Sunday, August 26, 2007

حب فرعوني



حب فرعوني


هناك في حدائق المكان ..وقرب مسبح صغير ..هناك في الليل الرطب ثمّ انعكاس ضوئي واهن على شفاه الزهر..والندى يبلل طاولات متناثرة حيث كانت هنالك خطى عابرين ..عندما بدا النزل موحشاً وممراته خاوية ..وليس هناك غير موظف الاستعلامات الذي نال منه النعاس ..وبدت السيدة مثل طيف فرعوني زائر حطّ في ذلك المكان ..مرّت كظل شفاف على وجوه واسماء ,وقلّبت تفاصيل مجهولة..من أين جاء كل هؤلاء النزلاء الذين لم ترهم من قبل؟
فجأةً دوت في رأسها صافرة الإنذار ..واحتشد المشهد بالناس المذعورين ..صراخ الأطفال وألسنة اللهب ,والمبنى السكني الذي بدا لقمة سائغة للحريق ..وخرج الناس من شتى الجنسيات مذعورين لا يلوون على شيء وهم يشاهدون منازلهم الصغيرة تتحول في أطيافها من ألوان النيران إلى ألوان الانفجارات ..والضجيج والصراخ والفشل المرير في السيطرة على الحريق ليأكل كل شيء بسرعة عجيبة..
ولذا خرجت عبر مساحة عريضة ..وهي ترى مساقط النيران وألوانها على الوجوه المذعورة ,وهي ترى السيارات الهاربة ..والناس المحبطين وهم يتحدثون بشتى اللهجات ..شعرت بوهن ..وانقبضت روحها وهي ترى حجرتها أسيرة للدخان واللهب ..مازال هنالك وقت لكي تنزل النيران من الطوابق العليا إلى حيث حجرتها في الطبقة الأرضية ..ولذا راحت تناجي أشياء عزيزة محتجزة ..أشياء تستعرضها ..لا..هي ليست في حاجة لملابسها ولا لأثاثها ..هي بحاجة إليه..وحده تمثال ..آمون رع..تناجيه في عتمة المكان وتنشج بين يديه :"كم أنا ذاوية وروحي متراعشة في فضاء ممتد خارج الدنيا والحريق".
مرة .. لا تدري متى بالضبط .. لكنها في صيف عابر قريب .. قالت له أنها ابنة آمون رع أو هي أمه .. وفي ساعات الليالي المقمرة الطويلة سترتدي مخملاً من طيبة وتنزل إلى البحر لتخضب قدميها بمياه الليل .. ولتلبس الأصداف قلائد وخواتم .. ولتجس ّ وجه الرمال .. وتلوذ بجسد البحر .. مرةً قالت له ذلك ..وكان يحتسي شيئاً من عصير ..وبدت نظرته ساهمة ..وهو يحاول جمع حروف اسمها ..ثم يطلق ضحكة قصيرة للريح ..وهي ترنو الى محيّاه الطالع وخطواته الواثقة ..مؤكّدة له أنها مأخوذة في الليالي المقمرة إليه..الى آمون رع ..فهي أمه ..التي ترضعه صغيراً وتسقيه لبنا سائغا.
وسيكبر في خيالها وتقبّل جبينه الأسمر ..وهو يكبر ويكبر بين يديها وفي حجرها ووسط أحضانها ..وهي تسقيه عبقا فرعونيا يذكي فيه شموخ الرجال ..وهي ستغدو ابنة له ..وهو بقامته الفرعاء وحدبه عليها ..سيبقى هكذا بهياً كبيرا ًدائماً.
عادت الى الضجيج خائرة القوى تتشبث بركن بارد بعيد فيما يتناهى إليها صراخ فرق الإنقاذ وعربات المطافئ وهي تشهد أسراب النمل وهي تخرج من مخابئها ….مر الناس كشريط المجهول ..هذا يولول لفقد جواز سفره وذاك لاحتراق شهاداته والآخر لفقدان مصاغ زوجته وآخر لفقدان لوحاته العزيزة .’وتلك تبحث عن كلاب جراء دفعت من أجلهم دم قلبها وهي تربيهم وتكبرهم وقد اختفوا جميعاً وبين من يحمد الله على السلامة ’ومن يولول على أثاثه ومتاعه ..هكذا كان هؤلاء ..جوقة كبيرة كانت مختبئة في شقق المبنى ..لم ير ولم يعرف أحدهم الآخر ..الى الآن
وقفت هي هناك خائرة تتشبث بركن بارد أرادته بحراً شتائياً وعصفاً ودفقاً للنثيث ورائحة السمك والأصداف واليود .. وتأملت في الأفق السماوي ولاحت لها صفحة قمرية سرعان ما تداخلت مع وجه آمون .فانتابتها رعشة مفاجئة ... وأطرقت ، ثم تسللت نظرتها الى سفائن النور التي تتنقل على نجوم الغرباء في ذلك الليل . وتمنت لو كان هو بقربها فينطلقان في عربة من الفضة واللازورد .. وينزلان عند مملكة آمون رع التي أعلنت الآن طقوسها ودقت طبولها وأطلقت العنان لعازفيها بتعاويذ الكهان .. وآمون يحتشد وينزل بأثوابه ليطلي جسده بزيت الغار ويتطهّر في مياه بحره المتثائب النابض .
مرت أمامها ثلة من حاملي السلالم الطالعين الى النار ..وتشبثت بأحدهم وسألته ان ترى حجرتها ..فتركها الرجل محملة بنظرته الساخرة الرافضة ولذا وقفت كطلل طيبة .. صامتة كالغريبة ، لكنها فجأة عادت الى قرع الطبول وضجيج تعاويذ الكهّان الذين قادوها وخضبوا أصابع يديها ورجليها، وترا عشت أمامها اسماك الفضة وفراشات النور وانساب الماء بين يديها .. وهي ترى تمثال آمون محاطاً بغلالة ذهبية .. وهي ترنو لصمته وذراعيه المتعامدتين وأصابعه المتشابكة كان هناك ينذرها بأنه قادم الى غمامات ليلها وياما رأته في نومها ويقظتها وسقته ألذ ما تحبه لنفسها ’وشاركته الكلمات والقصائد والتعاويذ ..تاركة له مساحة هائلة لمداواة كيانها المعذب بالوحشة والفقدان..ربما كان آمون وحده هو الذي غاب في ليل المدينة وأشعل غضباً رهيباً تشظى في المكان .. وبقي هو حيث هو هناك رافضاً .. شرساً .. عنيفاً .. ورأته هي في صورة اخرى لم تستبعدها ... ولذا فكلما اشتدت عليها فكرة غضبته سافرت الى البحر .. وارتدت ملاءة الكاهنات والعرافات وتغنت وحيدة على سقوط قرص الشمس الدامي في بحار آمون العميقة ونقلت في يوم ما للرجل نفسه شيئاً من أشعارها وتعاويذها العتيقة وكانا يذرعان أرصفة المدينة في ظهيرة شاتيه ..وأكّد لها ان هناك مساحة ما بمثل براءة البحر تمتد عميقاً في نفسها وستثور وتتوالد وتشتد ..وقاطعته بأنها مساحته هو التي لا تتسع إلا لكلماته وملاحمه وأيامه..
كانوا هناك أفارقة وغرباء ..حاولوا درء اندفاعها بينما المرأة الأخرى تبحث عن كلابها والأستاذ يبحث عن شهادته الفخرية والصبية تبحث عن دميتها كانت تسير بملاءة رمادية عندما تسللت إليها كف الصبية صغيرةً باردة راعشة .. تشبّثت بأصابعها كالغريقة .. أرادتها مشاركة في رحلة البحث عن الدمية .. وصفت الصبية شكل دميتها .. شعرها المنساب .. وجهها الدائري الوردي .. شفتيها الممتلئتين .. ثوبها الأزرق البحري .. كفيها المحلقتين في فضاء مائي أو بخاري .. كانت الصبية يافعة نحيفة القوام حادّة الملامح .. لكنها بدت واثقة مدافعة عن ذات اخرى تخصها .. وناشدت السيدة إن تنضم إليها في تخليص دميتها من النار .. لم تقو السيدة أن تخفي في نفسها ارتعاشه روحها وان تعرب عن قلقها نفسه إزاء القسم الآخر من كيانها الذي مازال هناك في المجهول بين النار والدخان وخراطيم المياه وصراخ رجال الإطفاء وهلع الناجين ..حتى بدت مطالبة السيدة والصبية بشيء مما يسعيان له ضرباً من الجنون والبطر...
وقادت الصبية بين أفواج الناس .. وتراءتا وسط غلالات الأضواء التي غلفت المكان ككائنين قادمين من الماضي .. من ماضي المعابد .. من بلاط آمون نفسه .. تسيران كمن يطفو على سطح مائي .. ويجتازان العتبات ويرتقيان في الطلوع السحري .. وهمست السيدة للصبية بأنها هي نفسها تبحث عنه هناك إذ تراه في كل يوم شاتي إن صائف أو ربيعي أو خريفي في منتصف ليل .. أو في فجر .. كما هو .. محاط بهالة برتقالية مقدسة .. ويتّقد نور ابيض شفاف .. يتقدم كمحارب مخضرم واثق .. مثقل الخطى .. خداه منحدران الى ذقنه .. عيناه مسهّدتان متعبتان .. شعره طويل منسدل .. وشاربه مخملي هكذا رأته وجسّت شفتيه ..شفتي آمون رع ..نفسهما اللتان نطقتا بالإخلاص للرحلة ..عندما شربت معه من عصير المعبد نفسه ..عصير العنب الأحمر عندما مرت حاملات القرابين وسط التعاويذ وغمامات البخور وضوء الشموع ..
وصحت السيدة من شدة ولعها بآمون .. وقرأته مرارا وكشفت أسراره وحفظت تعاويذه وأشعار الكهّان من حوله ..وعرفته حقاً واتحدت به ..وتغلغلت في إنسانيته الشفافة ونقائه الفريد ..وطيبته التي فأنعشت فيها مواسم البرتقال والآس والخزامى والغار ..إذ فاضت من حوله أوفياء محملة بعبق السنين وتمنت مراراًٍ لو غرفت هذا العالم منذ سنين ..
كان ذلك يوم عصفت الريح وهاجت أمواج البحر عاصفة شرسة وغلفت بالرذاذ كيانها .. وهي تراه هناك في الهيجان قادماً على مركب من الفضة وحيداً طيباً يوسع لها المدى كلما ضاقت الدنيا عليها...
رحّلوهم جميعاً صغار أو شيوخا وقططا وكلابا وعصافير ..رحّلوهم الى ذلك النزل المحاذي للبحر الصامت الرمادي ..ووجدت السيدة نفسها الى جانب الصبية ..هكذا توشكان ان تنهزما..وتخسر هي الى الأبد شيئاً ما ..عزيزا غاليا لكل منهما لكنها وهي ترى الباص وقد غصّ بالناس والطيور والقطط والكلاب ..نفرت واندفعت عندما انطلقت طبول رع من عقالها بالطيور البرية والطواويس ومسوح الكهان والنيران المطفأة ..رأت المبنى كهفا حجرياً قاتما يبتلع الناس والأشياء ...... لكنها شعرت باحتشاد الإرادة في داخلها .. وهي تخوض في نهر من الرماد والحطام والماء الأسود والشظايا .. كأنها ركبت زورقاً مجنوناً انطلق بها في كهوف مائية .. وراحت تناديه .. في تلك الآونة الذاوية من الليل .. واصطدمت بأبواب ومنافذ وبقايا جدران .. ولاحت لها أساور من فضة وبقايا أثاث محترق ..وأجهزة هاتف طافية وبقايا صور وتذكارات محطمة ودفاتر واوراق مشبعة بالرماد ومياه الإطفاء ..حتى إذا صمت الزمن ..ولم تعد تسمع نداءات مكبرات الصوت المحذرة بأن بقايا المبنى سينهار في وقت قريب .. .. اندفعت الى ركن ناجاها .. والتمعت منه صورة ما .. طاولة كان يشاركها فيها شخص ما..#
حزيران (يونيو)2000 القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
……