Sunday, August 26, 2007

نافذة اخيرة LAST WINDOW


نافــذة أخيــرة*


هدأت المـدينة فجأة وهي تنساب في غبشها الشاتي ممتدة مثـل جـزيرة في مـدىً مجهول ، غلّف دروبها الصمت ، بـرهة عابرة تخفي ورائها أشياء وأشياء ، ولم تكـن تلك المرأة الوحيدة غير وجـه واحـد وصوت واحـد وحيد في حارة كاملة للمستوطنين الذين طوقوا المكان بلغتهم المجهولة وطقوسهم الغريبة ، كان عليها أن ترتقي سلماًحجرياً متهالكًا لكي تبلغ مأمنها في منزل أستقر في أعلى تلّة من التلال التي توزعت عليها بيوت الاستيطان .. تغمر دربها بالتسابيح وأسئـلة الرحمة ، وتنـاجي غائبين وغـرباء ومهجرين وأمـواتاً ، تقيـم تعاويذاً وأوراداً وتستحضر معها في ذاكرة مثقلة بالعناء ، تستحضر الوجـوه والناس في شريط طـويل من العناء ، فجأة في هدأة الليل هطلت عليها صورهم وأسماؤهم ، جـارتها وأولادها ، وأحفادها .. مرت على فضاء الذاكرة سحابة قاتمة وريح وبرد واقتلاع وتشـرّد .. واختلطت عبر مشهدها الخاص قافلة من الناس الذين عصفت بهم الريح والحرب وهم يجرّون من خلفهم بقـايا أثـاث ولوازم عيش مندفعين نحو غيهب جديد وقد سبقتهم رغبـة عارمة في العـيش وفي المـوت أمـام الأراضي المحتلة في آن معـا .. لم تكن بعقلها الصغير آنذاك لتستطيع أن تجـد فلسفة ما لتلك الحـالة من الدفاع عن الحياة والدفاع عن الموت ، ذلك الإصرار الصامت الناشب كأشجار الأزل في أعماق الـناس ، كانت جزءاً من قـافلة المواجهة وهي تسمـع بجحافل الحلفـاء في ما وراء البحـار والأصدقاء الجدد وأراضي الميعاد والهيكل والنجمة وكل ذلك ما يلبث أن يبدو لوحة على جدار المدينة العتيقة لوحة هي مشهد النـاس والزمان .. لوحة صخرية تمتد بلا هوادة لتجمع قضية أجيـال أخرى .. لـم تكـن في صمتها الأليف ألا وقفة في الزمان ، وشاهداً على ما جرى .. أكتضت في داخلها رغبـة في أن تـرى أولئـك النـاس كلّهم ، أصاخت في الليـل الشاتي المـوحش فلم يلتقـط سمعها الـواهن غيـر همهمات الغـرباء وخطاهم التي تمـزق جسد الليل الحالم وهم يـدبّرون للغد ..
تعلم مراراً أنها القـاطن الوحيد في تلّة معمورة بالغرباء .. لا تعرفهم ولا تـريد أن تعرفهم ولكن تأكد لها أنهم يتمنون ويسعون لرحيلها .. لأنها موجودة في المكان الخطأ.. وليس هم .. ومهما أعلنت مراراً تاريخها الطويل في هذا المكان لم تتلق غير أصوات متشككة تخطط لليوم والغد ولا تعنى بمن كان ومن كان بالأمس .
على محراب هذه التـلال مرّ العابرون للشتات والألم .. ودّعتهم ، كما ودّعت المقاومين أرخت عليهم سدولاً من الطمأنينة والراحة و الأمان .. كانت ترى من عين خفية كفاً مباركة تمسح تلك البلاد والنـاس .. ولذا أصرت عل تسلق ذلك السلّم الحجري مراراً مصرحة بوجودها ومصرة على أنها بـاقية .. ولكنها فجأة بدأت تسمع نداءات من أسفل التل ومن أماكن أخرى تدعو لها الموت .. وأن يقصّر الله عمرها .. وما لبثت أن تلقت وعداً مغرياً مقابل نزوحها عن دارها وغمرت نفسها هواجس الضيق وفتحت نافذة ليطل عبرها الدبيب الصامت لعابرين غرباء مضطربي الخطى مدّت كفاً راعشة إلى قـدح ، وشربت شرابا ًحلواً ، واسترخت قليلاً ثم دارت على الأركان وهـي تمارس ذلك اللقـاء اليومي مع متحف الأسرة ، الأولاد ، الـزوج ، الأب الكبير ، فهـي هناك حتـى بعد أن أنشطـر الناس وتكاثروا امتلكوا البيوت في الشتات وغير الشتات هي هناك .. في الليل الجاثم البعيد .
لا تـدري كيف امتـدت اليـد إلى أداة معدنية بـاردة بقيت مطمورة في قـاع ذلك المتـحف.. ذراع طـويلة مـن المعـدن المنقوش بأسمــاء وتـواريخ ، ذراع طويلة مشهـرة كسيف ، ذراع طويلة كفوهة مـدفع ، ذراع طويلة بـاردة التقت بجسـدها المثقــل ..
وفتحت بكف راعشه مزلاجا التقـم عبوة حمراء .. وما أن هـم الغرباء بالاحتشاد خلف بابها وهم يصرخون يدعونها للرحيل .. حتى تراءى لهم كيان أخر طالع من المكان .. كيان تسبقه فوهة نـارية .. والغضب العـارم يلف المشـهد .. عنـدها لم يعـد في
هدأة الليل غير نباح بعيد .. بينما هي أغلقت بابها وأغلقت عينيـن متعبيـن ونامت وحيـدة كعـادتها.
طرابلس 2001

إهداء إلى السيدة ( النتشه) التي مازالت تقاوم’ وحيدة ’النزوح من بيتها الشاهد على المأساة
..
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة