Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل العاشر ...والأخير

رواية: الكائن الأفتراضي - الفصل العاشر ...والأخير
كان هنالك ضجيج في الغرفة الثانية , وكانت المفاجأة ان الثلة قد تجمعت مصادفة , جاء خالد وزوجته وجاسب جاء من البصرة وكاكه فاروق جاء من كركوك ورائد جاء من العمارة, ياالهي , عادت صورة الكلية والجامعة , وايام البراءة والتجارب الأولى , عندما شاهدوني تصارخوا جميعا : حجية ليلى ... واين العبقري حاتم , كان فراغه كبيرا حقا , كانوا هم كتلة الأبداع الأدبي والمسرحي في الكلية , كتلة فريدة تؤمن بالباراسيكولوجي والتخاطر عن بعد , وتكتب قصصا ميتافيزيقية وكان جاسب مولعا بقصص الأشباح وكاكا فاروق مولع بقصص سكان الكهوف في الشمال ... واما حاتم فهو ملك القصص السينمائية وسايكولوجيا المشاهدة ... مضى الوقت سريعا في استرجاع الماضي , وتأكد ان كلا منا كان يعيش عزلته الخاصة , جاسب يلاحق هو واسرته صهاريج ماء الشرب حيث الماء حالته يرثى لها عندهم , ورائد تسلم عمل ابيه الكهل في تجارة اي شيء وخالد شبه عاطل يتنقل من سياقة التاكسي الى باص الريم بين المحافظات ويعمل بأجرته اليومية ... احتفينا بمنال , وتقشع الأحساس بالخوف عن وجهها وظلت طيلة الوقت ممسكة بكفي ولاتكاد تتركني لأشارك في اعداد الطعام ... امضيت الليل الى جانبها ولم انم الا قليلا بعدما غادر الآخرون للبحث عن حاتم ..
كانت منال قد بدأت تكتسب طابعا آخر وكنت افهم انه جزء من حالتها النفسية الجديدة , كانت تبدو اكثر شحوبا ترتدي ثوبا لونه بيج فضفاضا يتكامل مع انسدال شعرها , حتى بدت رغم مرضها مشرقة , وعندما تجلس طفلتها رؤى في حجرها يتكامل المشهد مع خلفية المرايا التي تكثر في حجرتها والتي تسميها لعبة المرايا , ياه , كانت ضحكاتها عالقة على تلك المرايا المتعاكسة والمتقاطعة , بدأت تميل الى الصمت وتذهب بعيدا في نظرتها الساهمة , كانت قد بدأت تنسج قوقعة من العزلة , تمد ساقيها براحة واسترخاء , وتزم شفتيها فجأة ويرتعش جفنيها من انقباضات الألم التي تعصف بها ثم ماتلبث ان تعود سيرتها الأولى ثم تردد : " لقد نهبوا مني جزءا , هل تدركين هذا الأحساس ان قطعة منك قد تخلت عنك الى الأبد , كان ولع سعيد ان يراني وأنا بكامل بهجتي ...".
لكنه سعيد الذي يتكامل في داخلي كل يوم , هو قطعتي المفقودة دائما , كان عنصرا من البهاء الذي ميزها قد تحول الى نوع من القلق المشوب بالألم , وكانت تشعر ان تلك القطعة التي اخذت منها قداخذت معها مساحة من حواسها , قريبة تماما من القلب , ولهذا بدأ يتسرب الى نفسها احساس بفقدان العديد من الأشياء , عدم القدرة على السيطرة على اشياء تغيب , البهاء الذي كان يغلف الحواس واللقاء الحميم مع سعيد , بدأ القلق وعدم الأكتمال يحفانه من كل جهة ... البهاء الأنثوي الذي صنعه الله والذي يلتذ به المرء ويجد من روعة صنعة ذلك الصدر المتوثب الممتلئ قد صار صديقه السكين ومشرط الجراح . كان ذلك الشريط من احاسيس منال وافكارها يمتد طويلا في عقل ليلى وهي في طريقها الى منزل العمة.. صورة الأحباط ازاء ولع سعيد الطفولي بها وببهائها المتجدد والمتع النبيلة التي يرتشفها ... او يتبادلانها معا ..
على امتداد الطريق كانت الناس قد نزلت الى الشوارع في تظاهرات معززة بالمسلحين من التنظيمات الحزبية لمساندة الحكومة في صراعها الجديد مع (الأعداء) والتهديدات الجديدة حول الأسلحة المخفية في القصور . تكرر المشهد لدرجة الغثيان , ترى كيف للناس ان تجتر القصة نفسها بما فيها من فجاجة ونفاق وبشاعة ومشاعر سوء ... كان هنالك رجال يتكدسون في حافلات متهالكة ويحملون شعارات , وآخرون تحملهم شاحنات كبيرة وهم متراصون كعلبة السردين , وكان هنالك احساس بالأضطراب قد ساد الناس حيث بدأت فرحة ( مشى النفط ) تتآكل بالتدريج وسط نبرة الشراسة والمواجهة بين الديكين الوحشيين : الحكومة وعسكر الحلفاء المتنمرين الذين يتحينون الفرصة للأنقضاض ولذا قال المذيع الغربي ان الخطأ هو عدم اكمال المهمة سنة 1991 الى النهاية ...
كان هذا الكلام مخيفا في الحافلة ولذا سرعان ماقمعه السائق ونقل مؤشر المذياع الى برنامج ( القائد في ضمائر الشعراء ) وبدأ القصيد البربري نفسه الذي اعتادت الملة على سماعه حيث تتكاثر سلالة من الشعراء الذين لم يتركوا صفة من الصفات الا اطلقوها على مثالهم ومصدر عيشهم .
مرقت سيارات سريعة لمفتشين امميين وحامت طوافاتهم وسط تصارخ المسلحين : لالخطوط الطول والعرض ...
تسقط خطوط الطول والعرض .
الحصار ايقظ الأمة العربية
العقوبات عبرت بالشعب الى ضفة النصر
الأطفال ضحايا الحصار وصمة على جبين الأعداء
خطوط الطول والعرض ...
سيطرت عليها الصورتان المتقابلتان والملف الأصفر , وتجسمت في عقلها كينونتها الأخرى الكامنة في مكان ما من حواسها وعقلها , الأنسانة المقابلة المجهولة التي قد تولد في زمان ومكان ما لتحل محلها ... هي صورة اخرى لهذا الجنين المعدني الذي يتخلق في احشائها , الكائن المعدني الأفتراضي ... ولأن اكتشافها تلك الكينونة المجهولة تم في منزل العمة الكبيرة فقد شعرت ان وجهها الآخر وشخصيتها الثانية , كائنها الأفتراضي , كامنة هناك ومقيمة في منزل العمة تنتظر الزمن كي تتسلل اليها وتصبح جزءا منها ...
بلغت الشارع المؤدي لمنزل العمة لتشهد تكاثف الناس الذاهبين للمسيرات والتجمعات والرفض والأحتجاج مع الحكومة وتكدس الناس تباعا في الحافلات الصغيرة والعربات المتهالكة وهم غارقون في الزي العسكري ... كان حاتم مجبرا على الوقوف تلك الساعة وسط الحشود , الحالة المختلفة عما يجري ... طوابير من الذاهبين للأحتجاج , وهو ذاهب نحو البحث عن خلاص ما لبستان الدرويش ... كان انقطاعه تلك الشهور القليلة قد اوجد واقعا آخر , اذ كاد يفقد وجود المكان الذي يجثم عليه البستان , سار على الرصيف الحجري مقابل شاطئ دجلة , وفي مقابل البيوت المتهالكة في الشواكة القديمة , ومر بالرحمانية وصار في مواجهة مكان تمر من امامه طوابير الحراس والمتطوعين ... اناس من اعمار مختلفة يرتدون ازياء مختلفة , مدنيون وعسكريون بألوان خضر وأخرى خاكية وأزياء عربية تقليدية , وبيجامات كأنه عرض فولكلوري , لكن ماكان يجمعهم هو لافتات حول خطوط الطول والعرض واستهداف التجربة الثورية ...
ارتفعت حول المكان اسيجة عالية واسلاك شائكة , وصارت له بوابة حديدية , وحراس , تقدم هو نحو البوابة فصرخ فيه الحارس : قف , وشهر في وجهه السلاح ..
وهم يحملون اوان وصحون وبعضهم يرتدي زي الطباخين وتبدو الطرابيش البيض العالية على رؤوسهم ... كانت هنالك طاولات كثيرة في الداخل ,
صرخ الحارس : ماذا تريد ...؟
· انا ... انا اريد ان ادخل البستان ...
· وما شأنك به ؟
· انه... ملكنا ...
لم تمض لحظات حتى جاء ضابط طويل القامة فاحم الشعر , بشارب كث والوشم يتكاثر على ظاهر كفه وعند نهاية انفه ... وببضع كلمات صرخ في وجهه:
· " خونة ... تمت مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة " .
برة .....
برة ........
برة .........
انقلع ........
برة ..........
ماعندك شهادة جنسية برة ........
سفر برلك ... عباس العزاوي ... علي الوردي ...
برة .....
ولاحقت حاتم اصوات الأقزام المجتمعين بملابس الطباخين وملابس الخدم وضاربي الدرابك لفريق الغجر , في سهرات آخر الليل , لاحقته اصوات الحرس والأقزام , بنات قزمات طليت وجوههن بألوان حمر وبدون مثل كائنات شيطانية .. تتراقص على الطاولات البيض في حدائق البستان الواسعة , تصطف السيارات معتمة الزجاج ويتوزع الحرس الغلاظ الشداد .. والصراخ في ارجاء المدينة ...برة ... برة ...برة ... برة
مر الحراس والمتظاهرون واطلقت المدفعية 11 اطلاقة ...ودوى في رأسه الكلام والعصف ... وتسرب النمل من اسفل العنق الى قاعدة الأذن , وتسلق صوانها , وتداخل مع الأصوات , منطق النمل الذي ساد ومن حوله دوى الأنفجار , وعادت صورة الأولاد مع قوة الأنشطار والأنفلاق الجوي , وصور الخط الأحمر تباعا ودارت المدينة والوجوه من حوله , وعادت صور الوجوه المدماة , وارتعد الكائن وهو يفتح فمه , والرامي يصرخ .. ارمي .. ارمي .. برة .. برة .. برة ..
وحمل الأقزام الكائن ووضعوه على الرصيف دون حراك .. فتح عينيه .. وسط صور وجوه مستطيلة لنساء ورجال , وسرعان ما استجمع قواه ونهض من نوبة الأغماء التقليدية , وغاب في الزقاق ..
دخل المكان قيبل الغروب , كان الشارع المؤدي الى المتحف قد عاد سيرته الأولى , الباعة الصغار بدأوا يلملمون بقايا بضاعتهم , والدكاكين بدأت بغلق ابوابها تباعا ..
مر قرب السينما وتدفقت رائحة مطاعم الكوارع والباجة والفلافل ولم يكن يسمع الا بقايا نداء بائع يدور بالفواكه الذابلة في آخر الزقاق : على الأواخر .. على الأواخر .. وبفلسين .. اواخر .. اواخر ..
كان الممر غارقا في الصمت , ممر مثل جوف اسطواني مفروش ببسط حمر وبنية عتيقة تشبه فندقا مهجورا تتوزع على جانبيه حجرات عمال السينما وعمال المطاعم , ويصعد هو نحو مكانه بعيدا عن صمت المكان ..
بدأ ينتابه شعور بأنه في اللازمان واللامكان .. اللذين عليه ان يكون فيهما , كأنه ليس هو , فهو بلا ... دعامات , انسان طاف في المجهول مثل اولئك الملاحين في المركبة الفضائية , كائن افتراضي تنقصه الوثيقة الأزلية التي تثبت وجوده الحي , قرفص في حجرته وأحاط رأسه بكفيه , وشعر انه ملفوظ من كوكب ما الى كوكب آخر .. مرت في عقله كل الوثائق التي عبأها بالمعلومات عنه في سني طفولته ومراهقته وشبابه , كانت ركاما من الأوراق والقسائم والأستمارات والأيصالات التي تحمل اسمه : حاتم ..اسم الأم .. اسم الأب .. مكان الولادة .. تاريخ الولادة .. اللقب .. عنوان السكن ..رقم الهاتف .. اقرب نقطة دالة .. اسم المختار .. اسماء الأشخاص الذين تعرفهم .. النقابات والأتحادات التي تنتمي اليها .. هل حكم عليك بجناية او جنحة مخلة بالشرف ؟ .. هل تم توقيفك او حبسك .. لأسباب سياسية .. اسباب غير سياسية ...التبعية .. تبعية الأم الأصلية .. تبعية الأب الأصلية .. رقم شهادة الجنسية .. الصنف .. التسلسل .. الرمز .. اسم العشيرة .. اسم شيخ العشيرة .. اسم رئيس الفخذ.. اسماء ابرز وجوه العشيرة ومناصبهم .. هل اعدم احد اقاربك حتى الدرجة العاشرة او حكم عليه لأسباب سياسية .. اسم الزوجة .. اسم ابيها وامها ... اسم عشيرتها .. تبعية الزوجة .. مهنة الزوجة .. اسماء الأعمام والأخوال واماكن عملهم .. مقدار الدخل الشهري .. مصدر الدخل الشهري .. هل اديت الخدمة العسكرية .. هل حصلت على اوسمة وانواط ...
جلس المحقق بسحنته الداكنة قبالته وسأله كل تلك الأسئلة وقلب اوراقه , كانت الأضواء القادمة من النافذة قد خلفت قضبانا من العتمة على الجدار المقابل فيما هو يجيب بثقة على اسئلة المحقق بينما تدور مروحة كسول في الأعلى , نهض من مكانه مثقلا بالفراغ واللاجدوى , وغياب الأحساس بالتفاعل مع المكان , وسحب من تحت السرير النحاسي العتيق صندوقا كبيرا , كان صندوقا مرصعا بكرات من المعدن تؤطره احزمة رمادية وأباريز واربطة , وراح يفتح الأقفال تباعا , وانفتح الغطاء مثل فم ضخم , حيث تكدست الوثائق العائلية وسير الناس , وثيقة خريطة بستان الدرويش وشهادة الملكية العثمانية , لاحت وجوه اجداد منقرضين مسطرة على شهادات بلغة عثمانية وفارسية وعربية , اجداد لايعرفهم , لكنه كان يسمع ان منهم من ذهب في السفربرلك ايام حروب العثمانيين في القفقاس , ووجد صور امه وأخوته ومن حولها الأمضاءات والأختام وشهادات الميلاد وتوزع شعار البلاد بين ملكي وجمهوري اول وجمهوري ثان وجمهوري ثالث .. وفي كل ورقة كان هنالك علم جديد لكل عهد , تغيرت الشعارات والأعلام ولم تتغير سحنته هو ولا تاريخ امه ولاابيه .. قدم اوراقه كلها للمحقق , وراح هو وفريقه يتفحصونها , وكبر من حجوم الوثائق من خلال جهاز العرض , وقدم فيلما وثائقيا لسيرة العائلة السعيدة التي انجبته حتى تاريخ علاقته بليلى ومجده العظيم الذي حققه لذاته وللأنسانية باقترانه بها ...

وجد المحقق صور عباس العزاوي وعلي الوردي ووقائع دقة الشرقية والغربية وحصار الكوت وتسلسلا طويلا لجنود وحراس وعابرين وسدنة اماكن دينية مقدسة ..
وشعر المحقق بالأمتعاض من هذا الأندماج بين تاريخ السلالة وكل هذا الخليط من التواريخ المعقدة وحتى الدامية , وتشوش عقله من كثرة الوجوه والهيئات : اناس بملابس جندرمة وشرطة ومحتسبين وسوقة ...
وصرخ في الأفق .. اريد شيئا محددا واضحا .. اثبت لي انك هنا .. انك تنتمي الى هنا .. اريد وثيقة تؤكد انك عندنا .. خريطة تواريخ وامجاد , لا اريد دوخة رأس , هذه اذهب بها الى سوق الهرج او اهدها الى المتحف البغدادي ..
قرأ حاتم سطورا من علي الوردي ثم عباس العزاوي , العراق بين احتلالين , وسطورا للنسابة العرب .. فأنزعج المحقق وصرخ في وجهه , اسمع , الدولة تعتمد هذا الكراس فقط وفيه كل شيء , وهو منهاج عمل , فأن كان مافيه ينطبق عليك فخير على خير .. وان لم ينطبق فمعناه ان يطبق القانون بحذافيره .. مفهوم .. برة .. برة ... برة
نادى على المدعى عليه الآخر ..بسرعة حمل حاتم حقيبة السفر الضخمة البنية المتشققة وخرج من المكان ودخل مديرية التسجيل العقاري , اشترى في طريقه نسخا ضرورية من جريدة الوقائع العراقية .. ومر بطوابير من النساء والرجال والفتية المتوزعين على جانبي المبنى والملتصقين بجدرانه , وهم يحملون اوراقا وملفات لأثبات شخصياتهم امام القانون , الكلام هو خليط من تقسيم المراجعين بحسب خطوط الطول والعرض , اذ تختلط اخبار السياسة بأخبار الحملة .. اذ اكتشف بواسطة الوقائع العراقية ان له ابناء عمومة بعيدون لايعرفهم وقد اصبحوا وراء الحدود يوما ما , ولم تفلح دفاتر الأنساب لأبقائهم , قدم له الباحث القضائي نسخا جديدة اضافها للحقيقة واعطاه صور اولئك الأشخاص وتاريخ حياتهم , كانوا شبابا وكهولا , ومن حولهم نساء وصبية , تتنوع ملامحهم وأزياؤهم وهم في صور فوتوغرافية باهتة بالأبيض والأسود ..
وقدم له الباحث القضائي ( مقتبسا ) يتعلق بكينونته هو .. الآن .. وحكم جريدة الوقائع العراقية المختصة بالقوانين والتشريعات المدنية والجنائية , حكمها عليه , لأنه , اذ قالوا له برة .. فبعدد المرات التي اطلقت عليه فيها هذه الكلمة فأنه يكون قد تحول الى انسان آخر , هوليس بالضبط بالضبط هذا الذي يدعي وبيده حقيبته البنية , الكراس يقول غير ذلك .. سأل حاتم : عفوا الا يوجد كراس آخر ؟
اجابه المحقق : لا ..
سأله حاتم اليس هنالك من امل في صدور كراس جديد ؟
احتقن وجه المحقق وانتفخت اوداجه وصرخ فيه : ( بره ..) .... كان الدوار الذي اصابه والأغماء الأخير قد انساه فكرة الكراس والندوات التي عقدت حوله وكلام العلماء وأساتذة الجامعة والمثقفين حول خصال الكراس وفضائله ...

لاذ حاتم بعض الوقت عند بائع الشاي , ثم تسلل الى موظف آخر , قصيرا وسمينا وبادره الموظف مباشرة , بأن فتح درج المكتب , وكان عليه ان ينقده ثمن الفطور كي يحصل على اجابة واضحة او نصيحة او تسهيل امر ...
نطق الموظف بعد هذا ... بعد ان قلب الأوراق , وتجشأ مرارا , ورد باقتضاب , هذه الأوراق لاتخصك , ولاتشفع لك ... انت غير هذا .. انت شخص آخر , الأوراق تقول شيئا وما صدر في حقك شيء آخر , وبالنتيجة : البستان مصادر ... وضع الحجز عليه .. حسب الكراس .. وكذلك اي مكان آخر او املاك او اموال ... ولا حول ولاقوة الا بالله ...مع السلامة .. ولم يقل الرجل : بره ... بل تمنى السلامة وقدم مقتبسا خاصا ( بقانون العزلة ) , منشور في الجريدة الرسمية , وبدا حاتم ذلك الكائن الذي البسوه ثوب العزلة , الخاص به والذي تم تصميمه بحسب قياس وبموجب الكراس ..
خرج من المكان , وتدفقت ريح لاهبة من اصياف بغداد , ريح سموم , اختلط فيها دخان الحافلات , والناقلات والزحام والتصارخ وتبادل الرشا وتزوير العملة على طول الطريق , وكانت هنالك حفلات الغجر , وأماكن جانبية للتدريب , وثمة رجال شرطة بشوارب كثة وهم يحملقون فيه وفي حقيبته , كان هنالك باعة خمور على الرصيف , وأولاد يبيعون اشرطة بورنو وكبسول الهلوسة والسعادة , كانت هنالك متسولات بأسمال وبقع دم وأوضاع مزرية ...
كان المشهد قد اكتمل لحاتم .. اغلق نجم الملف الذي امامه وتأكد ان كائنا افتراضيا معزولا كهذا لم يعد لوجوده معنى ولا قيمة , كانت اوراقه بلا سند قانوني وادعاءات لايسمعها احد , ومواهبه لاتشترى , واسرته غير قائمة , ولم يبق غير ليلى التي تصدق بوجود ذلك الكائن الذي عزل ..
تأمل نجم حديقته الغناء وقد توزع عمال الخدمة والحرس على ارجاء المكان , نظر الى فيض النعمة وأطقم الجواهر التي ترفل فيها زوجه , والخير الذي يغطس فيه ابناؤه وضرب بقبضته على ملف كائن افتراضي مضطر الى دفعه نحو عزلته , اسمه حاتم ورفع سماعة الهاتف وأدار القرص وممد يده الى الكأس ...

.............

كانت دار النساء قد استقبلت مساءها المعتاد بأجترار الأحاديث وتبادل الحراس واجباتهم , وبالنساء نصف النائمات , وبعزف الكمان المبحوح ,وبعزلة سعاد, وما ان تقدم المساء ليلف المكان , حتى كان هنالك ضيوف غرباء قد حلوا , وأحاطوا المكان من كل جانب , وما هي الا ساعات عندما حل انتصاف الليل حتى وصلت المكان حافلات تحمل نساء بأعمار مختلفة معصوبات العيون مكبلات بالسلاسل وادخلن تباعا تحت الحراسة المشددة .. ومنذ تلك الليلة جلست نساء خارجات عن القانون ونساء مصابات بعلل نفسية ومجنونات في دار النساء وأنسلخت الدار من حال الى حال واختلط فيها التصارخ بوحشية السجانات بالدروس اليومية لحسن السلوك وحل نظام الشرطة على النزيلات وانطلقت سعاد في ادارة المكان ...
شعرت السيدات من ضحايا الحروب ان براءة ما كن يمتلكنها قد فقدنها , براءة المكان وعفوية النزيلات والهدوء الجميل والمهارات التي تظهر , كلها تبددت تباعا مع تصارخ النساء الشرسات الوحشيات المكبلات بالأغلال , ومع نوبات الصرع وتفجرات الشيزوفرينيا , والقسوة في معاقبة الخارجات عن النظام , وتبدت بشاعة غير معهودة تشوه المكان ونشرت قوى من الشرطة السرية وأصلاح الكبار واصلاح الأحداث والشؤون الأجتماعية ومعالجة الأدمان .
كان هنالك رجال غلاظ بأحذية سود ذوات اعناق طويلة وبزات زرق يحملون صناديق وأمتعة ولوازم السيطرة على المكان وانتشرت في الأركان نقاط حراسة ونشرت اسلاك شائكة وبنيت مراصد في خلال ثمان واربعين ساعة , وتعرض المكان الى مهمات تفتيش سريعة , وكانت سعاد قد تحولت فجأة الى كائن آخر , ارتدت بزة مشابهة لبزات اولئك الغرباء , ربطت شعرها الى الخلف وبدا جسمها اقرب الى اجسام الرياضيات , تتحرك بخفة وتصدر اوامر للأداريين وتدور في ارجاء المكان وتشهد معاقبة مخالفات وتصرخ في وجوه خارجات عن القانون وتطلق كلمات بذيئة يمنة ويسرة , كانت ريمة هي الشاهد على هذا الأنقلاب في الناس والمكان ,وأحست انها امام اناس لاتعرفهم , حتى وجوه صديقاتها : ام بلال , سحر , وئام , ام فاطمة , هدى , نائلة , والأخريات بدت في هيئة تماثيل شمعية لاحياة فيها , انسحب نبض الألفة والمشاركة وحلت محلها حركات آلية لكائنات تذهب وتجيء دون ارادة منها , شعرت ان ( عسكرة ) المكان بدأت فصولها تباعا , انتشرت صفارات الحراس بدلا من النداءات الهادئة , وقرعت اجراس لغرض التجمع والتفتيش وصار يسمع طرق على الحديد وتهشيم جدران واستحداث اماكن للحراسة , وعند انتصاف الليل كانت تقطع هدوء الكائنات صرخات نساء تجري معاقبتهن او اجبارهن على تلقي علاج كيمياوي , وصار معتادا بالتدريج مشاهدة نساء مربوطات الأيدي والأرجل وأخريات عاريات الظهور , يجري ضربهن , ونساء مستحمات وخليط الكائنات غريبة الأطوار , وشعرت انها في مكان يضيق عليها وقد ينقلها الى عالم مجنون وصاخب ووحشي ... كانت ليلى تشهد ذلك الأكتظاظ امام منزل العمة ولم يكن غير اكتظاظ الحراس والمستعرضين والمتظاهرين وسط بيانات الحكومة وقصائد الشعر الشعبي , والأغاني الحماسية عندما ولجت منزل العمة, توزع افراد الأسرتين اللتين تشاركان العمة ذلك المكان , توزعوا على جانبي الممر المفضي الى منزلها , كانوا مرتدين السواد وعصبوا رؤوسهم بقماش اسود , ورفعوا رايات سود , وحسبت ذلك امتدادا لأيام عاشوراء , والحداد , لكن امرأة لاحت بين الرايات وتكور الناس وانتشرت نظرتهم الكابية الحزينة , امرأة ضخمة بعض الشيء يلفها السواد وعباءتها فضفاضة وسرعان ما فتحت عباءتها كمن يوشك على الأنطلاق والتحليق ولفت ليلى واحتضنتها فتراخت حواس ليلى وأطرافها وشمت ريحا من عمتها وسمعت في الخلف نشيجا متتابعا وسط خفق الأعلام .
وقادت المرأة ليلى كما تقود طفلا باتجاه منزل العمة , , فتحت الباب الكبير فتدفقت تلك الريح العبقة المعتادة لكنها هذه المرة اختلطت برائحة البخور والخزامى والزعفران والمسك , وكانت هنالك مساحات من النور قد توزعت على الجدران والأرائك , ولاحت الطنافس القديمة ومكان استراحة العمة خاوية , عندما لاح فجأة كيان العمة شاحبا مستسلما , كانت كمن ينظر باتجاه السقوف الواطئة , كانت هنالك امرأتان , تجلسان الى جانبها وهما تقرآن القرآن بينما تنبعث من حول رأسها خيوط دخان البخور , وكانت هنالك شموع مضاءة وورق آس منثور عند رأسها .. ولم تكن تصدق ان العمة قد ماتت , كانت تراها في نومها الهانئ الذي اعتادته , ولذا مسكت كفها الباردة وتأملت اصابعها النحيلة وخاتمها وكتلته اللازوردية , اظافرها المقصوصة بعناية , الدم المتجمد مغلفا بصفرة ذهبية على ظاهر كفها , قربت الكف من وجهها ولامست به خدها وقبلتها , ثم اقتربت من الوجه وتأملت مسحة الهدوء والأمان التي تغلف المحيا , بينما المرأة تقرأ سورة يس والأخرى تنشج والمرأة الضخمة تقف الى الخلف ..
جاءتها المرأة من الخلف , ربتت على كتفها , وقادتها الى الغرفة الجانبية وتأكدت ان يدا وحشية قد عبثت ببقايا الأسرة من الصور والمقتنيات , والأشياء العزيزة , على العمة ... وتأكدت ان نجمان قد زارها زيارة عاصفة مطالبا بفك صلته بليلى ولما لجمته العمة , استشاط غضبا وحطم الكثير من الأشياء وصرخ في وجه العمة المتعبة التي سقطت مغشيا عليها بعد شوط من الأحتدام والصراع بينهما ..
تسلمت ليلى مغلفا يحتوي بضعة اوراق لم تتبينها لكنها عادت الى العمة وشهدت صامتة نقلها الى مكانها الجديد ...
كانت هنالك حشود مر بها حاتم وهو في مرحلته الجديدة , حشود التفت هناك عند ملتقى الناس في العيد وملتقى الأولاد والفتيان والشباب في يفاعتهم وهم يقرأون احلامهم الأولى في احراش حديقة الزوراء , هناك حضرت الناس والمسؤولون , و انزل التمثال , حملته الطائرات من ايطاليا قطعة بعد قطعة , تم تكوينه وجمعه ليزرع قرب خاصرة حديقة الزوراء , وجد حاتم نفسه وسط اطفال ونساء وعسكريين وهم يلتفون حول التمثال لأقامته وجاءت رافعات ضخمة ومكائن لحام وسلالم اطفاء وقطعت الطرق , واخرج حاتم نفسه بصعوبة ودخل كوافير المنصور , غسل شعره وخرج من الغثيان , وبدأت حملة حول رأسه وملامحه , شاربه ولحيته , غدا كائنا كحليا تماما , ارتدى بدلة سوداء ولما نظر في المرآة وجد الكائن الأفتراضي المجهول بنظارته الطبية ذات الأطار الأسود ... وعاد الى المفيولا سريعا , نسخ صورته الماضية وصورته الجديدة , اعاد المقولات التي حملها الكراس عن وجوده المشكوك فيه وكينونته المعزولة .
شعرت ليلى ان الأحساس بالخسارة وحده لايكفي للتعبير عما فيه , كانت الوشيجة السرية التي تربطها بعالم اكثر صدقا , ونبلا ونقاء وقدسية قد انقطعت , وأصبحت في المواجهة وحيدة , كان احساسها العميق ان العمة قد قتلت , قد اغتيلت , قد تعرضت لأذى نفسي عميق بينما كانت الشاشات تنقل وقائع نصب اكبر تمثال في العراق , وشعرت ان الأخ يتعقبها الآن , ويتعقب حاتم بعدما فرغ من العقبة الأخلاقية والرادع الذي يؤرقه , بعدما تخلص مما يذكره دوما بحقيقته وتاريخه , ولذا اتجهت نحو الدار بينما صور الشاشات تعكس مشاعر مجانية لمشاركين في نصب التمثال , كان جسر ديالى قد بدا خاويا الا من سيارات متهالكة وعابرين مسرعين , وناقلات تحمل المؤن . نزلت الى الشارع المؤدي للدار , سارت في ساعة تسرب خدر الغروب , كانت الشمس تنسحب مخلفة غلالتها النحاسية على ظاهر بيوت الفقراء القابعين بعيدا عن الأنظار بانتظار قدوم البطاقة التموينية وما تحمله من بقايا طعام ..
سمعت وقع خطى وراءها ثم نداء باسمها , التفتت , هي ريمه ...
" ست ليلى .. انتهى كل شيء .. لم يعد لنا مكان هناك .. ابتعدي بعيدا .. هنالك كارثة في الدار وثم اناس ينتظرونك ويبدو على وجوههم الشر .. كارثة .. كارثة .. لم يعد لنا مأوى .. المجنونات والمجرمات حطمن كل شيء ..انا عائدة الى منازل الفقراء .. قد يتزوجني الجندي الصغير وأعيش مع اسرته .. او .. او .. لاأدري ...."
جمع حاتم التواريخ والأشرطة وأدار المفيولا وجهاز العرض وتتابعت صوره طفلا يدرج في ازقة الكرخ القديمة .. وصور الأسرة .. وصورته هو وليلى , ودار في عالم ليلى الذي اكتشف فيه مجهولا انسانيا اخرجه من قوقعة التسليم بأشياء لم يكن مؤمنا بها , كانت المحرض على كل تحولاته وهي التي فلسفت ازماته واحتقانات ذاته وهو مساق عنوة للحرب , وانخرط في عالمها على الشاشة فيما يجري حشد ذاكرته التي تعبر عنها الأشرطة والصور , كانت الشاشات في خارج المكان مازالت منهمكة في اقامة مهرجانات عن فضائل التمثال العملاق وقيمه الرمزية وظهر اناس يملكون ناصية الكلام وبدأوا بدعوة الناس للتنبه الى تلك الرمزية والقيم الرفيعة ..
اوقف المفيولا على صورة ضاحكة لليلى , صورة ضخمة ملأت الشاشة , انفتح الباب وحلت ليلى لتجاور الصورة . وقفت وجها لوجه مع ذاك الكائن في تلك العزلة في الزمان والمكان وتسربت بهجة فطرية في كيانها وكيانه وتعجبت من تلك الملامح الشابة التي طغت على حاتم وهو يردد :
· مجرد تمثيلية هزلية , فارس ..
تجلجل ضحكته ...
· عدت كما كنت ..
· لامجرد اولاد عبثوا بملامحي , قلت لهم مازحا اريد الزواج من فتاة تصغرني بعشر سنين وأهلها يرون في مشروع كهل , ولهذا انشد عبقريتكم ان تجعلوا شكلي مقبولا لدى القبيلة ...
· ..........
· كنت قد سلمت رأسي للأولاد , واغمضت عيني , عبثوا بشاربي ولحيتي , واختاروا لونا آخر لشعري وكنت اشاهد بين الحين والحين لقطة لصعود التمثال المقطعة اجزاؤه في صناديق ومع كل عملية تلصيق كان الأولاد ينتهون من مهمة تتعلق بهيأتي واكتملت القصة بالنظارة والزي ...
· لقد ماتت عمتي ...
· ........
.........................
في الصباح ... وبعد ليل مشحون ... حملت ليلى حقيبة وذهبت مع حاتم الى منزل العمة , خطا كمن هو خاضع لتنويم مغناطيسي باتجاه غرفتها وهناك نشج بصمت وخاطبها بأسى ...
كانت ليلى ساعتها قد خلعت ملابسها وارتدت ملابس اخرى , وبدأت رحلة بلوغ الصورة التي في الملف , وفي خطوات محسوبة قصت الشعر الطويل الفاحم حتى مستوى الكتف , وحل اللون البني المحمر بدل الأسود الفاحم , وحلت الثياب السود بدل الملونة واختارت نظارة مناسبة وولدت ليلى ثانية من حجرة العمة الكبيرة ...
تسارعت الخطى , خطى بحث الكتلة عن حاتم , وكان هنالك من يبحث عنه في الدفاتر والسجلات , ويوزع صورته الأفتراضية ..
...........

شُُحنت المفيولا والحقيبة مع الفجر .. على عربة نقل الموتى .. واكتمل المشهد في منزل سعيد , خزنت الأشياء في قبو الدار ..
كان هنالك كائنان افتراضيان , نسخة من حاتم ونسخة من ليلى .. نُُسخا بموجب ( الكراس ) , كاكه حمه في كركوك , بالأنتظار عندما نزل الكائنان المستنسخان ...
صامتان , هادئان , بملابس كحلية ونظارتين سوداوين ...
كائنان يستنسخان فصول رحلة جديدة بينما بدت السلاسل الجبلية بلا نهاية , وهما يجوسان في ليلها الثلجي الحالك
..............
(النهاية )
..............................................
بغداد - كانون الثاني ( يناير) 2005
...................................
الناشر:
دار دونكيشوت - اسبانيا
و
دار عين الزهور - دمشق
2006