Sunday, August 26, 2007

رياح القضية THE ISSUE WINDS

ريــــاح القضــية


حطت الطائرة في أرض أخرى ، صالات المطـار تكتظ بوجـوه من جنسيات شتى’ تجسمت أمامه صورة كـون صغير ، كـوكب اجتمعت في مـداه تناقضات الـدنيا .
(كوكب واحد فـريد .. داست على أرضه البكر سنابك الساسة والمحاربين .. واندفعت مخلفة ورائها كتب النظريات ودفاتر الأيديولـوجيا .. النـاس كما هم هناك عبر التواريخ صورهم وأعراقهم ومن حولهم الحلول والأسئـلة .. اليـوتوبيا التي داعـبت مخيـلاتهم .. ) .
تفرس في الوجوه واختلطت أصوات النظرية والمعلمين الكبار التي ترددت في رأسه بأصوات النداءات المعلنة عن وصول الرحلات الجوية في المطـار الأنيق .. ربما شعر بشيء من الرضا لرؤيته أناسا من أبناء جلدته .. طيبون بزيهم العربي التقليدي .. لكن سرعان ما أنغلق على نفسـه في وحـدة حاصرته لأنهم جميعا يلاحقـون نداءات الطيـران وينتظرون مواعيد الإقـلاع أو الهبوط ولذا فالكـل يهمل الكـل .
في سلـسلة بشرية متتابعة وقف .. ينتظر الأذن بالـدخول للبلاد.. كان مثل راحل في قافلة .. شـعر أنه أشعـث أغبـر في فـلاة مجـهولة .. يجـوس خلالـها في المجـهول .. كفّـاه باردتان وجسـده الرخو أثقلتـه الأدوية وجلسات العـلاج ، لكنه بقي كما هو ذلك الفـارس المنـذور للمقـارعة والـرحيل الطويل .. شعر أن رفـاق الرحلة عـادوا سيرتهم الأولى فتخلوا عن الطـائرات التي أقلتهم وعن أناقتهم المعهودة وحقائبهم الديبلوماسية والتذاكر وجـوازات السفر , وعـادوا إلى البرية .. إلـى الأرض الغفـل وألام المبــاركة ، وهـم كمــا هـم بأعــراقهم ويقينـهم ..
( في الأرض البعيدة يقيم أولئك المنظرون العتاة ، تفحصوا تواريخ الناس وانفصلوا عن طين الأرض ورحم البـلاد وأسسوا ألواحهم المحملة بصخب الادعاء وضجيج الصراعات .. جـاسوا خـلال ديـار مجهولة وجلبـوا العـنف نظـرية لهم .. وما انتـزع بالقـوة لا يعـود ألا بالنظـريات .. ) .
يستذكر الرجل فتـوته الأولى وهو يـزج نفسـه وسـط حمى النظرية وطوع الآخرون أشعـارهم في خـدمة النظـرية وكـان عليه أن يفعـل جريا وراء ذلك الشـاب الذي أتخـذه قـدوة .. شاب فيه سيماء الإخلاص للقضية وهو في التضحيات يقع في الصدارة .. كان هذا أبـن عمه الـوحيد الـذي اتخـذه قـدوة ومثـالا ..
ولـذا وافـق باندفاع أن يخـوض معه الخطوب والتحولات كلها وليس يتذكر سوى أن بنـود النظرية خجـلت فجأة عن مواجهة شراسة الأمـور وسرعان ما انقلبت الطاولات التي كانت تلقى عبـرها دفـاتر اليوتوبيا ، انقلبت وتنـاثرت جـوازات السفر وقـوائم الناخبين.
( أيها المدى الرحيب .. يا ظل الراحلين.. يا مرآة أعمارهم .. هـل في اتسـاعك ثم متكأ لهذا العـابر الجلـيل وحقيبتـه الـرمادية ومعطفه الثقيـل ، خـذ دفـاتر النـاس ومـر عبـر مسـار الانتفـاضات واتـركني شـهيداً طائـراً في الدنيـا الكـدرة ) .
مـر بـه غـلام تفــرس في وجهه لثــوان .. تنبه للنظرة المتسائلة للفتى ..وأبـدى استغـرابه وما لبـث الفتـى أن أقتـرب منه وسأله عن أسم مـا من الأسماء .. التي بلبلت ذاكـرته المتعـبة .. عـرف الفتى بعفوية بلده ومدينته .. تعرف عليه مباشرة وذكـّره بمثاليته وانه كـان قـدوه ومثـالا .. أنتفض رافضـا تلك المثالية وأكـّد أنه رجل مثقـل مـريض .. تاريخه يخصه .. ودفـاتره تـركها هنـاك حيث لا ينفع أحدا أن يطلـع عليـها .. وراح الفتى يتحدث بحماسه عن الإحاطات واليمين واليسـار والـوسط..
وفـوجئ هـو بتلك الكلمـات التي يـرددها الشـاب بلاوعي عنـدها ضحك عبـر صالات المطـار ضحكه مجلجلة .. وخـرج من المشـهد وضحكته تســبقه .
انزوى في ركـن بعيـد .. وقد طـوقته صـوره فتوته وهو يقـع في ذات الدائرة وهـو يحدّث أبن عمـه عن الطمـوحات والأمـل ..
(تشرّد القوم في البريه عندما انقلـبت المـوازين في البـلاد عكسياً وهبت ريح عاصفة ضـدهم .. تفرقت النظرية فرضيات وعينات بحث .. اكتفوا بقوت الرعاة والبدو .. بحثاً عن خلاص أما هو فلم تفلح البراري في احتضان جسده الذي صار فيما بعد مدرسه للعذاب) .
ربما كان هو الذي خرج واحـداً وحيـدا ًمرصعا بنياشين العذاب .. النوبات القاسية تضربه وسجـله الحـركي يلاحـقه في المخـافر .. أمـا اليـد الحانية وأصـوات المـؤازرين فقد غـابت جميعـا وتركوه وحيـداً يتحقق مـن المنطلقـات النظـرية .
لاحقته نظرات الفتى المتسـائلة في المطـار .. ولم يكـن يريد أن يـُرى مثل ديك مهزوم عاجـز عن العـراك .. بل أن تكمن نطفته في جيـل آخر لا يقع في أخطاء العصـابيين والمـوتورين والضـائعين ..
خلت الصالة ألا من العاملين والشاشـات .. وأصـوات نـداءات بعيـده .. أطلّ عبر الزجاج ليرى فجـأة أن أسمه هناك .. مكتوب على يافطة كبيره ويحملها رجل بسحنة سمراء اندفع نبضه متسارعاً واجتاحته رجفة مباغتة وكسا جسـده عرق بارد .. وزحف مثل جندي مطعون إلى أقرب نقطه يرى ما يجري .. ووسط ضباب الأحاسيس الكثيفة المجهولة .. وسط الضيق .. رآه .. هنـاك هـو .. نفسـه .. بعد كل هذه ا لسنين وجهه أكثر امتلاءً ونظرته متعالية شاخصة ، يرتدي معطفاً كحلياً ويدخن السيجـار ويسيـر بخطـوات هـادئة قـرب سيـارته الفخـمة وسـائقه وحـارسه يحفّـان به .. أنه ابن العم المنظّر الكبير تهالك هو على مدخل الصالة وسقطت حقيبته ولم يكن يقوى على الجمع بين الصورتين .. صورة ابن العم ببزة الكاكى وسحنة الكفاح ودفاتر اليوتوبيا وصورة الإعلان عن العطور الباريسية وعلب التبغ وسيارات الليموزين ..
أهو الذي سيسرّي عنه ويدخله مصحات العظماء .. ينفق على علاجه ويسكنه فندقاً فخماً أو فيلا فارهة .. أهو الذي صنع له من البريّة وخيام البدو بنود النظرية وعمّق له فراغ المكان وعطش الدنيا لليوتوبيا أهو الذي كان يتهيأ لإجابة الكادحين .؟
أهو.. الذي .. أهو .. أهو .. أهو .. ؟؟؟؟
جثم الانتظـار على الـرجل الطويل الأنيـق المحـاط بالحـرس وأجهـزة الهـاتف النقالة.......... وسكـن المشهد .
سكـن .. على ذلك الـرجل الواقف كتمثال شمعي في مـتحف المطـار بينه وبين الدخول للبـلاد مجـرد ختم دخـول ويمتطي سيـارة الليموزين ويكـون قـد نسـي امتطاء صهوات المنظرين والبـاحثين في القضية .
وبيـن زمـن يمضي وآخـر يأتي كـان هنـالك حاجز هـائل بلا حـدود بين عـالمين ..


2000

القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة