Sunday, August 26, 2007

لقد حركت سكونا هائلا في نفسي : جلال نعيم

جلال نعيم
لقد حركت رواية الكائن الأفتراضي سكونا هائلا في نفسي
( لقطة أولى )


بين عشق السينما والتخصص في مجالات إبداعها ، والكتابة القصصية ، الروائية هنا ، أكثر من علاقة :
البناء / الشخوص / المكان / زوايا النظر .. والرؤية الشاملة التي تمنح العمل ترابطه .. وقبل ذلك كله تكامله ..

وهل أقدر من " طاهر علوان " على ذلك ؟! كطموح اولاً و على الأقل ، وأنطلاقاً من قراءة أولية لحياته واهتماماته التي تنازعتها السينما والقصة .. واذا ما كانت مقالاته واعمدته الصحفية تكشف عن وعي حقيقي بالأثنين فكيف سيكون حال منجزه .. منجزه الأبداعي الذي يضع جزءاً منه بين أيدينا في روايته الأولى : ( الكائن الأفتراضي )؟!


( لقطة ثانية )

قفز مع الكلمات ، الجمل القصيرة ، لهاث متسارع ، يجعلك تطارد الأحداث والشخوص وكأنك تنقل النظر في سوق مزدحم لا يمكنك اللحاق بتفاصيله إلا إنك تلامس روحه وناسه واحتشاد صوره : ذلك ما تحيا جزءاً منه وانت تحيا رواية ( الكائن الأفتراضي) لطاهر علوان . التي إختار لها عام 1996 كلحظة ذروة لعراق تنبض في اوردته ثروة آلاف الأعوام من التجارب المتداخلة ، المتكررة والمتكاثفة .
ولقد أبدع في إصطياد تلك الذروة حيث اتفاق النفط مقابل الغذاء وما تركته من أثر ، وما ازدحم فيها من احداث تبدو لنا مغرّبة بسبب حدّة واقعيتها .. وليس لواقع عراق التسعينات من منافس على السريالية والتغريب ، حيث تبدو الحوادث خيالاً محضاً بينما هي تنغر في صلب الواقع !
ولأنها كذلك ، فأن الإحاطة بما يحدث تدخل في باب المستحيلات ، لذا سرعان ما يبثها لنا الكاتب بهيئة برقيات سريعة ، تشير الى الحدث ولا تتوقف عنده طويلاً ، إلا انك تتحسّس حدود تأثيره على الواقع بمجمله ، واقع الرواية الذي يتراكم على ابطالها ليرسم ، فيما بعد ، شيئا من ملامحهم .. هي بانوراما عريضة اذن لمشهد يومي عاشته شخوصه التي إنتقاها بدقة وعرضها بشفافية عالية وبلغة برقية تكتسب شاعريتها من التناقض الحاد بين الواقع والتوق ، الحاضر والذاكرة ، وهو ما يحدث من سطر الى سطر ومن جملة الى اخرى ومن مصيبة الى كارثة ..!

( لقطة ثالثة )

(( حاتم وليلى وسعاد ومنال وسعيد ونجمان والأب وهيثم وريمة وأمها والجدة والتمثال وجهاز (( المافيولا )) وسائقي التاكسي والكرخ والمتحف العراقي وو ..و ..و .. يحتشدون في رؤوسنا وكأنهم كابوس عشناه ولن نغادره لحظة الخروج من الرواية ، هم كائنات (( طاهر )) الأفتراضية التي عاشت معنا ولن تكف عن الصراخ والطرق على جدران عالمنا المتناسلة شرقاً وغرباً ، ومنذ استفاقة الروح وحتى انحناءة الجسد !


( لقطة رابعة )

من الواضح بأن رواية (( الكائن الأفتراضي )) غير معنية بالتمسك بأذيال التحديث الروائي ، فهي تمارسه ولا تدعيه ، تجده دون ان تنشغل في البحث عنه ، بلغتها الواضحة السلسة ، وبقدرة الكاتب على الوصف والتعبير بجمل بسيطة ، قصيرة ومعبرة ، لا تهتم بتأثيث دواخل الشخصيات بقدر ما تعكس ردود فعلها وتأثير الخارج عليها ، لا تتعالى على قارئها قدر ما تنجح بزجة في أتونها معزّزة بايقاع سريع ، لاهث ومتوازن هو أقرب الى التوازن في أيقاع فلم سينمائي شيق ومحكم يمسك بتلابيب متلقية ، عبر مخاطبة قلبه وعقله وذاكرته ومجمل حواسه ، ليصل معه حتى النهاية ، تلك النهاية الخلاّقة التي تعيد إنتاج العمل في الذهن حتى بعد زوال المؤثر .. وهو ، هنا ، العمل الروائي .

( لقطة خامسة )

نموذج من الرواية :
((منزل العمة الكبرى ، كان ارضا لكل تجليات الناس والزمن ، كان ارضا للسادة والصعاليك على السواء ، الاب العصامي شقيقها الذي ماان قامت الثورة حتى انخرط في قائمة مؤازريها في ايامها الاولى ولم يكن يتوقع ان يطرق بابه وتسحب ملكية الاراضي الشاسعة التي ورثها ، الاصلاح الزراعي ، انصاف الفلاحين ، ثورة الكادحين وهكذا جاء في ديباجات الكلام الطويل ... كان قد وجد نفسه هكذا متيقنا ان الملك لله لا للناس وان من انتزع ملكيته سيخرج من الدنيا صفر اليدين .
ولهذا لم يجد في مقاومة السلطة جدوى، نظر في قائمة الاحزاب السرية والعلنية فلم يجد في اي منها ما يشجعه على المضي في مشاريعها الملتبسة ، وبقى كما هو كائن رباني فريد تحولت خساراته الى فلسفة فريدة ، وانغمار فذ في دنيا الله ، في الروح النابضة وسط الشرور والاثام والنفاق , حتى صرخ : السياسة هي علم الكذب .))


( لقطة سادسة )

وفي الوقت الذي نجد فيه أغلب الروايات العربية ، مثقلة بشخصيات كتابها ، نجح (( طاهر علوان )) في تجحيم تلك النرجسية أو تذويبها ، حدّ إنه بدا بعيداً حتى عن بطلة (( حاتم )) الذي شاركه حبّه للسينما وتخصصه وعمله فيها ، حيث ظلت تلك الشخصية الى جانب الكم الهائل من الشخصيات الأخرى تتنفس كيانها الخاص ووجودها المستقل ربما حتى رغم أنف كاتبها .. لقد أمات الكاتب نفسه إنتصاراً لشخوصه التي ظلّت تتنفس هواء بيئتها ومرحلتها والتي قادتها ، فيما بعد ، صاغرة الى مصائرها ..!



( لقطة أخيرة )


و(( الكائن الأفتراضي )) هو – كما تخبرنا الروايه – الشكل الذي أخترعه النظام للمواطن وراح يفرضه عليه بمختلف الوسائل ويقسره على تلبّسه ، حدّ ان البطلين الرئيسيين في الرواية (( حاتم )) و (( ليلى )) يرضخان بعد تمّرد طويل ويتلبسان هيئه (( الكائن )) الذي (( أفترضه )) النظام لهما ، بعد تحوّل (( سعاد )) الى وحش في طور النمو ومصادرة (( بستان الدرويش )) العائد الى حاتم المتهم بالهروب من الخدمة العسكرية والتبعية الى بلد آخر واتهامه بممارسة نشاطات معادية الخ ..
(( كنت قد سلمت راسي للأولاد ، وأغمضت عيني ، وعبثوا بشنيبي ولحيتي ، واختاروا لوناً آخر لشعري وكنت أشاهد بين الحين والحين لقطة لصعود التمثال المقطعة اجزاؤه في صناديق ومع كل عملية تلصيق كان الأولاد ينتهون من مهمة تتعلق بهيأتي واكتملت القصة بالنظارة والزي .. ))
بينما (( كانت ليلى ساعتها قد خلعت ملابسها وارتدت ملابس أخرى ، وبدأت رحلة بلوغ الصورة التي في الملف ، وفي خطوات محسوبة قصت الشعر الطويل الفاحم حتى مستوى الكتف ، وحل ّ اللون البني المحمر بدل الأسود الفاحم ، وحلت الثياب السوداء بدل الملونة واختارت نظارة مناسبة وولدت ليلى ثانية ! ))
(( كان هنالك كائنان افتراضيان ، نسخة من حاتم ونسخة من ليلى .. تم نسخها بموجب ( الكراس ) .. ))
ثم يفاجئنا في السطر الأخير ب (( كائنان يستنسخان فصول رحلة جديدة بينما بدت السلاسل الحبلية بلا نهاية ، وهما يجوسان في ليلها الثلجي الحالك .. ويطرقان أبواب الزمن الجديد ... ))
هكذا يتطابق واقع الرواية مع واقع العراق ، فاما الأنمساخ أو التطابق مع (( الكائن )) الذي (( افترضه )) النظام ، أو الهروب حيث (( يجوسان ليلها الثلجي الحالك )) ، وكلا الخيارين يتضمنان قدراً من السلبية ويتقاربان رغم تناقضهما (( الهروب / البقاء )) ولكن لا مناص لهما / او لنا من السقوط في احدهما .. وهو ماكان !
هي شهادة العراقي في زمن اللاخيار فاما أن تكون سلبياً .. أو تكون اكثر سلبية .. قدمها لنا "طاهر عبد مسلم " بكثافة وقسوة وحياديّة .. رغم انها كانت حياديّة من تلتهب اصابعه بالنار ، واختار ان يكتب رواية كعزاء وكبديل عن الانطلاق ب.. ألصراخ !

...........................
بدأ بما يشبه الدغدغة / او هو مثل دبيب خافت ثم سرعان ما تداهمك الصور / الاحداث / والشخصيات بضربات
خاطفة وسريعة ولكنها تاتي في العمق دائما ...
****
استثمار جميل للوقائع اللاواقعية في عراق التسعينات ، حيث يبدو ايرادها كماهي
نوعا من التغريب
****
ذكرتني باسكندرية ليه وباريس والآخرون وجدار آلان باركر ولم تذكرني برواية محددة ..؟
****
أو ربما سأقول ليلة لشبونة + الساعة الخامسة والعشرون / تلّ اللحم ..؟
****
وحده المنجز الكبير يذكر بما يوازيه ويخطو معه ليصل لنفس المصب .. لقد تحقق فيها انجاز جميل خلال طرد ذات المؤلف من جنة روايته / هنالك تخلّص عراقي اولاً وعربي ثانياً من مرض روائي عظيم يتمثل في ألوهية الكاتب وملكيته الخاصّة والكاملة لروايته
بحيث يكون فيها المتوحد الأوحد
****
\
لقد حركت سكوناً هائلاً في نفسي وايقظت أملاً آخر .. في أن يُحلّق ابداعنا مرة أخرى مثل حمامات
ساحة الطيران .. دون أن تلحقها البنادق



شكراً لأنك منحتني فرحاً آخر
جلال نعيم
كاليفورنيا