Sunday, August 26, 2007

الأسماء كلها ALL THE NAMES




الأسماء كلها



المشهد الأول

ممرات باردة ... اصداء تنسحب كما لو كانت ثمة بؤرة غائرة تبتلعها ، كلمات مختصرة ، ترى ماالذي يغير حتى وقع الخطى ، وحتى تقاطيع الوجوه ، لاتدري هي ولاهم يدرون ، فالحرب هي الحرب ، يغطسون بسببها في المجهول ولايملكون الا تلقي نثار نشرات الأخبار والحوادث التي تترى ، قصف بيوت ، وتهشم مدن ، ولذا ماان يحل المساء حتى تنزح الجموع الى الملاجئ . الفتاة الكبيرة ماانفكت ترج قنينة الحليب وتدير الحلمة المطاطية ثم تعود للماء الساخن والأم تحثها بينما تتصل الأصوات المختلطة وتتداخل في الغرف الداخلية ، اربع فتيات وثلاثة صبيان ، الوقت قصير ، الناس ستكتمل في حجرات الملجأ المتراصة ولايبقى متسع كاف لهم ، هم يبذرون مزيدا من الوقت لأعداد الشطائر والحليب الصناعي للصغيرة ، الأم تهتف بهم جميعا ، سأترككم ، فتتراءى لهم فجوة غائرة ، معتمة ، مبهمة ، مروعة ، ان تتركهم .. كيف والى اين ؟ وهم ينظرون الى افق محتقن مليء بالشظايا والحوادث ، الغبار يعفر مداه ، ثمة قلق مروع يجثم ويلون المسافات ، يصبغها برهبة ، يخفي اية نتائج لرحلة مجهولة تتخذها هذه الكائنات البشرية التي تتوزع بين الترقب والقلق والتمسك بأرادة الله والثقة بالغد ...
يتمتم الجد .. اما زلتم ؟ وتدرك المرأة تلك الهمهمة اليومية وتجيبه ..اليك بهم .. وماان تجوس خطاه تلك الممرات الباردة ، وهو يتابع بنظره الكليل نثارا من الكتل الحمر القاتمة التي تتناهبها عتمة مروعة ، ماان تجوس خطاه ويتمتم بالأسماء كلها عبر الممر حتى يفتح الباب وتتدفق حرارة المدفأة النفطية ، يكون هو في الوسط ، تتناهبه الأكف الغضة والأصابع الطرية فيتملص جاهدا من تلك السحابة الغضة مهددا " لاشأن لي ... ستترككم " وما ان تسمع هي حتى تردد مباشرة " لقد خرجت " وتغلق الباب موحية انها قد خرجت وتركتهم ، عندها يلوون اعناقهم باتجاهه مرددين " سنبقى معك ". عندما اكملت الكبيرة الشطائر والحليب وجمعت الأغطية والشراشف ، جاءتهم كمأمور الشرطة ونادتهم واحدا واحدا ، عندها خفتت الأصوات ووهنت المشاكسات وظل الجريء منهم يتمتم انه قد مل رحلة كل يوم ، نظمتهم حسب تسلسل اعمارهم واقتادتهم ، بينما كانت الأم قد وقفت عند باب المنزل الخارجي ودخلت في حوار مكرور مع جارتها فأذا ماالتفتت وجدت ( الطابور ) كاملا وقد توزعت مسؤوليات حمل الأغطية والشراشف وحقيبة الطعام على المجموعة .
يكمل الجد واجباته على بصيص فانوس ينثر ضوءا متخافتا برتقاليا في شكل نصف دائرة ، يحكم غلق الأبواب والحفيد ممسك بكفه ، الحفيد الذي تسلل منسحبا من الطابور دون ان تتنبه له الأم او البنت الكبرى .

المشهد الثاني
يكتمل الحشد ، الوجوه المألوفة ، الوجوه المحتقنة ، العيون المترقبة ، الأكف المشرعة للسماء ـ الخطى القلقة ، اكتظاظ صار يكتسب شكل تقليد يومي ، يعيش الناس يومهم وهم يلوكون اخبار الغد ، ينشغلون طوال النهار بجمع القوت ، وماان يحل المساء ، يتناسى الجميع وطأة العناء النهاري فيحتمون بالملاجئ ، وبهذا الهيكل العملاق الذي لاتهزه ريح ، الهيكل الضارب بطبقاته الثلاث في عمق الأرض ، وماان تبدأ الخطى بكسر الوحشة والصمت ويبدأ لغط الأسر وحواراتها حتى يصبح ذلك الكيان المهجور خلية مكتملة ، فسيفساء طريفة لنساء في خريف العمر وصبيان وشيوخ وأطفال وطالبات مدارس و جامعيات وموظفات ، حتى صار ذلك المكان وسيلة للتعارف ، بدأت اجهزة التسجيل باحتلال اماكنها بصحبة القادمين وبدأت جلسات السمر تأخذ طابعا جماعيا ينطلق فيها الناس كمن ينعتق من اسر قوة جاثمة تضيق على الصدور ، متنفس يهذي في كنفه الجميع .

المشهد الثالث
لم يبق الا هو ... وقد وزع نظراته على غرفات المنزل المهجور وعبر المدى يخيم السكون ، عبر الزجاج البارد يطل الشيخ ، يمعن النظر في الشجيرات المرتجفة التي يحرك سكونها هواء قلق ، تنتصب الشجيرات في افق معتم جريح ، بيوت خاوية ، افرغت من ساكنيها النازحين او الهارعين الى الملاجئ ، بدا صفير الوحشة متصلا ، بلا انقطاع ، صفير يثير الشفقة ويفجر في النفس ذكريات ماضية نقية ، ترى اين صخب الأضواء والسيارات والصبية وهم يركبون دراجاتهم الهوائية ، اين مواكب الأعراس الزاعقة والدبكات والطبول والمزامير ، اين صوت الأذان ، لقد مات في الأسلاك نبض الكهرباء ، وتدفق الصفير هذه المرة من صنابير الماء الخاوية لاتلوي على قطرة.
ظل يرمق شجرة الأثل الطويلة وشجيرات الخوخ والكمثرى والرمان الجرد التي كان قد غرسها هو نفسه عندما شيد البيت وتزوج وانجب وبارك هو الحفدة ورعاهم . اجتاحت الأب موجة حنين لرؤية الجميع واحتضانهم واحدا واحدا ، فاستدار ليجد الحفيد يتطلع نحوه مبتسما فاحتضنه بشوق وشم رائحته ، رائحة برية ، فتية متدفقة تحرك في النفس مكامن الحنين .؟..

المشهد الرابع
ادار الجد مؤشر المذياع وتدفقت الأصوات متكاثفة مختلطة ، دوى القصف الليلي كالمعتاد ، تتابعت اصداء الدوي ، لم يبق بيت هنا او في اي مكان لم تهتز ابوابه ونوافذه والليل بهيم موحش والسماء مشتعلة بالأنفجارات ، انها لعبة الليل ، ماان تبدأ العتمة حتى تحتشد السماء بالمقاتلات ، قال المذيع : اليكم تقارير المراسلين ، معكم هذا الفاصل الأعلاني ، وانت تتمتع بلذات الحياة ، توج متعتك بسيكارة مارلبورو ، دوى صفير متقطع ثم مرق حشد من الطائرات الضاجة : تقول تقارير الأنباء ان الحملة الجوية متصلة وطائرات الجاكوار والتورنيدو والأف 16 تلقي آلافا من الأطنان من القنابل في الليالي شديدة الحلكة والبرد .. دوراسيل ، دوراسيل , البطارية الذهبية... طويلة العمر ... ياطويل العمر... ويصر توماس بيكرنك رئيس البعثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة على استصدار قرار جديد علق عليه ديفيد هاناي المندوب البريطاني بأنه اقتراح معقول ... مجموعة دلة البركة الدولية للأستثمار ، فروع منتشرة في انحاء العالم ... جدة .. الرياض .. الخبر ... لندن ... باريس .. نيويورك ، جولة بريماكوف ماتزال متصلة ولا ينتظر اي تغيير في الموقف ، النكهة الغنية المشبعة ، السيكارة الأكثر مبيعا في العالم " كنت ".. يقول بيتر ارنت مبعوث شبكة سي ان ان المقيم في فندق الرشيد الفخم ان طائرات قاصفة ضربت قصر المؤتمرات وأجهزت على عدد من الجسور ولم تسلم مساكن المدنيين من القصف .
احس الجد ضيقا في صدره بينما تنتظم انفاس الصبي ويشع نور ذهبي من وجهه الغض ويختلط تنفس الصبي بالضيق الذي بدأ يحسه، وتدفق المذياع مع الدوي المروع الذي يجتاح المدى الغائر ، ساعة سايكو تعطيك الدقة في الوقت . الى سكان المناطق أ ، ب، ج هنا اورشليم يبدأ الآن الدخول الى الغرف المحكمة الأغلاق ، المنطقة ب مستهدفة ويقول الناطق باسم وزارة الدفاع ( شاي ) ان صاروخا موجها من الصواريخ البالستية قد ضرب ... نقطع هذا البث ... مندوبنا في وزارة الدفاع ... حبيب القلب .. مازولا ...زيت الطهي مازولا .. راديو مونتي كارلو ونشرة الأنباء المفصلة مع يوسف دكاش .. اسعدتم مساء ... الحرب هي الحرب ولايبدو في الأفق من حل ... ويقول المراسلون ان بغداد في النهار تعيش يوما عاديا حيث ينشغل الناس بشراء الأغذية ومصابيح الأضاءة النفطية وتشاهد النسوة وهن يغترفن المياه من نهر دجلة العريق الذي يخترق مدينتهم اذ تعطلت محطات تنقية المياه بسبب القصف المتكرر .. الى بغداد .. مع مراسلنا .. هنا لندن .. واليكم دقات بك بن .. مراسلنا ديفيد ساكا .

المشهد الخامس
نساء .. اطفال ..رضع .. عربات اطفال .. احذية صغيرة .. صحون .. بقايا طعام .. زجاجات حليب .. مجلات بأغلفة ملونة .. رقع شطرنج .. جهاز تسجيل .. مجلات اطفال .. روايات .. حشد نيام ، بدأ الفجر يتنفس في الأركان والزوايا ، خرجت المدينة مثقلة من وطأة العتمة المروعة وهي تجر خطاها الى يوم جديد .. اغتبط الجد وهو يؤذن وصوته المتحشرج يتردد في اركان البيت .. الله اكبر .. الله اكبر .. ويتدفق الصوت العفوي العميق على البيوت المقفلة الأبواب وعلى الشجيرات المتراعشة الجرد ، وعلى قامات النخيل الفرع المنتصبة ، بقايا العتمة تنشب اظفارها على الجدران الحجرية الباردة ، يتدفق هدير ناعب يشق استار الصمت ويتصل مع خواء المدى ، يتدفق كالسعار ، تنقبض له الصدور وتضيق الأنفاس ـ والجد يتوضأ ويستعيذ ، يقترب الضجيج ، يردد الشيخ .. الم يكف ذلك الليل الطويل ؟ يهتز المدى ، يقشعر الأفق ، تقطب الكائنات ، مع الصرخات والضجيج والدخان والبارود والنار والرماد والتراب والحصى والدم والأرتجاج والدوي والعويل والموتى وانتثار اجساد الصبية والنساء ، هنا لندن اليكم دقات بك بن ، معكم اذاعة المرح والشباب ، مونتي كارلو ، هنا واشنطن القسم العربي في اذاعة صوت امريكا ، خبرنا الأول في فترة بثنا الصباحي حول تدمير طائرات التحالف ملجأ يغص بالمدنيين في منطقةآهلة بالسكان ببغداد .. شكرا لأصغائكم والى البرنامج المنوع .. هلو امريكا .
1991
القصة من مجموعة صعود القمر
اللوحة للفنان العراقي هاني مظهر