت احد النائمين في ذلك الهيكل المعدني البارد والمعتم ، كان هنالك اشخاص آخرون بدأوا يظهرون داخل عتمة الباص ، نساء قرويات ، جنديان يغالبهما النعاس . شعر الفتى بالنعاس واستسلم للنوم بينما كانت اشعة الشمس تمرق بين حين وآخر فتكون ومضات متخافقة متراعشة.
ارتج الباص فجأة وتوقف محدثا جلبة ، واستيقظ الفتى على صوت الأب وهو يسحب الحيوان ، نزلوا جميعا وتدفق الهواء المعتاد لساحة بيع الحيوانات ، كانت ساحة ترابية تناثر عليها الحشيش المتيبس ، وتكونت حلقات من الخراف والماعز وتوزع القصابون بأحذيتهم المطاطية طويلة الأعناق وسكاكينهم ، جلس الفتى النحيل وقد بدأ الهواء تدفقه البارد الخفيف وتصاعدت دوامات صغيرة من الغبار والأوراق والحشائش المتيبسة ، تناهى صوت امرأة تصرخ في سوق الخضار حتى ظهرت ومن خلفها سحابة من الصبية وهم يرددون " مخبولة .. والله مخبولة " والمرأة تبعد هذا وتلعن ذاك وعباءتها تتخافق مع حركات يديها حتى دخلت وقفة الحيوان وهي تردد" اخذوه .. قتلوه .. ولم اره ، لم ادفنه ، لماذا تكلم ؟ لماذا وقف في وجوههم ... لماذا ؟" كانت كلماتها تختلط بنوبات من السعال ، ثم كانت خطاها تبطئ ، حتى توقفت تماما بالقرب من الفتى الذي لم يرفع عينيه وكأن الأمر لايعنيه ولكن بدأ قلبه يخفق بقوة واصابعه ترتعش والعرق يغزو وجهه ، هتفت المرأة ( انظر الي ) ،عندها رفع الفتى عينيه فبانت المرأة بعينيها الصغيرتين اللوزيتين ووجهها الداكن والشعر المهوش الذي احاط الوجه المحتقن ، تعجب الفتى انه لم يشعر بالوجه كريها او مثيرا للهلع كما تصوره ؟، بل رآه وجها كوجوه نساء القرية تماما ، لافرق ، تلك الوجوه ذات السحنة الداكنة واللكنة المتشابهة ، نظر اليها وهي تقترب منه مرددة " ياولدي الحبيب .. يامسكين ، لاشك انك جائع الآن " .. فجأة ظهر الأب يسبقه صوته الناهر :" ابتعدي .. اتركي الولد يامخبولة .. امشي .." تنبهت هي للصوت فبادرته " بل انتم المجانين ، كلكم صامتون .. لم تجلبوه كي اراه ولم تقولوا لهم لا .. كما فعل هو " . كان الأب ينهرها ويهش عليها كمن يهش حيوانا كاسرا ، انصرفت المرأة وهي تسحب خلفها كلماتها المنفعلة التي تتخللها نوبات سعال .
قالت الفتاة الصغيرة ذات العينين العسليتين الهادئتين ، بجديلتيها السوداوين ، " هل خفت ؟ " ثم بادرته " انت خايف .. هاك اشرب ماي "، رددت فيما هو يشرب " الدنيا باردة .. لازم ابيع كل شي امي لاتقبل ان اعيد شيئا ولهذا ابقى للغروب .. مثل كل يوم ..." وسألته : " وانت .. منين ؟ " فيرد " من هناك .. من القرية " وتسأله ثانية :" يعني فلاح ؟ " فيجيبها : " لا .. لاأرض عندنا " .. وتسأله :"انت بالمدرسة ؟ " ويجيب " اي .." .. فتقول :" كانت عندنا معلمة حلوة ..اسمها حنان .. تحبني وتقول انت شاطرة .. وآخر السنة اهدتني لعبة .. لعبة حلوة تخليك تنسى كل شي .. تنسى انك جوعان هنا .. ولاشيء غير الهواء والتراب والحيوان من حولك ، تنسى كل شي . تنسى ان احدا بانتظارك .. متى تعود بعد ان بعت كل شيء وجئت بالفلوس .. انظر .. انظر .. هذه هي .. .. تعال .. اقترب ..".
اخرجت الفتاة قطعة قماش صفراء من جوف صندوق الكارتون الذي تصف عليه بضاعتها من سكائر وحلوى ، كانت القماشة تلف جسما اسطوانيا وضعته على كفها المنبسط .. ثم نقلته الى كف الفتى .. شهد تكوينات ملونة ، مربعات واستطالات ، كانت هنالك رسوم على السطح الخارجي للأسطوانة تتابعت وهو يستعرضها باستغراب .. ولذة اكتشاف ..كان هنالك قرد ازرق اللون بذنب مقوس ومرفوع للأعلى ، ثم بطة وضعت بيضة كبيرة وفي الأعلى كان هنالك بوق اصفر يمسك به صبي مهوش الشعر يرتدي سروالا احمر وبلوزة خضراء ، .. تابع الفتى تأمله تلك الكائنات التي تتكاثر كلما ادار الأسطوانة ، ولاح له فيل اصفر بخرطوم نافر للأعلى وقبعة حمراء ، فيما تكوم على ساقيه طبل بمثلثات سود وبيض متناوبة وحمالة بنية ، وعندما زاد الفتى من حركة الأسطوانة كانت الكائنات المجهولة الأليفة والوديعة تتحرك ببطء ، القرد يضرب كفيه ويتراقص بفم ادرد ولسان احمر لامع تقابله بطة تبيض ببطء بيضا احمر فيما تمايل البوق وهو يصدح بنغمات متتابعة شجية ، يتبعه قرع طبل خافت والفيل يدفع نافورته المائية الى الأعلى فيما يتضاحك الفتى المهوش الشعر وهو يطلق بالونات متتابعة ، كانت الأسطوانة التي في يد الفتى ذات عين قرمزية اللون اشارت اليها الفتاة وهي تقرب وجهها منه وترشده لكيفية الوصول اليها فيما اطمأن هو لدفء يتسرب اليه وسعادة تدب في كيانه ، نظر الى عيني الفتاة فشعر بمزيد من الألفة ، شجعته .. هيا اذهب .. هيا افعلها وانس ، قرب الفتى تلك العين القرمزية من عينه ثم التصق بها تماما ... ودخل تلك الدنيا : صخب الفرقة غطى على المشهد الساحر للوهلة الأولى ، صنعوا حفلا كبير ا ببالونات وأبواق وطبول ورقص وغناء ، كانت هنالك سلسلة متتابعة من المرايا المثلثة والهرمية ، سلسلة ترشح ضوءا متراكبا ، اضواء تتراقص في نغم متتابع ثر ورقيق، اضواء تنتشل صمت الأشكال الى حلبة رقص وأيقاع شجي ، كان القرد يتابع تحفيزه الراقصين ليعطوا ماعندهم ، بحماسة اكبر ، وهو يضرب كفيه ببعضهما في صفقات محسوبة فيما كان الفيل يميل رأسه يمينا وشمالا ، والفتى المهوش الشعر يفجر البالونات فتنبعث منها فقاعات ذهبية تتصاعد على الرؤوس وسرعان ما تفتض مخلفة اشعة متراقصة مرتعشة لكائنات جذلة مشبعة برغبة اللعب .
كانت المجموعة تمتزج فيما بينها وتتبادل الأدوار فتارة القرد ينفخ البوق وأخرى الفيل يصفق بيديه وثالثة الصبي يضرب الطبل وهكذا في تتابع جذل وشفاف ، والفتى يضحك ويتمايل ، ، يضحك من اعماقه ، مأخوذا الى ذلك العالم المترع بالأكتمال والتناسق ، كانت الأضواء قد اتخذت الآن اشرطة زخرفية حفت الراقصين وصارت تنبعث من بين ايديهم لتكون هالات حول رؤوسهمم لتكون مستطيلا ملونا يؤطر رقصهم وينفث باتجاههم دفقات من الأضواء البلورية النقية ، وعندما كان الفتى يسرع في تدوير اللعبة بين كفيه فيما عينه ملتحمة بعين الأسطوانة ، كانت تظهر تشكيلات مبهرة فتارة تجتمع البلورات المتراقصة الحمر لتكون هرما يحتوي في داخله قلوبا خضرا تحتشد حينا وتتوزع حينا آخر ثم لتظهر حول الأضلاع الهرمية المشرقة ثلاث هيئات من الريش الأخضر الكمثري الشكل ، وما ان يحرك الفتى اللعبة حتى تكمل دورة كاملة حول نفسها فتحتشد البلورات العسلية هذه المرة بأربعة رؤوس تكون جبلا ثم ملوية رأسها احمر وتدرجاتها زرق مشرقة وما تلبث اللعبة ان تدور دورة اخرى ليبرز تشكيل سداسي تحف به فراشات ذهبية مشرقة ، فراشات مرفرفة ، رخوة ، تزدهي بلوامس بنفسجية وباطن ابيض ناصعا ، كانت المجموعة الراقصة تعزف بأيقاعات تتسرب وئيدة هامسة ، تتسرب ويتسرب معها خدر لذيذ ، يشبع النفس وينشر عبقا فذا ، كان الدوران الواثق لما يزل متصلا والفتى منجذب بكليته الى ذلك المهرجان البهي ، تدور اللعبة ، تدور فتنبعث في مهرجان الضوء فعاليات اخرى وأخرى ، تخرج من جوف كل تشكيل تشكيلات اخرى ولهذا انهمك الفتى في تدوير اللعبة والفى نفسه طائرا في عالم مترع بالمباهج .. تدور اللعبة ، تدور ، تدور ، والفتى منطلق ، يدور ، يدور ، وتجمد العالم عندما دوى الصوت ..( قم .. ياحمار ..).
صمت الكون الجميل فجأة وتوقف العالم المشرق عن حركته ، صمتت الأبواق والطبول وخرس المغنون وتجمد الراقصون ، تكاثف البلور دفعة واحدة في لون مشبع بالبخار ، عندها كانت عين الفتى تنسحب تدريجيا من ذلك الألتحام العميق ، ينسحب كيانه وحواسه من ذلك الجمال والتناسق ، يصحو الفتى من خدر لذيذ لايدري زمانه ولا مكانه ، الفى نفسه ازاء فم الأب وشاربه الكث وهو يتكلم بسرعة دون ان يفقه كلماته كلها ، عيناه تجحظان ويداه تشيران الى اتجاهات متعددة ، يقترب من الفتى النحيل ، يمسكه من كتفه ، يهزه ، يصفعه على خديه .
كان الفتى ذاهلا تماما ، يرى الكون حوله غائما ثقيلا ، بينما الأب يغسل له وجهه ويسقه الماء .
كان الرجل ضخما بثياب بيض وقدمين ضخمتين ووجه مدور وشفتين حمراوين ضخمتين ، اما المرأة التي نزلت من السيارة مع هذا الزوج فقد بدت ضخمة البنية تمضغ علكة وترتدي ثوبا احمر بقلوب ذهبية متلامعة وتتدلى على صدرها اطقم عدة من الذهب ..
تقدم الرجل الضخم بينما تبعته صبية بيضاء سمينة وهي تشير الى المعزى الصغيرة ، عندها ساوم الرجل حول السعر فأجاب الأب " نبيع الأم وابنتها مرة واحدة " .. قاطعته المرأة التي تشبه بطة مترهلة : " نريد البنت فقط .. لأجل هذه الصغيرة الحلوة ..لكن لابأس ان نعطيك ثمنهما كليهما مقابل اخذ الصغيرة فقط . وسرعان مااذعن الرجل السمين موافقا .
تهلل وجه الأب فرحا ووافق على العرض ، فطلبت المرأة ان تحمل المعزى الصغيرة الى السيارة . كان هناك غلام بخدين ورديين مترهلين وأنف طويل ، نزل من السيارة وفتح صندوقها ، شاهد الفتى اقفاص طيور متراعشة واسماكا تلبط وارنبة وحيدة ساكنة كتمثال ، غمغم الغلام ذو الخدين المترهلين " ضعها هنا " ..عاد الفتى الى الساحة ليجد الأب وهو يساوم رجلا آخر على بيع الأم المعزى الكبيرة اذ اشترط المشتري ان تكون الأم حلوبا ، فأسرع الأب بالجواب : " نعم عمي .. انها تحلب كل يوم .. لقد انجبت توا وهي تدر حليبا وافرا ، ترضع ابنتها بعضه بينما نشرب نحن بعضه الآخر " ، رد الرجل " حسن ، ارني كيف تحلب " ، سارع الأب منحنيا الى ضرع المعزى وصار يعتصر الحلمة الوردية دون ان تخرج قطرة حليب ، وحاول مرة اخرى ولم تكن الحال بأقل مماسبق ، عندها كان المشتري قد انصرف وهو يهز يده هازئا ، نظر له الأب وغمغم " ابناء الفقر من مثل هذا الذي يشترط ان تكون المعزى حلوبا تدر زبدة وقيمرا اللعنة على الفقر اما الكرماء فكما رأيت غير مبالين بالمال " .
كان الأب يغذ الخطى باتجاه السيارة التي بدت كوكبا مشرقا تنعكس على بياضه اضواء الشفق ، كان الرجل الضخم وزوجته البطة والطفلة السمينة ، كانوا يحملون اكياسا تدل على النعمة التي هم فيها ، دخلوا جميعا السيارة ومرقت الطفلة لتنضم الى الغلام المترهل ، اغلقت الأبواب ، ارتعد الأب ، انتفض قلبه ، جر الأم بسرعة ولوح لهم ، اسرع الخطى ، امر الفتى بالجري باتجاه السيارة ، يصيح فيهم ، ياابناء الذوات ياسادة العائلات ، نحن من جئنا بنصف نعال ، فألبسونا واكسونا ، تزمجر السيارة الفخمة التي لايتملكها الا مسؤولون او ذووهم ، يترك الأم ، يركض ، تستدير السيارة ، يلوح الغلام السمين بكفه ويخرج لسانه ساخرا ، تنطلق السيارة بعنف ، فيما كان النهار ينسحب هادئا ...كان الأب مقعيا محيطا رأسه بكفيه ..مستمرا بالشكوى ، يلتفت الفتى باتجاه السوق الذي بدأ باعته يلملمون بقايا بضاعتهم وصناديقهم ، كانت هناك ، على الرصيف الترابي المشبع باللون الغروبي ، كانت هنالك الفتاة ، تحمل على رأسها صندوقها الكارتوني وفي يدها يستقر البيت القماشي الأصفر الذي يحوي الدنيا الحلوة المتقهقرة مع قدوم المساء ، تولدت في نفس الفتى رغبة عارمة ان يناديها ويعودان من جديد ، شعر لأول مرة طاقة ما في نفسه ، طاقة تدفعه ان يجري سريعا وينضم للفتاة ، ان يخرج نفسه من الحالة ، انبثق صراع مرير في داخله مع انحسار النهار والأب الذي يولول عن النحس والفقر ، يطلق ساقيه للريح ، يقترب من عالم الفتاة الساحر ، يجد نفسه هو والفتاة في فلاة انسحبت منها الحيوانات والرعاة والغرباء وسكاكين القصابين ، يلتصق بكل مافي نفسه بالعين السحرية التي تلتهم بالتدريج حواسه.
آذار مارس 1991

القصة من مجموعة صعود القمر
اللوحة للفنانة العراقية عفيفة لعيبي