Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل السابع

رواية : الكائن الأفتراضي - الفصل السابع
كان النهار طويلا والطائرات المروحية جالت مرارا في محيط الدار وانا في طريقي اليها ، كانت هنالك سيارات اخرى للشرطة قد طوقت الدار ، وما ان وصلت حتى وجدت نفسي في مواجهة اسئلة جديدة ، معلومات حول سيرة ( ... ) , صديقاتها ومعارفها ، كان الضابط ذا سحنة سمراء وقد احتل مساحة من وجهه شارب كث وارتكزت عينان صغيرتان في جمجمة كبيرة ..
وبين الحين والحين يمد لسانه ليرطب شفتيه الداكنتين ... كنت اشعر انه لم يأت من اجل ( ... ) فقد غابت ويئس اهلها من عودتها، كان يبحث هو ومعاونوه في اوراق الدار وسجلاتها عني.. انا .. وعن حاتم، لأنه ما كان يهمهم هو أية ورقة فيها امضائي او اسمي وليس اسمها .. وشعرت بثقل بحثهم على صدري ولكنني بادرتهم برد اربكهم بعض الشيء:
* نحن نحتفظ بوثائق عن النزيلات للحفاظ عليها واية معلومات عنهن تحتاج الى موافقة الوزير .. الا في حالات الموافقة القضائية في الحالات الجنائية .
* نامل منك التعاون.. فنحن مكلفون ...
* وانا نفسي مكلفة .. والدار بنيت بمجهودات نزيلاتها .. ومساندة المؤسسات..
* هنالك امور امنية تخص النزيلة( .... ) جئنا نتحرى عنها
* معلوماتي ان جميع وثائقها سلمت الى مكتب العلاقات في الوزارة ولا جديد لدينا .
شعر الضابط بالعجز وانه اسقط في يده وبدا انه يقوم بدور خارج مسؤلياته وباغتته هي:
يؤسفني ان اقول.. اننا في محنة .. الكاميرات والمفتشين في كل مكان.. كما ترى.. انظر الى السماء.. تعال انظر من النافذة.. انهم يتنصتون ويرصدون كل شيء واي شيء ونحن نمارس الحذر في اقصى درجاته في حفظ الوثائق .. ولا اريد ان اتحدث عن ما كلفنا به من حفظ لوثائق حكومية مهمة .
ارتبك الضابط اذ لاح شبح القوة والخوف من هذا المشهد المحتدم .

كان هنالك نوع من الموظفين الحكوميين -وهو منهم بكل تأكيد - الذين ادمنوا على الخوف من القوة .. لم يكن يعنيهم من هو على حق وما هي حدود ذلك الحق .. المهم من يملك القوة ، ومن هو قادر على الأيذاء والعقاب وايقاع الضرر .. كانت بلبلة لا حدود لها قد استشرت في الزمان والمكان ... بلبلة تستبطن الذات في فهمها للعقاب وممارسات القوة ولهذا انخرط الموظفون الحكوميون في نوع من القلق بل الرعب من مطرقة القوة والعقاب .. وبدت هذه الصورة جلية في عيني الضابط ومساعديه اذ ارتجفت ايديهم وبدوأ باغلاق الملفات تباعا او راحوا يبررون ما اقدموا عليه..
جاءت ( سعاد) , همست في اذني أن شرطيا يدور في غرف النزيلات .. اشتعل الغيظ وقلت للضابط :
* هل انتم مع ديفيد كي ام مع هانز بليكس ام ...؟
* لسنا مع احد ..ن.. ن.. نحن من الشرطة..
* وهل واجبكم هو امتداد لواجب المفتشين في تقليب دواليب القاصرات والمعوقات من نزيلات الدار والتفتيش في ملابسهن..؟
* لا..لا.. ابدا ...
* لقد صورنا شرطيكم وهو يقوم بذلك.
احتقن وجه الضابط وتعرق ، وجفت شفتاه وتلعثم وارتدى قبعته سريعا وترك ما في يديه واسرع خارجا يتبعه مساعدوه .

كنت اشعر بالاسى لمنظر الرجال وهم يشربون الأهانة بهذه الصورة وغيرها من الصور ، لم يكن القانون هو الذي يلاحقهم بل كان شبح الوقيعة والقوة والقهر والأذلال وقد تجسمت كلها في الرعب الذي انتاب الضابط اذ بدأ يستنتج في رأسه اشياء لا وجود لها اهمها على الاطلاق اني لست صيدا سهلا والمكان لا يمكن ان يتحول الى مرتع خصب واني انسق مع جهة اكبر منه واكتب تقارير في افاعيل فصيل الشرطة هذا .
لم يكن شيء من ذلك موجودا فعلا لكن الخبرة تراكمت وصرنا نتشاور دوما في كيفية مقاومة هذا المد المجنون والماجن الذي يمد السنته واذرعه الاخطبوطية لالتهام كل شيء حتى هذه الدار التي تلوذ بها النساء وسط العواصف .
كنت بعد انفضاض ذلك الفصل من المواجهة قد عدت الى ذاتي , احتساء مزيد من القهوة واسمع من الطابق الأعلى تجليات المكان.. هناك في الغرفة النحاسية المشعة بالأمل ، كان عزفا وتريا مدهشا حملني ان اقطع الممر جيئة وذهابا ، كانت الغرف مفتوحة والنزيلات منشغلات بالخياطة والتطريز والضحك والتفكير والتهام الطعام، كل في شأنه .. ولا شأن لهن في خلوتي التي اعتدن عليها.. ولم يكن هنالك من يقطعها غير اثنتين: سعاد او ريمه .
بدت ريمه مثل مهرة جامحة رأيتها وسط غلالة ضبابية من النافذة وهي تنشر الغسيل وهي تدور في الحديقة ، كانت شفافة وحالمة.. وكان صوت الكمان قد غلف المكان بسحر خاص
حدثت ريمه عن الجمال الذي لا نستطيع تصوره ، الجمال الشاسع الممتد بامتداد الكون .. الجمال الذي بثه الله من حولنا وفي نفوسنا , باقة الألوان المشرقة التي تم ابتسارها الى هذا الجفاف والقلق والجدب والخوف من الغد ، غابت الوان الدنيا واتساع الطبيعة واختصرت الى دوامة ذلك الصراع.. اغرورقت عينا ريمه ونحن في الحديقة ، مسكتها من كتفيها وهززتها بود ..
* لا وقت للنواح...
* لا اجد متسعا الا معك ومع سعاد ..
* دعي الماضي ....
* لا ماضي .. كيف اقلبه ومن اية زاوية...؟
تتوالى في عقل ريمه صور متداعية متكاثفة, تترقرق في بحر ذاكرة مشبعة بالغربة .. لم يبق غير صورتها ..الأم في ابهى تجلياتها .. الأم المطاعة الفذة ، التي عرفها القادة وسكرتيروالوزراء وشريحة رقيقة الحاشية من النساء المترفات.. راحت تخترق اي شيء وكل شيء حتى كبر البيت وصارت غرفه تزداد وضيوفه يتكاثرون .
كان منزلا للأباطرة ، ابوابه مستوردة من الهند ورخامه من روما واثاثه من اصقاع اخرى ولياليه لا حدود لها.. اذ الوجوه تتوزع على المكان والسيدة اميرة من سلالة معروفة لم يبق منها غير أثر الاب الثائر وهو يسوط كتلة اللحم التي تمثلها الجدة الراحلة . كانت الرغبة في التملك قد استفحلت وباعت الدولة ما باعت من مصانع وطرحت في الصحافة قوائم بالفائضين من موظفيها ، واشترت الأم وشركاؤها اسهما واراض واستثمرت في كل ركن .. وكان عليها ان تمضي في طقوس وفروض تلك القلعة التي تقطنها وتضيف فيها الاباطرة ، كانت قد ازدهرت وزادت اشراقا ، وكان تمهيد الطريق اليها يتطلب الغاء وجود شيء اسمه زوج هامشي يمضي لياليه في قراءة الموسوعات وتاريخ الامبراطوريات والملوك والصعاليك .. كان في الماضي مدرسا نشيطا ظهر انه وهو يتحدث عن جبروت الملك اي ملك كأنه يشتم زعيما لا ينبغي شتمه ولذا التقطته الماكنة الحساسة واخضعته للمراقبة ثم تحفزت الماكنة بوخزة من مريدي السيدة والطامعين بعالمها الخاص .. فغاب .. ولم يكن غيابه يعني شيئا لدى السيدة ، لكن ما لم تكن تتوقعه هو انه كان مطلوبا عقلا ووجودا اما هي فمطلوبة جسدا وحسا وعاطفة وهي الاقانيم الثلاثة في ذاتها التي تشمئز من المساومة عليها وتشمئز من عبودية الذات ، الابوية الشرسة التي تسوط ظهر الانثى بالأيذاء والتلذذ والشراهة والشهوة والأنانية ..
كان اصطدامها بهذا الواقع قد بدأ يتسع اذ كثر الذين طالبوها بفاتورة المجد .. فاتورة الرفاهية .. فاتورة ان تكون وأن يكبر ملكها .. واحتدم الصراع عندما ركلت شخصا لم يكن جائزا اهانته .. اشمأزت من شكله القروي ومن رائحته ومن المرسيدس التي جاءها من ظهر حمار , سخرت من بدلته متنافرة الألوان ومن ذكورته الحيوانية ، ومن نظرته النهمة التي لا تليق بعلية القوم .. احالته الى حقيقته قبل المرسيدس وقبل صبغه الشعر الفاحمة .. احالته الى ( دقة ) الوشم عند ملتقى انفه بحاجبيه .. احالته الى قصص مغامراته الريفية وهو يتأمل الراعية وسط زريبة البقر ويتغزل بها ويكاد يهجم عليها .. كان يلملم ذاته المهشمة.. . بينما هي تقهقه عاليا ، على ان الحوار كان معتادا وساخرا ولا ضرر فيه ..
ما جرى بعد ذلك شهدته ريمة وسط الريح وقصف الرعد والمطر ، حشد من الرجال الضخام ، اقتحموا المكان يتقدمهم الرجل نفسه ، اجتاحوا القلعة من كل ركن ودخلت ثلة مخدع الأم ، وجرت فصول من الصراع ، ولاح شد وجذب ، وضربات خاطفة وكدمات واشياء ممزقة ، وبقعة دم وزجاج محطم وانقطع الضوء واندمجت الام بالضجيج والفحيح والخوف..
ولما طلع الصباح لم يبق أحد من الحراس او الخدم او الطباخين او الموظفين واختفت السيارات وانتشر رجال غلاظ على سطح المكان وحول سياجه ونشرت قائمة من سارقي قوت الشعب والخونة ومصاصي دماء الأمة في محنتها .. واحتلت الأم تسلسلا مرموقا بمصادرة اموالها المنقولة وغير المنقولة واحالتها الى المحكمة لتنال جزاءها.
ظل المشهد ذاته يتوغل عميقا في ذاكرتها ، كتل الاضواء القادمة من السماء .. الكتل المتشظية الكثيفة الألوان المختلطة بعتمة الليل ...الاعمدة الضوئية التي تجسم جناح الأم الذي عصفت به الريح وتمايلت التماثيل والدمى التي تصطف كفريق من الشهود ، تماثيل خشبية ذات وجوه طويلة وعيون جاحظة وأذان متدلية ...العرائس المتراعشة التي سرعان ما تساقطت من عصف الريح وتقدم العسكر... كانوا طابورا معبرا عن انتظام السلطة في المكان ، رأتهم بأحذية سود ضخمة ذات اعناق طويلة يسيرون بانتظام ويرفعون اقدامهم فيما كبيرهم الذي علمهم السحر يرفع ذراعه في الفراغ داعيا الى تقدم القافلة لأنجاز المهمة، كانت الشاشات قد اغلقت على صورة بالفيديو لوقائع الليلة الفائتة ..اظهرت صورة الصديق ، بالوشم على نهاية انفه وملتقى حاجبيه وبدا الصديق واجما مثل تمثال شمعي يرمق الرجال الواثقين من مهماتهم وهم يخترقون مخدع السيدة ، كانت الملاءات الحريرية قد عصفت بها الريح واصص الورد تطايرت , وجرى العبث باثوابها وجمعت مجوهراتها , كان هنالك من عبث بعلب المكياج , قام بتلويث وجه السيدة هكذا عنوة , لطخ شفتيها بالأحمر وكذلك فعل على اماكن عدة من جسدها، وخلال هذا كانت الصفعات والركلات قد القت السيدة مرارا من مكان الى اخر وجرت فصول اللاتوافق على امتداد الجسد الملاحق بالأوامر وعطش الرغبات , كانت المهمة وطنية بالكامل وابعادها هي امتداد للمهام الاخرى المدونة في الملفات والأسس النظرية ، وبدا ان ظواهر طفيلية بدأت تتسلل الى كيان الامة ، وكانت السيدة علامة من العلامات ولذا فان ما يجري لها هو لأعادة التوازن واتخاذ الحلول الجذرية وبمباركة من الرجل الذي كان يشهد النزال كاملا , يجلس على كرسي ويدخن سيجار هافانا والأولاد يقطعون ازرارا واحزمة ويفتحون مغاليق واقفالا على وقع الريح وقصف الرعد وفوضى الأضواء الصاخبة ووقع خطوات الجنود الذين لا يرون ولا يعنيهم ان يسمعوا اي شيء عدا الاذن بالتدخل والاندفاع في التنفيذ.
كانت هنالك الات ايقاعية قد ملأت الشاشة قبل النوم , واندمجت ريمه مع الضربات المتلاحقة حتى استسلمت للنوم لكن اصوات الدفوف والطبول ظلت تلاحقها وسط كابوس طويل افضى الى تناثر التماثيل والدمى تحت قصف الرعد وتدفق الريح وسيطرة جنود المحمية على الهدف تماما والتخلص من حالة من الحالات .
انقطع المشهد في عقل وعيني ريمه وراحت تختض بشدة , الحرارة تفتك بجسدها والعرق يغزو وجهها واطرافها , احتضنتها وراحت تجفف عرقها وتسقيها , وظلت الى جانبها حتى الصباح.. وشعرت ان ريمه قد تخلصت من ذلك الكابوس تدريجيا، وقررت ان ترافقها وهي تدرج في سبيل ان تصير امرأة في الغد وان تغيب اشباح ذلك الليل ورعب المشهد والاظافر المدببة التي نهشت صباحها الغض . شمت ليلى ريح حاتم , واشتاقت اليه وقررت ان تقصده في الغد , كان اسمها ورسمها قبالته وهو يقرأ السطور السرية من هيثم .. رسالة مشبعة بتفاصيل الرحلة:
"حاتم ...
هل انت وحيد ؟ , احسبك متماسكا لا تشعر بالوحدة والعزلة, احساسان مركبان شعرنا بهما، ركبنا سيارة اجرة صفراء اقلتنا من وسط البلد في عمان باتجاه مفوضية شؤون اللاجئين، كان قلبي ومن حولي يدق بعنف ، سنقابل المصير يا حاتم ، المسؤولون الكبار الذين يرتبطون في ذاكرتنا الجمعية بكل العتاة الذين يهينون كرامة اعتى الرجال اولئك المتغطرسون المغرورون الذين يذلون الضعاف من الناس ، شعرت بهشاشة صورتنا ، انا وامك واختاك ، الطفلتان لاذتا ببعضهما بعضا وامك ظلت تسبّح وتكبّر وتهلل وتستغفر بعدما امضت الليل في اقامة صلاة الحاجة والبكاء والدعاء . تعلن القصة ، حفظناها عن ظهر قلب ، القصة التي يجب ان تلقيها امام لجنة المفوضية كي يقتنعوا انك انسان مضطهد وتستحق اكتساب صفة اللجوء والحصول على مكان آمن.. ياه كم بعدت المسافة الى المكان ، عبرنا الشارع مشيا وشاهدنا ملعبا للكرة ثم نقطة حراسة ثم امواج بشرية امام المفوضية وعلى الجانب المقابل ، بدأت قصص جديدة .. هنالك باعة وثائق تثبت انك مضطهد ومطارد ومسجون وذووك قد قتلوا وشردوا ...بينما الذين قتلوا وشردوا حقا لااحد يسأل عنهم فهم هناك بعيدا ..بعيدا جدا ...
يكفي الى هنا يا حاتم واليك صور واجهة شقتنا وصورتي انا ومنى نتسلق الجبل ، عبر سلم طويل ، مازلت امارس هوايتي في التصوير , اما امي فيصعد ضغطها وتبكي كلما تذكرتك ...انا بحاجة الى ليلى.. اكرر للمرة الألف ( احسدك عليها ) .. احلم في اليوم الذي سأحب واتزوج نسخة منها .. فيها عبق امي وصفاء روحها.. اما عاطفتها.. فيكفي أنك مجنون ومشرد بسببها .. اليس كذلك؟ .. لا يكفي ان تسلم عليها .. قبلها على جبينها بالنيابة عني وعن امي والبنات اللائي يتحدثن عنها في كل حين ..اتمنى ان اراها هنا معنا .. وابق انت مشردا يا صاح ، اليك الصور......
آخر لقطة:
اجلت المفوضية النظر في طلباتنا واعطتنا اوراقا لمواعيد مقابلات جديدة ...وقال الحارس ساخرا.. املأ ياأخ العرب.. واحسبه قلق من خسارة الامة العربية لصعلوك مثلي وآخرين من ابنائها وهم يتركون بلاد العرب اوطاني من الشام لبغداد ...حاملين عصا الترحال الى ارض الفرنجة.
تكاثرت ياصاحبي اعداد طالبي اللجوء.. أكراد وتركمان وآثوريون وسريان ومن الشمال والجنوب و.. و.. ونحن في وسطهم كان الأطفال ابناء المشردين المتقدمين بطلب اللجوء يتوزعون على بضعة العاب وضعتها اللجنة كي تضمن اشغالهم وعدم عبثهم في المكان ..
نظرت اليهم عبر مربعات السياج , كانوا قد انصرفوا عن ذويهم تماما ، آباؤهم وامهاتهم يذرعون المكان جيئة وذهابا قلقين بانتظار المقابلات والتحقق من ( التاريخ النضالي ) لهم .. التقت عيناي بعيني طفلة احسبها قرأتني على انني مسكين ومهدد بالرفض واغلاق ملفي .
قالت الطفلة في سرها :
اطفال جئنا للدنيا ، نحن عراقيون ، ولكننا تركنا بيتنا ، لا ارى غرف منزلنا في حجرة الفندق التي تكتظ بنا.. انت مثل جارنا هلال الذي كان يلاعبني ذهب الى الحرب ولم يعد ، هل سيرفضونك فتذهب انت ايضا للحرب ولا تعود ؟.. لا تملك شيكولاته .. ولا عندك هدايا . فأنت خائف مثل ابي ، عندما أكبر سأبحث عن هلال الذي يشبهك.
نشر حاتم الصور في المكان , وعلق بعضها وراح يدخن وتلوح زرقة الفجر وهي تغلف واجهة المتحف , والحارس ذاته يدور حول الجدران الداخلية..

سمع في الافق حداء بعيدا ، ترانيم مقامية بعيدة وصوت مشبع بالماضي وترجيعات اسطوانة عتيقة ، التشويش المرتبط بالظلام والمدار الكحلي الذي غلف المدينة ، الصوت المقامي المتوحد الذي يقتفي أثر الصور العائلية المقتطعة من اماكنها ، يتصاعد الصوت ممتزجا بوقع خطى متعثرة لمشردين وعمال مثقلين بالسهاد وامهات يطاردن شبح الموت الذي يلاحق اولادهن المحاصرين في مستشفيات متعفنة وخاوية ، المستشفيات المتحف الملحقة بلجان التفتيش وبالأنجازات الوطنية ( عبر التاريخ .. ) اصوات الليل تمزج ظل ليلى بكلمات هيثم .. والصور تتلاحق متراعشة في المفيولا .
تكونت الجريدة السينمائية من نحت يومي على اشرطة ( السلولويد ) ، اشرطة السينما الخام ، كما كانت تفعل الموجات ( الاندر كراوند ) ، النزعة الدادائية وحفريات ( الأثر ) التي يشتغل عليها ( شذاذ الآفاق ) او هم المشعوذون .. كانت تلك هي الوجوه الآدمية التي رآها على خط المواجهة والنار ، صفير الأذن يتصاعد في تلك الساعة من آخر الليل ، شرطي المتحف يجرجر أذيال السهاد ، وصافرة شرطي بعيد تنبه الى وجود السلطات وسيارة اسعاف تعلن عن نفسها انها ذاهبة الى مستشفى ( الكرامة ) في الكرخ محملة بمزيد من الاطفال الرضع الذين يشرف على احتضارهم بيان التلفزيون الحكومي والفتية والكهول والعوانس والمشردون وكل المؤتلفين المتحلقين حول الشاشات ..
صفير الأذن يتصاعد مثل نفخة في بوق هائل يقض المضاجع ، مضاجع الخلايا النائمة في اللاوعي ، امتد خط الصفير مقوسا ناعبا متشظيا ، ودب النمل على صيوان الأذن ، الصيوان المستهدف بالقرار الرئاسي ، الهدف الأستراتيجي للحكومة ان تقضم الصيوان ، فتتصاعد بالونات الفرح وكرنفالات المجد في ساحة الأحتفالات ، السيفين المتقاطعين مثل مقص جبار يحف بصيوان الأذن ويشعل فيها لهيبا متصلا ، تدور الموفيولا،
* صورة هيثم امام مبنى UNHIF
* صورة امي تتشبث بياقة بطرس غالي وبخرقة ال UN
* صورة الاقزام يحملون صيوان أذني ويدورون في بستان الدرويش...
* صورة سعيد وهو يتنقل على سطوح خرائب الشواكة مثل BATMAN
* صورة اصغر ضابط شاهدته في حياتي بشاربه الضخم وأنفه الأضخم المتدلي حتى الذقن...
* صورة المتحف وقد خرجت من شارع الموكب غيلان تائهة وافعوانات وخنازير وحشية وراحت تدور في شوارع علاوي الحلة بحثا عن صيوان اذني..
* صورة الخيانة في وجه الخائن الذي عرضوا صورته على الشاشة ( كلك) ضغطة ماوس واحدة من جهة اليمين ثم اعمل له Delete واسحب السيفون ثم اعزف السلام الحكومي ...
* صورة النمل يدب على الصيوان ويلعق ما تيسر من اصوات ، بقايا اصوات القادة ورؤساء العرفاء والعريف الخفر وجندي القلم والتجنيد والوقوعات والقصعة التي ترقص فيها الصراصر حتى النصر .
* صورة ليلى.. صورة ليلى.. صورة ليلى.. صورة ليلى .. ليلى..ليلى..ليلى... ليلى ... ليلى.. ليلى..ل .. ل.. ي.. ي .. ي... لى... لى...لا..لا..
دار دورة عنيفة مع دوران عجلة المفيولا وانقذف بعيدا مرتطما بالجدار ، جدار الصور ثم كان الباب ، الباب الذي استقبل زرقة الفجر الشفافة ، الزرقة المتحولة الى اللون الرمادي ثم حمرة الشفق والشروق ..
ثم كان الباب بانتظار قبضة سعيد ... الطرقة المعهودة الثلاثية: ( عبور.. عز...عزرائيل) ثم الطرقات طاق ...طاق..طاق وثمة عصافير استيقظت وتجمعت على سطح مدخنة السينما ، وفاحت روائح الازقة ممزوجة بالبيض المقلي والفلافل البائتة . رفس سعيد الباب ووجد الكائن حاتم ملقى على الارض والصور ذاتها من حوله و حلقات الجريدة السينمائية متصلة على الشاشة . عاد حاتم الى طابور المواطنين المتعطشين الى الذرى والصعود الى عليين وراح يحتسي الشاي وسعيد يدخن , شفته متدلية قليلا ، يده على الجدار عيناه على حائط الصور، انفه محمر ورأسه تدور ..
* " سيقطعون ثديها اليوم في مستشفى الكرامة" ...
تجمدت حواس حاتم ، الشاي سال على ظاهر اليد والدبق امتد الى العينين ، الحرقة الشديدة ، الشاي مر، ولاذع، المكان يصغر والاضاءة تتحول مع دوران الشمس حول الحجرة الرطبة ، اوقف عجلة الموفيولا واقترب من الهدف
* اتقصد...
* كانسر متقدم، الخطر التهم الخلايا ، س..سرطان .
* مهمل ، تائه انت ، لا تجيد سوى الندب والانتحاب مثل بوم ينشر الوحشة..
* واين البهجة في عرفك يا صاح..؟
* التشخيص المبكر ، العلاج..
* هاه .. علاج الزكام تقصد ولا حتى باراسيتول في صيدليات الأمراض المزمنة..
* لم تحاول.
* اذهب الى الجحيم، اتسمع بصيدلية بلاط الشهداء على طريق الطوبجي ، اذهب الى هناك .. اوكي .. اسأل عن دواء للغازات وترياق للسعادة والمجد العظيم عندها ستعرف انه اليورانيوم المنضب صار جزءا من خريطة البلاد .. مدينة هائلة لتصدير الكائنات الوحشية وغير المرئية التي نشربها جمعيا مع ماء دجلة ونلتهمها في طعام الحصة التموينية .. افهمت ايها المغفل...؟
* وماذا عن ليلى .. كارثه..
* لم آت لأرى وجهك ...جئت من اجلها .. منال تريدها .. لم تنم منذ ليال .. تولول لا تريدني ولا حتى امها . ليس سوى ليلى... انني .. انني .. انني ..
( لم يكمل وارتمى بثقله وناح على كتفي ) .
توقف الزمن ... دهم المكان احساس ثقيل ، وحش قوامه سكاكين ستفتك بأبهى ما في الجسد من جمال ، ينبوع الهي للرحمة ، التقمته الأجيال وما زال يفيض لبنا سائغا ، وحتى منال ,أية عذوبة تمتلكها تلك السيدة ، اية شفافية ونقاء ، وانى لها ان ترى بشاعة الاحتراق على الصدر والحفر الدموية . والشرايين والأوردة المقطعة . . وكيف ستتلقى ليلى الصدمة ؟..
غاب سعيد فجأة وقال انه سينتظرني ان شئت المجيء , هناك عند غرفة العمليات .
لحظات وعاد :
* لست وحدي .. المكان فيه غرباء .
* من ؟
دوى وقع خطى متسارعة على السلم الحديدي المتهالك باتجاه غرفتي في اعلى السينما وشاهدت اشباحا خاطفة ذهبت الى غرفة العرض واخرين صعدو الى السطح وفجأة ظهر نجمان ببزته العسكرية ونياشينه الكثيرة ومسدسه.. صار وجهه في مواجهة وجهي ، قرأت في عينيه ما هو قادم من اجله .
* الحمدلله انك . مازلت حيا .
* ماذا كنت تتوقع ؟.
* مثلك لا وجه له ولا وجودا مستقرا ، انت قابل للتبخر في أية لحظة .
* الحمد لله انك تعرف هذا عني ..
* لاوقت للمزيد من الكلام . الخلاصة انني انتظر خلال عشرة ايام انفصالكما .. أأتي اليك .. او هي تأتيني بورقة فيها تاريخ المرافعة ثم الطلاق .
* والجنين الذي في احشائها..؟
* ليس من شأنك .
* وهل ستوزع تعليماتك في امور اخرى هي من شأني وليست من شأني ؟
* اجل .. وأملي عليك ما أريد ، وأنهيك أنت وسلالتك أينما كانت .
* لاشأن لي بسلالتي الآن حدثني عني وعنها...
* لا .. سلالتك التي عبرت الحدود بالتزوير والرشوة هي تحت انظارنا نحن نراهم الآن يتسولون السفارات الاجنبية وعرض خدماتهم للأضرار بأمن القطر العراقي .
* من المفرح أنك رأيت امي والبنات وهيثم اترى فيهم عصابة دولية قادرة على الأضرار بالقطر ؟
* لا تتلاعب بالألفاظ ، نحن نراقب حتى النملة وعلى الاقل هم ينقلون رسائل منك الى الأعداء ربما .
* وماذا بعد ؟
* كثير جدا بأمكاني ان اضعه امامك وانت بمواجهة الأجهزة المختصة .. ما دمت انت وسلالتك تقفون عائقا امامي وامام اخوتي فلا تتوقع مني الا الرد الحاسم والرادع .
* ولكنني احبها .
* هذه افتراضات ، البلاد مليئة بالعوانس .. الشباب والفتيات ينتظرون الزواج ولكن لا توجد فلوس عندهم .. سأزوجك بنفسي واحدة مثلك .. تليق بك .. فقط اتركها .. ساركلك الى ما وراء الحدود لكي تلتحق بأحضان امك .
ادخلوا سعيدا .. مكبلا ، وقد ادموا انفه .. واخبروا نجمان انهم حققوا معه .. واخذو كامل المعلومات منه فأومأ ان يفكوا قيده . وخرجوا دفعة واحدة .. عند الباب التفت نجمان مجددا نحوي ورفع سبابته ثم حولها الى شكل مسدس وصوبه نحوي .. وخرج .
...
الناشر : دار دونكيشوت - اسبانيا ودار عين الزهور -دمشق 2006