Sunday, August 26, 2007

The Moon Rising (short story ) صعود القمر - قصة قصيرة


صعود القمر

# تكونت على الستارة مربعات ضوئية صفر شاحبة ، وتسلل الشعاع من اسفل الشباك ، كانت الغرفة ساكنة تدور في سقفها مروحة كسلى ، تتبع دوران اذرعها ظلال قاتمة صارت تكون غلالة من العتمة في السقف ، لم يكن ثمة احد في الغرفة ، ولكنك سرعان ماستشهد انبعاث جسد . اجل انه جسد المرأة ذات الثلاثين عاما بثوبها الأبيض المصفر وشعرها المستقر على كتفيها بنهاياته المقوسة والخصلات القليلة على جبينها الأسمر ، تنهض ببطء ، يتململ الجسد اليافع وتتثاءب الأنحناءات الغائرة ، تفتح الباب وتخرج للسطح ، يباغتها الضوء الساطع ، تتوقف قليلا ، ثم تتقدم باتجاه حبل الغسيل ، العصافير تزقزق وكأنها تتلوى ، طيور عابرة في السماء ، تنظر هي للسطوح المجاورة ، ثم تتقدم باتجاه الصوت القادم من مجاميع الصبية المنتشرين في الزقاق وهم يمارسون لهوهم اليومي ، تلوح على سطح الدار المقابل فتاة بيضاء مكتنزة بخطاها العجول ومحاولتها ضبط الملاءة حول جسدها ، فيما بدا بياض الجيد مشعا ولاحت خفقات الجسد المضطرب مع الخطى المرتبكة للفتاة التي كانت قد دخلت توا عش الزوجية . انصرفت المرأة عن حبل الغسيل ، وترقرقت امام ناظريها مويجات ذات التماع خجول . نبضات تشرق في حنو ثم تغيب قليلا لتشرق اخرى غيرها ، حبات الحصى المنتشرة في جوف الساقية والغدير الرائق الملون يتدفق ، تعلوه غلالة من البخار المتصاعد في حنو ، بخار بروائح عتيقة ، روائح تتدرج كتدرج الشعاع والألوان ، روائح معتمة ، مفضضة ، فمذهبة فبيض ، اجل بيض، تتدفق من مسامات الجسد اليافع المتوثب ، تركض الفتاة كمهرة جامحة في فضاءات خاصة بها ، فضاءات مشبعة بالمحبة والدفء ، بالهياج الخجول والتدفق الروحي الغائر الذي لن تسمع ايقاعاته غير الروح ، الروح المنفعلة ، المرفرفة ، الطائرة ، حيث الجسد بندول الساعة الكبير ، بندولها الناشب ، الماثل بين اقصى الحلم واقصى الرغبة ، وتتوقف الموجة ، ، تتوقف ، ونعود حيث كنا مشبعين بالرغبات ، ان نثقب جدار هذا العالم ونصنع دائرة تتسع للجسد ، نخرج منها لندخل هالة الأحتفاء ... بمن ؟ بالذي يأتي .
دوى النقر على الدفوف والدرابك وتصاعد التصفيق وعلت الزغاريد في ارجاء المكان والناس تتلاحق ، نساء بزينة رديئة وايد محناة ، صبية مذعورون ، فتيات يتهامسن ويغمزن لبعضهن ، رجال يفتلون شواربهم ، دخان يتصاعد ، قدور تفور ، صحون تمتلئ بالطعام ، وهاهي ، تسورها اجساد نساء بقامات مختلفة ، بملابس زرق وحمر ، بعباءات وبدونها ، روائح متداخلة ، نفاذة ثخينة القوام ، داكنة ، ايد تتسلل الى شعرها ، بعضهن يعبثن بقدميها ، يلطخنها بالحناء ، وهي جالسة كعرافة قديمة مثقلة بالأكسسوارات والأصباغ والأثواب المزركشة الثمينة ، عندما دوى العزف وملأ المكان ، انتفضت كطير ضخم ، رمى بجناحيه على الوجوه ، فانفرط الجمع ، جمع النساء ، صعدت على الدكة القريبة وتلوى الجسد ، رقصت هي ، زغردت النساء ، زغردن ، بجنون وصفقن بلوعة لجمالها ، اعتصرت كل خلية فيها ، اطلقت الجسد من عقاله ، وصنعت ايقاعها الخاص ، وتعذبت بالدوي غير المنظم ، ولكنها انتقت ضرباتها الخاصة بها ، ضربات متلاحقة عشوائية ، لاتعرف هدفها سوى اختراقها ، ضرباته المجنونة المفترسة الضاجة بالزفير الذكوري الشبق ، تحاول الخروج ، ايجاد ذاكرتها الخاصة ، ايجاد مكانها ، لكنها احست يديها مصلوبتين ، مسمرتين ، كلا الى جهة ، ساقاها مثبتتان بقوتين ثقيلتين ، والضرب يدوي ، دونما فائدة ، تطيش الضربات على الدرابك دون ان تصنع لحنا ، يلاحقها الزفير الذكوري والعيون الجاحظة التي تكاد تخرج من محاجرها ، الفم الشره الأكول ، الشارب الكث الذي تبعثرت شعيراته ، الزبد ، الأعصاب المشتعلة ، الجنون ، العرق المتصبب ، يذوي جسدها ، لتقذف جذوته الكامنة ، يهدأ ، يغيب قليلا ، خدر قديم وذاكرة تتلامع حباتها كحبات الحصى في النهير القديم .
تنتصب قوائم الحصان فجأة وهي ازاءه وهو كتمثال شامخ ، لايأبه بالأنواء ، لا بالريح ، ولابالشمس ، ولا بالتراب ، هاهو بكوفيته التي تحيط الوجه الطري ، العينان العسليتان ، وهو بزيه العربي حيث يحاط الوجه الطري وتبدو العينان العسليتان ، الشفتان النديتان ، الأنف الممتد مستنشقا هواء الأعالي " ابي ... اب ... ي.. ي .. ي.." يختطفني مرة واحدة ، مسكة واثقة جديرة برجل ، اكون امامه مستسلمة وهو يسوق الحصان ، الحصان يزمجر ناشبا حوافره في جسد الأرض ، يرفع احدى قائمتيه الأماميتين يحفر ، والأب غير معترض على هذا الأستعداد ، كأنه سكون يسبق العاصفة والأنطلاق ، دفعة واحدة ينقلب كل شيء ، الأرض تنسحب بحذر تحت الثلاثة القادمين ، انا وأبي والحصان ، الزرع البري ، الحشرات المذعورة ، الطيور التي تتناثر محلقة في الفضاء ، الأشجار المتقهقرة ، ونحن نتقدم ، الحصان يلهث ، يلهث ، ونحن نتقدم ، يزفر الحصان ، ابي يدفع ، يدفع ، ، وانا امسك رقبة الحصان ، اتحسس خطمه الصلب ، عرفه الذي انشب اصابعي فيه ، احس الشعر الكثيف ، النبض الوئيد ، فيما نحن ننطلق بمحاذاة الغدير .
خرج الجميع ، وبقيت امي ، وانا امسك قدمها وهي جالسة كتمثال قديم ( لم يبق ثمة شيء يستحق ، لقد رحل الفارس وبقي ا لحصان ) هكذا رددت امي وهي تلف الكوفية والمئزر والخاتم الفضي ، وتجمع الأحزمة الجلدية وعلب التبغ حيث تناثر ورق السكائر ولملمنا بعضه وبقي الآخر معفرا بالتراب ، اغلقنا الصندوق على تلك الأشياء ، اغلقت الشبابيك ، ابواب الغرف ، باب المضيف الكبير ، لاح لي فجأة ، وهو بجلسته الواثقة ، كسلطان قادم من عمق القرون ، كانت الوسائد المطرزة المتداخلة الألوان على جانبيه ، وامامه يمتد بساط صوفي سميك مكون من مربعات حمر متتالية تبدأ من المدخل وتنتهي عند موطئ قدميه ، وعلى الجانبين كانت مجالس الضيوف ، وعلى الجدران توزعت التروس النحاسية ، والخناجر ، قرون الأيائل ، آيات القرآن الكريم المخطوطة على رقع تشبه قطع الجلود .
ينهض ابي ، يتلقفني بقدرته الهائلة ، يحملني كيف يشاء ، على كتفه الصلب حيث استقر وتتدلى رجلاي على جانبي الكتف وهو يقطع غرف المنزل ليخرج الى مكانه الأثير ، عندما تسقط الشمس المحمرة ، الدامية في قعر المياه ، ويأتي المساء الثخين القوام او انه يكورني بقدرته فأتدلى ولا تلوح لي سوى قدمين ضخمتين تنحفران في الأرض بخفين احمرين ، فيما يتسلل الشعر الأسود لنهايتي الساقين ، شعر فاحم ، اتحسسه كخيوط معدنية ناتئة ، "اب..بي .. اب ..ي " كنت عالمه الأليف حيث يتدفق الصبا بلا قيود ، يتدفق بعفوية ، يقطع المسافات وفواصل الزمن ، اكبر ...اكبر ويكبر ابي ونحن نواصل اللهو ، فأنا سيدة كل شيء ، مطاعة اغترف من الدلال والتحبب الذي لم يكن لينتهي ، ولكنه غاب مع سقوط الشمس ، اجل ، لقد دخل جوف الشمس المحمرة ، رأيته يقطع المسافات على فرسه ، وأنا امامه ، وهويدفع ، يدفع ، يطرق على الكون المحتقن ، الممتلئ ، النابض ، الرطب ، يطرق ، يطرق تائها ، تنفتح الشمس المحمرة ، يدخل ابي ، يتدفق الدم خيطا نحيلا ، خيط قادم من الروح المسترسلة الممتلئة... يالأسى ، فأصرخ " آه....آه ...آ...آ...ه...ه أب...ي" ويخرج هو وتتصاعد الزغاريد في الدار ويدور المنديل الذي طرزت فيه زهرة دمي ... دم الشمس الغائرة في الزمن النائم . " وبعدها ياابنتي ندخل الولايات البعيدة " ، لم يقلها ابي ، ولكنه حملني اليها ، رأيت النساء بوجوههن الملونة ، وبشعرهن المنسق ، بأثوابهن المشعة ، وضحكاتهن المجلجلة . رأيت العيون تضحك والشفاه تضحك ، والأجساد تضحك ، كان ابي الى جانبي يأمر الباعة : ( اجلبوا لها كل شيء )، عندها حملت كل شيء ، كل ماترتديه نساء المدن ، وعدنا الى دارنا وكنت اعجوبته واعجوبة الجميع .
الغرفة تدور فيها ، في سقفها مروحة قديمة صدئة ، امرأة في الثلاثين تصف اثواب رجل ، وهي تمسك اسفل بطنها ، يعتصرها الألم النسائي المعتاد ، بدت لها الأثواب مثل فزاعات الطيور في الحقول البعيدة النائمة ، ارادت ان تضحك من كل شيء .. سيتبعثر ثانية . اجل ، سيبعثره رجل يحسن الأكل والنوم ، يحسن الشرب ، يحسن الأستمتاع بكل شيء لنفسه هو ، يلتقط رغباته الخاصة ، يرتبها على قياسه ، يشربها ، ينام ، يشخر بحرية ، تترامى اطرافه في ارجاء الغرفة ، رائحة هامدة ، لالون لها ، لاايقاع ينتظم وجوده ، سوى تصميم كل شيء على قياسه وتحديده ، له ، هو ، رجل البيت الأول ، ( رجل ) وهي ( امرأة ) ، تصنع عشاءه الساخن له وحده فهي منذ البداية تتناول طعامها القليل قبله ، عشاءه الذي يريد ، وجبته التي تتكون من اطباق ساخنة وشراب وجسد امرأة ونوم .
تصاعدت نوبة الألم وتصاعد الغثيان ، سرعان ما نهضت ، يد على اسفل بطنها ، ويد على فمها ، خارجة للسطح ، احست العرق يغزو وجهها ، تتنفس بعمق ، هواء عذبا ، تنهض ، ترى القمر يصعد الى كبد السماء ، اليف لونه ، ضوؤه روحي خالص ، بدت الغرفة المقابلة مضاءة النافذة ، العروسان ها هما ، زهرتان تتعانقان ، عبق يتداخل ، انشدت للظلين المتلاصقين قرب النافذة ، الأيادي المتشابكة ، يطفأ الضوء ، ويصعد القمر ، مركبا مشعا ، حاولت ان تتذكر آخر مرة تأملت فيها صعود القمر ، شعرت ان كل شيء قد مر خاطفا ، كضوء البرق القاصف ، رحل الأب وشاخت الأم ، واستسلمت هي ، اقفلت على نفسها ، ومالبثت ان اختطفت من غرفة ابيها . اجل هو اختطاف لاتدرك ابعاده ، سوى انها لم تكمل صنع عالمها القائم على غيابه ، تأملها لبقايا ملامحه ، انفاسه ، قوته الجبارة ، رجولته ، حتى دوت الطلقات النارية ، ودق المنديل الملطخ بدمها على باب المنزل يراه القاصي والداني ، عادت لغرفتها والمساء ثقيل ، المروحة تدور ، الألم يصعد بقوة كأسياخ نارية تجتاحها ، تخترق اسفل بطنها ، تتصاعد للروح ، تصاعدت الحرارة ، ادارت قرص المروحة ، دارت الأذرع الحديدية بقوة ، وتلاطم الهواء في ارجاء الغرفة ، اشياء قرقعت وأخرى سقطت ، دارت في الغرفة ، فتحت ادراجا ، اخرجت ملابس ، تبحث عن علبة المسكن ، تدفق العرق بغزارة ، انبثقت نوبة الهلع ، تفتح دولابا ، ثم تتركه ، تفتح درجا ، ترفع كرسيا ، تجيء ، تضيء الغرفة ، تطفئ المصباح ، تفتح النوافذ ، تمسك رأسها ، تختنق ، المروحة تدور بقوة ، تقطع الضوء باطراد ، القمر يصعد بثقة ، هي تتجرد من كل شيء ، تعتصر علبة المسكن . ترتمي على الأرض ، تبتلع ، تفتح عينيها ، تعتصر بطنها بقوة ، يتصاعد الدوي في رأسها ، الألم يشتد ، وهي تتلوى ، تتداخل الصور في رأسها ، نساء ، رجال ، دوي ، درابك ، دفوف ، اضواء ، المروحة تخفق بسرعة ، دوي هائل ، وقع حوافر حصان جامح ، ينفتح الباب بقوة ، تدخل الفرس المطهمة ، يعتليها جسد ضخم ، مقتدر ، يمد يده ، تزحف هي على ارضية الغرفة ، تتلوى ، تبكي بحرقة ، الضباب يلف الأشياء ، يمد هو يده ؟، ا ..ب ... ي ... أ ب ... ي ، تمد يدها ، يلتقطها بقوته الواثقة ، يحفر الحصان بقائمتيه ارض الغرفة ثم يتعالى الصهيل ، وينطلق الموكب ويغيب .
..................................................

* القصة الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة اليوم السابع للقصة القصيرة – باريس 1990