Sunday, August 26, 2007

هذا مصباحك ياعبد الله ABDULLAH HER IS YOUR LIGHT


هذا مصباحك ياعبد الله



عندما فتح الباب كانت الطيور ساعتها جائعة وظمآنة ، جالت عيناه في الأركان التي صارت تتجدد كل يوم وكلما فتح الباب في سويعات الصباح الباكرة ، اذ يغط الجميع في نوم عميق ، فيما هو ينفذ دورته المعتادة في تفقد الغرفة ، تدفقت الرائحة من الأركان وانتشى الرجل ومال رأسه يمينا ثم شمالا ، ودخل في ذلك اليوم الذي سيجري فيه الأحتفال في الخارج ، دخل الرجل وأحكم اغلاق الباب من خلفه ولم يضئ مصباحا بل ازاح الستارة قليلا فتسلل الضوء البرتقالي الواهن ، جلس الرجل قبالة القفص الذي توزعت في داخله طيور الكناري وهي تتقافز بمناقيرها وألوانها المتعددة ، ومد يده وملأ حفنة من القمح وصار يسقط حبات تتبعها حبات والطيور تزقزق جذلا وتلتهم الحب وهو يسقط لها المزيد ، فيما الصورة هناك ترنو باتجاهه ، احس تلك النظرة تخترق الآفاق وتأتيه قريبة دافئة حيية ، كانت الطيور امامه قد اختلطت انسالها تماما ، فلم يعد يميز الأب ولا الأم ، بل تكاثرت تلك الطيور واندغمت في بعضها ولم يفتقد الا طيرا واحدا ابيض اللون ، لون نادر تماما بين تلك الطيور المنتشرة في القفص ، الزرق والخضر والرمادية والصفر ، اما ذلك البياض المشرق الذي تأتلق عنده الروح وتسكن في قرارة النور فكان نادرا للغاية ، ولهذا حزن تماما عندما فتح الباب كما هو معتاد في احد الصباحات ليجد الطير الأبيض نافقا و محاطا بثلة من الطيور الملونة ، كان خط النظر ناشبا هناك في اعلى الزاوية حيث تتجمع التحف الخشبية والزجاجية تحت الصورة تماما ، الزهرية البنية اللون ذات الفم الأسود الداكن ، الكرة الزجاجية التي تأتلق فيها اصص الزهر ، اليمامة الكبيرة من الخشب المحفور ، الصندوق المفصص المطعم بالفضة والعاج ، الشمعدان الذي تحتشد على ساقه قلوب ذهبية لامعة ، السلسلة الصفراء التي تتوزع على حبات العنب وكرات الرمان والكمثرى ، اللوحة المحفورة حيث يمتد النهر قادما من العتمة ، محملا بالبط والسمك فيما اشجار الزيتون الممرعة تحف به ، ظل الرجل يتنقل ببصره على ذلك العالم المتكاثف الذي بناه جزءا فجزءا قبالة تلك المنامة الخالية بملائتها الحريرية والسرير الخشبي الجاثم .
عندما خرج ، كان هنالك فتيان صغار قد بدأوا برش الأرض وصف الكراسي استعداد للحفل وعندما مر قربهم توقفوا وتأملوه وهو يذرع الشارع في هدوء ، مطرقا ، منسحبا الى عالمه الخاص .
عندما دخل السوق كانت تلك الواجهة مضاءة ، تحتشد فيها اواني الخزف والزهريات والثريات واللوحات الملونة ، كان قد لمح فيما المحل مغلقا في العشية الماضية ، لمح ذلك المصباح الزيتي النحاسي ،تأمله جيدا في ذلك المساء ، وتخيله بين يديه براقا مشرقا يمكن ان يملأه بالزيت ويوقده في تلك الليلة عندما ينفرد داخل الغرفة حيث لن يضيء مصباحا كهربائيا بل سيضيء مصباح الزيت ، ويقيم احتفاله هناك وحيدا فيما الصورة ترنو باتجاهه ، حيث سيردد تلك الجملة الأثيرة : " اقبل مني هذه الهدية ، اقبلها ، وضمها الى مجموعتك ياحبيبي ، اقبلها ارجوك " ، كان قد هيأ مكانا للمصباح ، تحت الصورة مباشرة ، وتسللت الى روحه وهو يحلم بذلك المصباح الذهبي الذي سينير عتمة الليل حيث لن يطفئه حتى الصباح ، وهكذا هو طقس تقديم النذور للراحلين ، كان امام الواجهة تستعرض عيناه ارفف المعروضات دون ان يلمح للمصباح وجودا ، دار دورة قصيرة امام الواجهة وجعل يحملق في الأشياء بدقة ، اذ قد يكون بصره قد خانه فلم يلمح المصباح ، كرر النظر للأشياء مفتشا عن ضالته ولكن دون جدوى ، عندها دخل الدكان ، كان هنالك حشد من الناس يشتبكون مع البائع في مساومات وكان هنالك اولاد يعدون الدنانير والعملات الأجنبية ، لم يتنبه لمنظره احد ، بوجهه الذي نالت منه الغضون ولحيته البيضاء الكثة وهزاله الواضح ، نادى على البائع سائلا عن مصير المصباح ولكن دون جدوى ، كررها مرارا حتى تنبه احدهم الى صراخ الرجل ونفاد صبره فمد يده باتجاهه ليناوله قطعة معدنية من فئة ربع الدينار ، ولكن الرجل صرخ في وجهه : " لست مستجديا .. ياولد .. ولكني اريد المصباح " فرد البائع : لايوجد مصباح ، صاح الرجل " ، "لكني شاهدته بالأمس بأم عيني " ، رد البائع مجددا : "بعناه "، اجاب الرجل بنفاد صبر : " مستحيل ، كان في الواجهة مساء امس وهاانا جئتكم مع اول الصباح فمتى تراكم بعتموه ؟ " ، اجاب البائع : " بعناه وكفى .. واخرج من فضلك " . صعد الدم الى رأس الرجل ودق قلبه بشدة وارتجفت اصابع يديه ونبض صدغاه وسرعان ماامسك بالبائع صارخا : " اسمع .. اريد المصباح .. تجلبه فورا الآن .. اسمعت ؟ " ، توقف الناس عن شأن البيع والشراء وصاروا يتأملون ذلك الرجل الهائج ، وتقدم صاحب المخزن بسرعة صارخا : " ماذا بك .. ماذا تريد ؟ " ، اجاب : " اريد المصباح فحسب ، اريده ، انه له ، هو هناك ينتظرني ، زرته في آخر الليل ، كان ملاكا نائما لكنه استيقظ ساعة قدومي ، اجل استيقظ ، هل يمكنكم ان تتخيلوا ذلك ، استيقظ ولكن كانت هنالك مسافات من الظلمات بيني وبينه ، مسافات لاتبددها الزهريات ولاكرات العنب ولا الكمثرى ولامنظر النهر الأزرق ولاتلك الطيور ، بل المصباح الزيتي لهذا اريده .. انه يردد .. هل سمعتموه .. انها الظلمات ياأبي .. الظلمات ، لهذا اريد المصباح ، احمله فيبدد الظلمات فأصل اليه ، انه وحيد ياهذا ، وحيد تماما كالأصبع ، بريء كالدمعة ، انه حزين بسبب الظلمة التي تفصل بيني وبينه ، هل تدرك تلك اللحظات المرة ، عندما تتسرب الظلمات وتطبق على المرء ، هل تدرك ذلك الليل العاتي البهيم وانت تدور وتدور ، الطيور تنام والأشجار تنام والحجر ينام وانت مسهد ، تدور في الظلمات وهي تطبق عليك فاعطني المصباح من فضلك .. اعطنيه .."... ارتبك الرجل وذهب يفتش في صناديق الكارتون حتى جلب صندوقا مزخرفا .
خرج الرجل فيما الناس كانت محتشدة امام المتجر وهي تضرب كفا بكف .. كانت هنالك حشود من الناس والأرض قد رشت وتعالى صوت الغناء فيما الرجل يفتح الباب وفي يده يكمن المصباح في صندوقه المزخرف ، هتف الرجل : " ياعبد الله .. ياولدي .. هذا مصباحك الزيتي فاهنأ بالنور وتجلل بالضوء ، اقبلني بين يديك ، احمل مصباحك فينير لك الظلمات التي عذبتك .. ياعبد الله .. هذا مصباحك " .
كان قد فتح درجا ، باحثا عن علبة ثقاب يضيء بها المصباح فأذا البدلة تصدمه برائحة الجسد القتيل ، البدلة المدماة وثقوب الرصاص عند موضع القلب ، كان يتحسس الدم المتيبس وثقوب صنعتها الحرب فيما الرقص والغناء يتصاعد في الخارج وهو يتحسس تعرجات القماش المتغضن ، والمصباح يضيء وهو يمد يده الى الباب الصغير ، يفتحه تنطلق العصافير ، وهو يتحسس غضون القماش المترب ، ويتحسس غضون وجهه ، المصباح بين يديه والجندي عبد الله يتأمله من زاويته العليا ، وهو يتقدم مناديا : ياعبد الله .. هذا مصباحك .. فخذه .. وخذني اليك
.... 12/ 8 / 1991
القصة من مجموعة صعود القمر