Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل الرابع


رواية : الكائن الأفتراضي - الفصل الرابع

كانت الناس تتمتع بعطلة وليلى تصنع نزهتها الخاصة على ارض غمرتها بقايا الليل , الندى ورطوبة الأفق , ولذة الفصول المتتابعة , كانت ثمة ولادات جديدة , براعم وزهور موسمية , وشجيرات مثمرة قد اينعت , وتكاثرت اسراب من الطيور وجدت في المكان ملاذا . دارت ليلى وهي تترنم بأغنية سائدة تبثها الأذاعات ... كان هنالك احساس بأن الدنيا يرفرف من حولها الأمان , مادامت الطبيعة هكذا مسالمة وديعة وكائناتها ترفل بالأمان والسلامة في عيشها .. كانت تلك الأحلام المترعة بالرحمة والصفاء هي زاد ليلى الذي يقويها على الأستمرار ..كانت فلسفتها في احتضان الطبيعة و قد اقترنت بحكمة راسخة تحرك الكون , وترنمت بجذل : اعطني الناي وغن ...
وعادت اليها صور امتزاج الطبيعة بالليل الكحلي الذي تتراقص نجومه , بالأقمار الصغيرة والملائكة المرفرفة اجنحتها الشفافة ," كم تخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور ... " .
عاد جبران بشفافيته في صورة ذلك الكون المشرق البريء النابض بالمودة والأمان والسلام , هذا الكون المحاصر بالشقاء واصابع الخوف , الأصابع التي تشير الى مكامن النور في هذا الكون , كانت منغمرة بعالمه : العمر الممتد في مراهقة عذبة , وان تلوذ فيما بعد بحاتم ... الأمتداد الأثيري لروحها العذبة المتوثبة , ذلك اللقاء المجنون الذي صنع عالمهما ... بعدما يئسا من كائنات تصنع الحب الصافي , وحولهما كانت البدائية قد سادت في قراءة الحب والتعبير عن الرغبة , وحتى الأفلام التي عرضتها السينما , كانت تصيب حاتم بالغثيان , فيلوذ هو بزاويته الأثيرة ويترك الجمهور الجديد يطلق اصواتا هي خليط من الصفير والهراء , بينما الغجر يملأون الشاشة ..
كان البحث عن تلك اللغة الرفيعة كتهجي اللغات البائدة , سيبحث عنها في موسوعة انثروبولوجية , اللغة المقترنة بالجسد والمغلفة بنسيج الروح .. آه يالهي ياله من تنازل عجيب هذا الذي تنحدر فيه الذات العارية وهي تلوذ بلسعة الشهوة ثم تخمد بعد لحظات فتكتشف الذات حجم البشاعة التي كان عليها وجه الذكر ووجه الأنثى على السواء .
بعد اللقاء ... لم يبق الا فحم وحطام ورماد وهباء وريح عاصفة وروائح تشبه رائحة خميرة البارود ...
كان " بيدرو بارامو " هو المعادل الموضوعي لحظتها , الأنسان الغائب المغترب عن مدينته الأيطالية الساكنة , هكذا هو الأمر على الشاشة , الأنسان المتوحد , الذي تقدمه صقلية وسط اناس يلاحقون فتاة وحيدة , انها تصطاد الرجال وتمضي الليالي في الرذيلة ...
كانت تلك الغوايات الصغيرة تتكاثف لدى الثنائي : ليلى وحاتم , في غبش رمادي وفي افق المدينة التي تحزم ابناءها في رزم من اللون الخاكي لتزجهم الى مطحنة الأحتراب والموت ... كان المتحف ملاذا , عندما شاهد حاتم مرارا حقيقة تلك الحكمة التي انطوى عليها العشق المسترسل ابياتا سومرية . الناس غير الناس والمكان غير المكان , بينما ليلى تهمس :" لابد من الخروج من عالمهم ".
كانت هنالك شبكة كثيفة غير مرئية قد كونت المشهد, اولئك الذين صاغوا هذا القلق والتشتت والصراع والكراهية وصورة الدنيا المزنرة بالمجهول , كانت هنالك مفاهيم مثل مفاتيح سرية لكينونة هذا المجتمع الذي كنت انا وليلى محوره الشقي , ولم يكن في الأمكان ان نمضي انا وهي في تلك السيرورة التائهة الملفقة التي لاتعرف ابوابها وحجراتها الخلفية .
بقيت ليلى معذبة تعيش كالمحمومة المبتلاة بأسقام غير مفهومة , وهي تلوذ بذاتها في اصياف قائظة مزرية , كانت تغتسل بالعرق , وتشهد كيف ان العائلة تمضي كل الى سبيل , السبل التي تلتقي عند اية نقطة لكنها تفترق عند ليلى .
كان هنالك سادة اشداء , وذوات محترمون زادتهم هيبة الدولة قوة , انخرطوا تباعا في مفاصل حساسة , وكانوا يعيشون عوالمهم الخاصة المجهولة , صار لكل فتى منهم منزلة خاصة وحياة سرية , حتى هشام ذو الثمانية عشر عاما صار له عالمه الخاص , نال شهادة الأعدادية بمشقة والتحق بالسادة الكبار , بنجمان ونجيب, كائنات تلتقي عند نقطة , يأتلفون عند خطط الغد , الصعود السامي في المسؤوليات والرتب , الولع الأسطوري المقترن برغائب المنصب والغرف المخملية واحلام الليل , وتبادل اللذة , انزوت حتى نسيت وحتى صفقة تزويجها بدت ساذجة لأنها بدت وكأنها مجرد مشروع زواج فاشل , كانت في يوم ما رائعة وشفافة قبل ان تتجمد الحواس بالحرب والحصار , والأنهماك بالأحلام السعيدة لأبناء الأسرة الأشداء الذين صارت تسندهم قافلة من ذوي المصالح والأحلام السعيدة . كان انزواؤها قد جعلها تخفت تدريجيا ويذوي عودها , كانت علامة القلق المنسي الذي ينشب في مكان ما من كيان العائلات التي انشطرت اهواء وطموحات ومشاريع وصفقات .. اما هي فقد كان عالم حاتم الناشب في مكان من الذاكرة قد دفعها ان تنسج منه امان معذبة وسورات امل .
انفرط عقد الجميع , وبيعت مواريث ونالت هي نصيبا وعاشت في كنف عمتها في ذلك البيت الذي ظل متشبثا بالذاكرة المنطفئة واماني البلاد المهددة .
زوجة الشهيد التي سقت ليلى منذ سنين معنى تلك الصلة السرية التي تربط امرأة برجل .. كانت نهال ملاكا شفافا ملفعا بالسواد ومؤثرات اليتم , الغياب عنها روحي متشظ في كيانها , وكانت هي التي اشعلت في ليلى الثقة انها قادرة ان تصنع ملتقى سعيدا يؤطر عذابات اللائي مثل نهال ذاتها .. حصيد نساء يشكلن " جرنيكا " عراقية من مخلفات الحربين الفاشلتين .
انتظرت قدوم حاتم وقرأت عليه سطورا تصف العالم الأفتراضي الذي كانت تنوي بناءه , ان كان حلما ام حقيقة , هناك عند جسر ديالى , وفي المقتربات البعيدة بني ذلك النزل المنسي , مرت به نهال في خفر حيائها , ودربت فيه ارامل ويتيمات وقدمت مساعدات , واحتضنت نساء ضائعات ومحطمات ثم تركت البيت لليلى واختفت هي .
..........

ريمة ... ريمة... ياعصفورة ايامي , ويابرعم الحياة في روحي ... هكذا تتجلى الأم فجأة وهي تتنشق رائحة ابنتها الوحيدة , في نوبة عاطفية عاصفة من نوباتها ... وتمضي في ذاك الأستغراق الأمومي المترف , تمضي هي موزعة الأهتمام على الصبية في شكل علب لماعة من الهدايا ودمى وعرائس ومزامير وملابس جديدة , وتنغمر الفتاة في عتمة العطور المتداخلة التي تضوع من شعر الأم وجيدها واثوابها وصدرها , وتشعر الصبية بالأختناق وهي مغمورة بأحضان الأم الدافئة :
- اني اكاد اختنق ... اتركيني قليلا ..
- وهل من فتاة تضيق ذرعا بأمها ؟
- وهل كانت لك ام وانت صبية ؟
- امي لاتشبهني ياريمة , انا ام مختلفة , ام جميلة وتحبك
- ولكنك تنسينني دائما
- احيانا فقط ..
- ولااجد احدا يلاعبني
- سأطلب من الخادمة ان تلعب معك
- اريدك انت .. او ...ابي
- لا ... الخادمة معك
- لا.. لااريد ... لاااريد..خذي الألعاب والثياب ... لااريد
- احيانا تكونين مزعجة
- لااحب الهدايا ... خذيها ... اتركيني
ترتمي الصبية في سريرها , تنشج بصمت , وتنطلق الأم بسيارتها الى حفل تقيمه الأمة لدعم الصبر والصمود ...
احتشد المكان بسيارات فخمة وحراس ومرافقين , رجال مدججون بالأسلحة , وآخرون يرتدون بدلات انيقة , ويرسلون نداءات عبر اللاسلكي ..
اختالت كطاووس في الحفل , ووجدت من يهتم بها من المديرين والسكرتارية وشاهدت الولد الشقي يتصدر المائدة الكبرى ويصدر اوامر وتلقى بيانات حماسية ويأتي مغنون وشعراء ينشدون لنفس الفكرة , تتابع دخول الناس ومالبثت الحديقة الغناء ان تحولت الى معسكر , احتشدت اطقم الحراسة صفوفا , وانضمت هي الى جوقة من غرفة التجارة وتحادثوا سريعا , خطبوا ودها في وقت مناسب , ودعوها الى مشاركتهم مشاريع جديدة , عرضوا امامها مشاريع نجاح مؤكد , سيعلن عن بيع مصانع الدولة ,لنتفق ونحتشد ونأخذ حصة. لم تلق بالا لكثير مما تسمع كعادتها , وهو ما يبعث على خيبة امل متجددة واحباط يلاحق كثيرين ممن عرفوها , حتى اسموها كتلة الثلج في بحر المجهول , نصفها واكثر هو غير المرئي واما الظاهر فهو يبدو ابيض ناصعا لكنه بارد لدرجة التجمد ...
اللامبالاة التي تغرق فيها تبدو محيرة وعجيبة, لايرف لها جفن وهي ترى من حولها ماترى او تسمع ماتسمع , تتعامل معهم بحيادية تامة , هي منطقة الحذر عندهم , هذا هو التقويم الأخير , انها مكلفة بمتابعة كبار التجار وانها مرسلة من فوق .
الطالعون الى ذلك الأمل , ليسوا وحدهم ابناء السادة الموسرين , الذين لم يذوقوا ماذاقته انا ياريمة ... انت زهرة الشقاء ياريمة , لفظتك خطيئة الحروب وكنت الكتلة النارية التي اطفأتها وتلقفتها وغرستها في حواسي , من يرى تحت اية اصوات واية ملامح تشكل خلقك الأول , وكيف ومتى ؟ اسئلة تترى ياريمة , في رحلة الشقاء من الأقاصي الى تخوم بغداد المغلقة على اسرارها وسادتها واباطرتها .
باص متداع يقل اناسا يلجون هذا العالم , يزورونه عابرين , ويخرجون منه حذرين , فلاحون ونساء ملفعات بالسواد , يأتون المكان الملاذ , متخففين من شقائهم بحثا عن صاحب كرامة او ولي في ظاهر بغداد ... حشد آخر , نساء ورجال وصبية هم زبائن دائميون لأطباء شارع السعدون .
مضى نهار بعد نهار والأم لاتعرف سر ماتعانيه , ياريمة , كانت امي التي تشظت روحها تحت ثقل المشهد اليومي , مشهد الشاب الممشوق القوام ...اقصد ابي , الذي تتقد في داخله رغبات شتى , ويجد في امي صورة اخفاق . تلك المرأة البدينة المبتلاة بآلام المعدة والأمعاء والأحتقار شبه اليومي وطقوس الضرب والمهانة , كانت الغرفة المقابلة ميدانا لصراع مرير , امي تتكور على ذاتها تحت نور برتقالي شاحب , تذود عن كينونتها , فيما يقف الشاب الطالع بثقة المندمج حديثا في فلسفة الثورة ودفاتر الحزب , يقف بلا ادنى اكتراث يزدريها ويحتقر كينونتها المترهلة , لايجد في ذاك الوجود جذبا لشموخه واندفاعه انها تأكل الطعام مثل بقرة , وتنام مثل بغلة , وتضحك مثل ... وهكذا ينزلها تدريجيا ويوزعها على مجموعة من الحيوانات ...
كان الثوار قد امتلكوا اسباب القوة في المدن , وتشعبت تنظيماتهم السرية ثم مالبثوا ان برزوا الى العلن ... وعندها كان لذلك الثائر المدجج برشاش من نوع بورسعيد وسيارة جيب , كان له مايريد , زاد دخله وكثرت مهماته , وزاد اختلاطه , وجرب في البدء سهرات بريئة لمناقشة خطط الحزب , ومن ثم دخل الطعام والشراب ثم دخلت اشياء اخرى .
ومع تصاعد المهمات , كانت صورة امي تنزل بالتدريج , وهي المنشغلة في نهارها برعاية اولاد صغار , عصافيرها الصغار الذين تطعمهم من جوع وتؤمنهم من خوف , وكنت وانا انام في حجرها اتنشق رائحة هي خليط من التوابل وروائح الطعام والخضار ورائحة الغروب . كانت كتلة من هذه الأرض , كتلة من قلة الحيلة والصبر , وكان اقصى ما تصنعه هو ان تكون مطيعة , منداحة في عبودية.. و في عشية وقعت المصادمات وانطلق الثوار , كان ابي في هالة برتقالية وامي في طاعة وتسليم بقدرها , غير قادرة على الأجابة عن اسئلة من قبيل : متى تتغيرين ؟ متى تصبحين آدمية ؟
كانت اسئلة اقرب الى الأحاجي , كل الناس نيام الا امي وهي تخضع لمحاكمة منتصف الليل التي تتكرر ماان نخلد للنوم , لم اكن ادري سر ذلك الصمت المريب الذي كان يغلف الغرفة ثم مايلبث ان ينفجر في شكل شجار ومحاكمة تستمر ساعة او اكثر وتنتهي تاركة الما ما في نفسي , كانت عشية صعودهم , مضى الأب في تساؤلاته غير القابلة للأجابة , ثم اندفع هائجا مزمجرا ,انتزع حزامه الجلدي وراح يسوط ذلك الجسد المتكور المطيع الصامت , كنت اسمع وقع السياط والأنات الراجفة المخنوقة ولما بدأ الأنين بالتحول الى نشيج مقترن بالألم , شعرت ببرد يسري في عروقي , ونبضي يتصاعد , ويداي ووجهي يغسلهما العرق , تقدمت بلا ادنى ارادة مني مثل السائرة في نومها , ووجدت نفسي هكذا ... مثل درع واق احول بين سياط ابي وتكور امي , كائن محتقن الوجه جاحظ العينين , الشرر يتطاير من محجريه , والكلام المختلط بغمغمة غير مفهومة يمتزج بالزبد , كان لاهثا عاري الصدر , عاري الساقين , وامي تتلفع بملاءة وظهرها وحده مكشوف للسياط , مسكني مثل قطة تائهة من كتلة شعري وجرني , دار بي مسافة بين غرف المنزل وهو يصرخ , وامي تتشبث , كنت ارى القمر الوردي يدور معي في رحلتي بين الغرف ,انزلق على البلاطات الخشنة , ينشب اظفاره في ظهري ولا تكاد قدماي تمسان الأرض وفي رمية واحدة اجد نفسي في مخزن مهمل للغلال والحطام والخشب , رماني دفعة واحدة فوق اصواف ووبر قديم ولطمت وجهي كتلة من الخشب واغلق الباب دوني ومضى يمارس دوره المعتاد .


............
مضت ريمة تروي وقائع مشتتة من صور موزعة في ثنيات الذاكرة , ثم نزلت من السرير , وبدأت بالتدريج تتكور على نفسها , وهي تردد : هكذا , هكذا , كانت جدتي تتكور وتتلقى السياط , الناس بلا قلب , وامي هي التي شهدت كل شيء ولكنها ارتني على مرآة نفسها وجها متغضنا محزونا , لايخلو من شر ورغبة في الأيذاء , كنت افتقد بالتدريج ذلك النسغ اليومي المختلط برائحة تجسد الحنان , فيما الدنيا الطالعة تأخذ في كل يوم مساحة من ذلك الوعي , ولم تكن هنالك صورة اشد رعبا في المشهد كله غير صورة الأب . الآباء كلهم يحملون سياطا يخبئونها وراء ظهورهم , هم لايقدرون على ترجمة مفردة اسمها حنان , ذلك الترياق المجهول الذي يزيفونه ويدسون السم فيه , ويسقونه لنا من اجل ان تسقط الأنثى في فخاخ الذكورة , وما يلبث الفارس ان ينظف سيفه , مما علق به , يعيده الى غمده تاركا آثار السياط في الوجدان والروح والحس والعاطفة .
احقا كل اولئك الرجال هم آباء مثل ابي , ثم مثل جدي , كان السؤال يلاحقني ... وانا اتسلل في غيبة امي , ارمق ابي وهو كمن يمارس اليوغا او يغرق في التأمل ... اوراق كثيرة من حوله اوراق بعضها مدعوك والآخر مكدس على طاولته , نظارته على ارنبة انفه , بلوزته سوداء تسور رقبته , لحيته كثة لكن ليست طويلة , جلسته مستقيمة , وكنت ابحث وسط الزرقة التي تغلف المكان عن ذلك السوط الذي يخبئه الرجل ... ابي ....
مرة سمعت امي تتحدث الى صديقة لها عبر الهاتف : هل قرأت الكلام في هذه المجلة التافهة : انهم يرددون قول كائن اسمه نيتشه وهو يفتي قائلا :"هل انت ذاهب الى المرأة ... اذا خذ السوط معك " .
يالبلاغة المثقفين ... فما بال اولئك الجهلة الذين كانوا اشبه بذكور الدواب التي لاتملك الا التعبير عن ذاتها الأنانية , يدعون الأنثى تكدح وتشقى فيما هم يتلذذون بكل مااوتوا من سلطان ..
كانت صورة الأب قد تضخمت في عقل ريمة , وبدت صورة ذلك الأب المسالم المنزوي في عالمه بعيدا عن الأم التي نبذته وابعدته في جناحه الخاص , بدت تلك الصورة اكثر تداخلا وتعقيدا , كان هنالك آباء اشرار يتكاثرون في نسخ جديدة تتحد وتتداخل في كائن هو الأب عند ريمة ..وبدت الأم و قد فقدت محور ارتكازها وهي تدور حول نفسها , حول انوثتها المحنطة , وحول ذاتها الملاحقة بالمحظور ... وبذا سورت الفتاة الصغيرة ريمه بعلامات على الطريق , على طريق الحياة , تهتدي بها كي لاتفقد الطريق ... الممنوع والمسموح ، تفاقم الأمر , وساقاها التفتا على بعضهما بقوة في تدريب متواصل ... ذلك الألتواء الشرس الذي لايريد ولا ينبغي ان ينفك هو دالة على الأنثى وهي تخرج الى النور والى الناس والى اسراب العيون الفضولية . لم تكن ريمة تدرك سر ذلك التدريب المتواصل على الحذر والطوارئ والأقناع ... وبذا انطمست صور عابرة شتى بما فيها صورة ذلك الحوار المبتور والمشتت والمتقطع الذي كان يتدفق في اثناء اللقاء العابر بالأب المنزوي , المندغم في عالمه , وبين هذا وذاك كان هنالك سلم طويل وملتف على نفسه , سلم القلق الأنثوي الذي كان نواة صغيرة قد ولدت في كيان ريمة , كانت امها وهي في ذلك الحفل والمكان المعتادبن , ناد اجتماعي تتنمي اليه شريحة من الأثرياء ومن كبار موظفي الدولة واجهزتها الحساسة ومن الذين تجري توصيات خاصة بقبولهم ومن عائلات الوزراء والقادة , وفي كل ليل كانت تجري احتفالية وطنية , كان هنالك اكثر من كائن يشبه الأب في شكل ما , البدلة العسكرية , بدلة الواجب المميزة , الحزام العسكري العريض , النظرة الباحثة عن الذات بين ثلة من الأناث من بنات وزوجات اولئك المسؤولين وبدا لها ان ثمة صلة ما , صلة تمتد بامتداد النظريات والأفتراضات التي كانت تنظم وجود وعمل اولئك الثوار , وفي كل مرة كان هنالك من جاؤا محملين بأرث ابيها نفسه , اناس مخضرمون صاروا يرممون اثر السنوات العجاف في ملامحهم وداخل نفوسهم , وهاهم في نفس نزعة الثوار في فرض الذات بأي شكل من الأشكال , السيطرة المقترنة بالقوة والأستيلاء , الأمر الذي يشبه قوانين العسكر المطلقة التي يجب عدم مناقشتها, وبهذا كان له وقع اشد سطوة وهو يسري من الرجال الى النساء ... وحيث تجسمت في عقلها وحسها , وتفاقم في داخلها الأحساس بالغربة عن المكان , وبأن اناسا يقتربون من عوالمها بالكلام المنمق الموجز والمدعم بالأغراء , اغراء المال والحظوة , هم اناس يحملون تلك الكثافة من الوحشية التي تستبطن حواسهم وسرعان ما تتجسم وتظهر للعيان عندما يتاح لها ذلك . كانت ترى وتشعر بتصدع هائل يكتنف اولئك الذين تسحق الأوامر آدميتهم سحقا ولم تكن تستطيع تحمل فكرة قدرة هؤلاء على العيش بسلام , كانوا مقهورين بسياط السلطة , اشد من كتلة اللحم المترهلة التي كانت تتمثل في امها ... فأن كانت الأم تمضي نهارها في تنشئة عصافيرها وتتقى ماتتلقاه في آخر سويعات الليل , فأن هؤلاء يعيشون الحالة طيلة حياتهم , وفي ليلهم ونهارهم , في بيوتهم وبين ابنائهم وزوجاتهم وهم في العمل ام خارجه , في وقت تعبهم وكدهم او في وقت راحتهم , كانوا يبدون مثل تماثيل نحاسية صلدة , يمدون قبضة ضخمة اذا وقعت على الكائن فلن تبقي له وجودا يذكر , واول ماتسحق لمجرد وجودها : انسانية الكائن , تصادر وتمحو نور روحه المرفرفة الآمنة المسالمة الطيبة الصادقة المقترنة بالفطرة , كانت تلك القبضة التي تشكل ذاتا جمعية قد تجسمت في تركيب ووعي اولئك الناس الذين وهم يرفعون بطاعة وولاء واذعان ورضوخ وتسليم وتذلل تلك المطرقة فتسقط في كل حين على شريحة او كائن , فأنها كانت في الوقت ذاته تفتك مثل فيروس لاترياق يقضي عليه , تفتك بكينونة الفرد , بفيض فطرته , لتتولد في اماكن غير مرئية من الذات سطوة العبودية والخنوع,و لتولد الكتلة اللحمية التي تمثلها امي , وهي تتلقى سياط الذل ... كان القوم وهم على هذا يرتقون منصة الحفل بالزهو ... زهو الحاضر الجميل , حاملين المطرقة واما السياط فهي جزء من لذة الوجود , لذة السلطة التي تلقم ابناءها سياطا وتلاحقهم بالمطرقة اينما كانوا وفي كل آن وحين ..
سيارتها تمضي , قادمة من ليلها المعتاد , ليل الأحتفالية البروتوكولية حيث توزع الناس منغمسين بأهوائهم والدور الذي يؤدونه وتفرقت نساء بأزياء تلاحق الموضة , الزي الطويل الأزرق المشقوق حتى انتهاء الساق , يتكرر مثل لازمة حتى صار قانونا غرائبيا تسيد على عضوات يافعات في الأحتفالية . اندمجت بالمكان والشخصيات وبدت فيما هي عليه كمن يؤدي دورين , تجلس الى ندى وعصمت وام شموخ وام منتصر وزينة وفريدة وتغمرهن بالهدايا , زجاجات العطر والحلي والساعات الثمينة واطقم الزينة , وتشتري لنفسها تلك المكانة كي تفسح لها اماكن او سع في البيوت ولدى الأزواج صناع القرار , وهكذا صارت تحضر اعياد الميلاد والأحتفالات الشخصية والسهرات وحفلات الشاي في البيوت بلا عدد , وكونت شبكة نسائية ضمت ثلة من نساء لاتعرف كيف تصنفهن او تصفهن , في اي مكان واية زاوية , هن سيدات طيعات يقتفين اثر رجال يجلبون النعمة من اعلى مصادرها فتتجسم اموالا واراضيّّ وبيوتا ومصانع واطقما من الذهب والماس واللؤلؤ وماعدا ذلك فأن مايقلق هو اتساع ظاهرة الزوجة الثانية والثالثة , او ما يدعونه ( جدد حياتك ) و ( غير حماتك ) او ( غير عمتك ) فالرؤوس الكبيرة قد انهمكت في هذا وشاعت قصص مسؤولين كبارا فعلوها , فماكان من الأتباع الا اقتفاء الأثر من مبدأ الولاء المطلق والطاعة وتمثل سلوك المافوق مهما كان وفي اي شكل كان .
واذ مضى الليل وئيدا حاملا حذره المعهود , تراخت ريمة ودهمها النعاس ونامت هانئة , كانت سعاد قد تركتها بسلام ومضت تتابع البيان الحماسي الجديد , فقد كان الشد والجذب قد بلغ مداه . الحكومة تترقب حلا عالميا للخروج من القصة المعهودة , المتحف العالمي الذي يقدم صورة البلاد مختصرة في عدة مئات من الآلاف تفتك بهم امراض حرب الخليج , المتحف المتنقل , زوار البلاد ان كانوا كراما او صعاليك فأنهم ينقلون فورا الى مستشفيات قذرة ومحطمة حيث تجري فصول احتضار اطفال ثم تطورت الصورة للمتحف بأن انتقل الى الشارع من خلال النعوش الجماعية والتشييع الجماعي للأطفال في مسيرات تهدف لأيقاظ الضمير العالمي , ثم الضغط على الأمبريالية كي تشعر بتبكيت الضمير فتعلن صاغرة انها قد اخطأت .كانت الصورة على الشاشة تتحدث عن آخر جولات المفاوضات بينما كانت صور اسواق بغداد تقدم انهيارا تاما في كل شيء , التجار خسروا اموالا طائلة والدولار قد هبطت قيمته والطعام قد تهاوت اسعاره وغزت الأرصفة والشوارع طوابير باعة متجولين وتجار يصفون بضائعهم بدعوى ان الأتفاق سيجلب منا وسلوى ... وتتابعت الأغنية الراقصة والأعلانات عن مسرحية الغجر , تأملتها سعاد وكرهت ملامح الطبال الذي يرافق الراقصة , وكان يشبه شكل ذاك الذي دهمها في المطبخ قبل سنوات طوال .

شعرت بالقشعريرة بينما التلفزيون قدم مجموعة من التجار الخونة كما قال البيان ، وعادت الاعلانات عن مسرحية الغجر، وعاد الطبال بشعره الفاحم ، وعصاه التي يقرع بها ، فيما بدت الغجرية شاحبة الوجه ، وقد ارخت شعرها الاسود طويلا وراحت تدور به دورات سريعة يمنة ويسرة ، وعاد المذيع ليحذر بشدة كل من تسول له نفسه ثم اجري لقاء مع الطبال والحديث عن سيرته وتأريخه الفني وكان يسير في حديقة ومن خلفه تلوح اعلانات ضخمة له وهو يضرب على الطبل والراقصة قد احنت ظهرها بأتجاهه، ثم عاد المذيع ليقدم نقلا مباشرا عبر الاقمار الصناعية للكلمة امام اللجنة الاممية ، وظهرت عبارة : سنواصل عرض الغجرية والطبال بعد انتهاء جلسة المفاوضات مع الامم المتحدة .
دارت سعاد حول فراشها ، غادرها النوم , نهضت ، سارت بأتجاه النافذة ، كان هناك ضوء ازرق عند نهاية الطريق الى المبنى واضواء سيارات في مدى البصر ، انفتح الباب الخارجي ودخلت سيارة بيضاء وخرج منها شخصان .
عندما نزلت درجات السلم ، واقتربت من جناح الادارة جاءها صوت ليلى، وثمة حوار متصاعد مع الشخصين ... كان الحوار قد بدأ يتطور مع تصاعد صراخ ليلى وهي تردد: اين حقي..اين هذا الحق ان كنتم تريدونني ان اخرج من هنا فألى اين؟
وانتهى الحوار الطويل الذي تارة ما يتصاعد الى الصراخ واخرى الى الخفوت الذي لا يسمع ... خرج الاثنان واغلقت ليلى الباب في اثرهما بقوة.
عادت سعاد الى حجرتها اذ لم تتشجع ان تطرق الباب على ليلى وتسألها فتبدو مثل متلصصة او فضولية ، اطفأت اضواء المكان ونامت بهدوء. انغمرت ليلى في نومها الهانئ بعد ان ابتلعت حبة مهدئة ، كان البياض يلف المكان ، وبدت في براءة الطفولة وهي تتشبث بالملاءة وتلقي صفحة وجهها الى العتمة فيما يلوح جبينها مضاء من نور شاحب يأتي من النافذة .
مدى شاسع، أرض فلاة، نهار هدأت فيه الشمس الساطعة ، لا احد غيرها بثوبها الابيض الفضفاض مثل ملاءة عريضة ، او عباءة فضفاضة تضربها الريح، تفتح ذراعيها وترفرف مثل طائر حر ، تركض في بطء ثم لترتفع مع ارتفاع ربوة بسيطة الارتفاع ، وفي الاعلى تلوح مواكب رجال يسيرون مسيرة عسكرية يتقدم احدهم منها وهو شقيقها (نجمان) يؤدي تحية عسكرية .. ويلتفت وراءه ، يحمل جنود غلاظ صندوقا خشبيا يفتحونه، ويخرجون منه حاتم وهو مدمى الوجه والسياط قد تركت اثارها على صدره ، ولم تسمع غير صرخة الجندي ( خائن) وهو يشير بسبابته الى راس حاتم . خائن.. خائن.. طلقيه اتركيه فورا .... خائن , تركض نحوهم كي تحمي جسد حاتم الهامد المغمى عليه ، لكنهم يزيحونها جانبا ويجرون الصندوق بحبال غليظة وهي تحاول ردهم دون جدوى ، تركض بأتجاههم وهم يسرعون.. وتستيقظ من الكابوس مذعورة.
كانت اصداء زائري الليل شقيقاها نجمان ونجيب قد ظلت تلاحقها وتلاحقها سيرة اخوة تتشكل على ايقاع زمن جديد ، رابطة جديدة لاعلاقة لها بالدم والعرق الواحد ,والأنتماء الى رحم وصلب واحد , القصة مختلفة الان ، القصة تتعلق بموقع حاتم الان ، في مرحلة الصعود الجديد ، الآمال العراض بعد هذا النصر المؤزر ، بعد البيان الاخير ، بعد ايام رمضان التي شهدت كل هذا الانهيار وكل هذا الامل ، انتعشت فيه امال الفقراء بعد ست سنوات على انتهاء الحرب . والانتقال الى حروب يجري طبخها في هدوء . جاء الشقيقان من اجل الاعداد للمعركة الجديدة ، التنبيه الى ان الزحف قادم ، بأتجاهها وبأتجاه حاتم ، الركنان الحجريان البائدان اللذان يحولان دون مسيرة القوافل الطالعة الى الغد .
ورقة من بضعة سطور تختصر كل شيء ، يجري تعقب الرقم( .....) تمت مفاتحة (...) للمراقبة وتمت مفاتحة (.....) لتعقب افراد عائلته المهاجرة الى اوربا كيف خرجت من العراق وهل لها علاقات مع اعداء الوطن، المعلومات انه متزوج من ( ل.ن.س.) تحمل الرقم (......) تجري مراقبتها وتسجل لقاءاته بها .... يقال انهما منفصلان ... لكنها على اتصال به لانتمائهما المحتمل الى كتلة واحدة ... تمت المفاتحة لمراقبة دار السينما (....) شارع(......) حيث له حصة في ارضها او بنائها ( التأكد) . انتهى.
...
(ل.ن.س) هي مفتاح الحل .. الدخول الى عالم حاتم سليم من خلال عاطفة امراة ، وحضن امراة وشباب امراة وسرير امراة وضعف امراة... اليس كذلك يا نجمان اليس كذلك يا نجيب ؟
المدينة ضاجة بالتحول بين ترقب هلال العيد – بغداد 1996 ، وبين مسرحيات العيد ، المواطنة الصالحة ليلى ، مسجلة في دائرة الشؤون الاجتماعية ، ناشطة في التطوع لخدمة نساء الشهداء وارامل الحرب ، السيدة المكرمة بالميداليات والتهاني... ملاحقة كما هو ملاحق زوجها . التقارير لم تجمع على انه زوجها حقا .. وانه يشاركها بيتا ويسكن معها في حجرة ويشاركها سريرا واحدا ، لم يتأكد هذا ، ولا عرف ان لها حملا شرعيا او انجابا منه ، ولا شوهدت في دار السينما التي يقطنها ولا شوهد هو في مكان عملها .. مجرد تلفيق . ومعلومات مشوشة ، هذا ما توصل اليه نجمان واوصله الى السلطات كي تنشغل به فيما يقطع هو بنفسه دابر كل شيء .. نجمان: لانريد تدمير ما بنيناه من اجل سواد عيون صعلوك لا يعرف له اصل ولا نسب محترم ... انتهي من الامر .. اطلقنا لك العنان لانك مريضة .. مريضة هل فهمت هنالك مصحة للامراض النفسية مفيدة لك.. فان كنت على ذمته فأعلان في الجريدة تقرين فيه ان محل اقامته مجهول وقد فارقك منذ سنين ولذا تطالبين بالتفريق ... وان اطل برأسه معلنا انه موجود فسنأخذه فورا ..عائلته مهاجرة بطرق غير شرعية .. اسرة غير وطنية لم يعرف لها الولاء .
جملة اخيرة ان لك حقوقا .. لا تهدريها .. اجراءات الارث قادمة وستنالين ثروة طيبة تنسيك ملامح ذلك المتشرد البائس .
ان كنتم تريدونني ان اخرج من حياتي ...فألى اين؟
السطر الوحيد الذي قالته غاضبة وغادروا ورددوا كلمة معهودة : وقد اعذر من انذر...
.....
اخرج من حياتي ..
ايها الكائن المتراعش الكامن في الذاكرة ،
اخرج من قلقي ...
وعد الى عذاباتي..
هل تحصي عدد الكلمات التي قلناها وعلقناها على نافذة الامل..؟
هل تعلم عدد الدقائق التي مرت ونحن ننتظر ..؟
هل تعلم كم خريفاًًً مرّ وانا ارنو لنافذة باردة ..؟
هل تعلم سيرة الامهات : ينتظرن اولادهن ..؟
انتظرتك امّا، ورافقتك املا،
كنت وطن العمر ،
ولحظة التئام الامل ,
وكنت رجع صدى الاحزان ،
اية انثى انا ... ليس غير كلمة على جدار الذاكرة ...
اخرج من حياتي...
وعد الى محراب روحي...

صفق الحضور ومضت ليلى ساهمة تتطلع الى ابطال المسرحية ، واصداء( اخرج من حياتي) تتردد في رأسها ... ولاح حاتم بقامته المديدة على الخشبة ، واطلت هي صارخة فيه " اخرج من حياتي وعد الى محراب روحي" .. انفض الجمهور وليلى ساهمة ، وسعاد ترمق ذلك التيهان ، وتدرك ابعاده وتشعر بها حقا ... حتى مرت بيدها على كتفها فأيقظتها من حلم يقظتها ، ومضين الى الجناح الاداري .
جاء مفتش الوزارة حاملا معه اسئلة حول نشاطات البيت .. وبدأت به سلسلة جمع المعلومات عنها من زوايا مختلفة ومتعددة ، وعلمت جيدا ان القصة تتعلق بنشاطاتها هي وليس نشاطات البيت ، واخبرها المفتش انه قد نقل عنصري حراسة من مقر الوزارة الى بيت النساء ، فتأكدت انهما لمراقبتها . وجاء فريق فني صور نشاطات البيت وكان واقفا يصور المكان المحتمل وجود حاتم فيه .
كان ظل حاتم قد بدأ ينتشر في المكان ، هاجسها الشخصي الذي نقلته الى سعاد ، الحراس المخبرون من جندوا من موظفي الدار لغرض المراقبة ، مراقبة طريق السينما .. اماكن سينتشر فيها ظله ووجهه المجهول الذي بدا مثل شبح يرافق سيرورة الحياة ..
هم لايدركون حقيقة ذلك التخاطر الروحي الذي يراود المرء ساعة احساسه بخطر ما يدهم انسانا قريبا منه، انسان هو امتداد للحواس في اللحظة ، ذلك الامتداد غير المدرك وغير المحدد بزمان ولا مكان ، الميتافيزيقيا التي ينكرها هؤلاء تقترن بوجود حاتم في الزمن الراهن الذي ارى فيه ان الكون مقبل دوما على ولادات جديدة ، ولادات في الفكر والوعي والخبرة والذات البشرية ، كل هذا الركام المجهول من الفلسفة ، الاغراق في التجريد كان جزءا من رحلة نحو المجهول ، كنا مثل شخصين مطلوبين ، ملاحقين، من البداية، كان قد حسم هذا القلق، او حاول انهاءه وقرر ان يتقدم للخطبة ، من اجل الاحساس بالأمان ، واننا لسنا مخطئين في حق احد وان كل شيء هو حق وتحت النور .؟. بدت عمتي مثل عرافة قديمة ولم تكن تردد غير جملة واحدة :" هل قررت ان تتركيني وتذهبين اليه؟".
وسريعا وافقت وجاءت موافقة نجمان والاخرون تحصيل حاصل ، لمجرد ازاحة بقعة ادمية اسمها ليلى كانت تشكل قلقا في زاوية ما من زوايا العقل ، خوفا من ان تخطئ وتسبب في احراجات للعائلة . وهكذا فعلت ماهو صح..
كانت المعلومات الشاحبة والقليلةعن حاتم كافية لدرء الموقف المهم : انه غير معاد للحكومة .. ليس لديه من المعدومين وما عدا ذلك ليكن ما يكون .
مرت العبارة في ذهن ليلى وعلى لسانها : لا.. غير معاد... لا... لم يعدم احد بعد من اسرته.
وهكذا تم كل شيء في منزل العمة ثم في البيت الملاصق للسينما ثم في شقة المتحف ثم في بيت النساء.
كان هو قد انغمر في القصة من اولها ، وصور وقائع ماجرى ويجري من خلال وثائق فيلميه جمعها وكونت بالتدريج تفصيلا اضافيا لما جرى في البلاد .. كان يجرب صنع ( جريدة سينمائية ).. ولهذا بحث في سوق الهرج ولدى باعة الخردة وفي مخازن مواد التصوير ، بحث عن ماكنة تساعده في هذا .. كانت ماكنة المونتاج مطلبه الأكثر الحاحا ، كان ذلك بعد الزواج بنحو شهرين .. كانت هناك احلام لرسم مكونات الجريدة السينمائية المفترضة .. اذ يمكنها ان توثق جانبا اخر , واقع ما جرى في البلاد على حياة سائر الناس ، كان مجيء جهاز المونتاج ( المفيولا) هو الولادة الحقيقة .. ويوم عثر عليها في شركة انتاج افلام اشهرت افلاسها كمن وقع على كنز ، ولم اكن اتصور انه سيكون سعيدا الى هذا الحد .. جاء راكضا , الفرحة لا تسعه ، وسعادته اسعدتني وشعرت به وهو اكثر براءة وصدقا في تلك اللحظة وبدأت الرحلة . كانت الوثائق التي تجمعت لديه واللقاءات التي اجراها جارحة وخطيرة ، ولا يمكن السماح بها رسميا ، وكان مجرد سماع المرويات التي كان الناس يسرون بها اليه يشعر المرء ان المكان يضيق عليه وان ثمة مخبرين سريين يراقبونه . كانت صورة اخرى قد تكونت بالنسبة له هي خليط من خيالات لصور شعرية شفافة ، عبر عنها بواسطة السينما ، تكاثفت صورة البلاد بنهريها ومبانيها الاثرية وتاريخها واناسها الملاحقين بالثورات والبيانات الحماسية ونوبات الحرب التي تشبه الصرع التي اجتاحت البلاد ، حتى اختلطت الصورة في عقول الناس بين ( المقدس والمدنس ) ، كيف النظر الى قدسية الدفاع عن الاوطان في مقابل الصراع الدامي لافناء اوطان اخرى والجلوس على جماجم ابنائها .. هذه هي خلاصة سؤال من اسئلة عدة اقترنت بحربي الخليج
.............
الناشر : دار دونكيشوت - اسبانيا ودار عين الزهور - دمشق 2006 .