Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل الثامن

رواية : الكائن الأفتراضي - الفصل الثامن
خرجنا انا وسعيد وقد احمر انفه وتورمت شفتاه .. وتكورت الدنيا امامه واختزلت في دائرة يختلط فيها الأسى بالغضب بالكراهية بأوجاع الماضي ، الأهانة التي لحقت به ظلت تتلوى في تلافيف عقله مثل افعى ، وتتجسم في ذلك التشنج الذي سيطر على تقاطيع وجهه ، ثار فجأة ونحن وسط الطريق بين الرحمانية ومستشفى الكرامة :
* ماذا تراهم سيفعلون بنا اذا ما وقعنا في ايديهم ؟ ما جرى كان قطرة من بحر .. هل تدرك هذه الحقيقة ..؟ كله بسببك ، كنت اتحداهم ان يصلوا الي ولكن لم اكن اعلم انك ستتحول الى طعم انجذب اليه فاتلقى ما تلقيته .
* انا اسف .
* لا انتظر منك هذا الاسف ، لكن ان تزيح الغمامة عن عينيك وتحزم امرك فهم قادمون .. هم يريدونك .. واما انا فسيعودون الي وقتما شاؤا وسيسألونني عنك اذا ما اختفيت انت . * انا مصمم على المواصلة...
* هذا يخصك لكن ليكن في علمك اننا دخلنا في مربع اهتماماتهم .. صرنا هدفا ، واصبح لكل منا رقم ، وسيكتبون: تم التحقيق مع الهدف رقم كذا وتم انذار رقم كذا...
* وبعد ذلك ؟
* قبل ذلك هل سألت نفسك عنهم وهل سيكتبون في التقرير انهم يلاحقونك من اجل ان تنفصل عن ليلى؟
* لا ادري .
* ما يجب ان تدريه هو انهم سيكتبون انك هدف سياسي، ولديك هاربون خارج القطر وانكم سلالة مشبوهة وانك غير مساهم في الدفاع عن..... الى اخره .
افترقنا قرب مستشفى الكرامة ورحت ابحث عن هاتف كي اخبر ليلى.. كانت هنالك مساحة اتخذت متنزها صغيرا يفصلها الشارع عن نهر دجلة ، مساحة اتخذها شيوخ مجلسا لهم وساحة للعب الصغار ، بينما بدت بضعة دكاكين قريبة وهي شبه خاوية ، بضائعها هزيلة واصحابها جلسوا يتأملون في الافق البعيد حيث تلوح رافعات البناء الضخمة وهي تبني قصورا في الجهة المقابلة على كورنيش الاعظمية ..
انقطع صوت ليلى عبر الهاتف ، واختنقت، ولم اعد اسمع غير همهمات , ناديتها ولم اتبين الا جملة: انا قادمة .
اعطينا ظهرينا للجدار البارد في صالة الانتظار انا وهي .. بينما انهمك سعيد في حركة مكوكية وهو يذرع الممر جيئة وذهابا ، تارة مطأطئ الرأس وتارة اخرى متطلعا عبر النافذة .. كانت هناك عاملات خدمة بدينات وعجائز، يحملقن فينا ويكررن السؤال والدعاء، وينتظرن بفارغ الصبر الاكرامية عن نجاح العملية ، دفعنا للاستعلامات وللادارة ولبائع التذاكر ولمدير الصالة من اجل ان نكون الى جانب منال .. نزلت دمعة من عين ليلى وهي تنظر في فراغ الممر الازرق ورائحة المعقمات تملأ المكان والصراخ يتصاعد من الردهات الداخلية قالت :
* اذا ، فقد زارك خفاش الفجر .
* ......
* واعاد اليك القصة ذاتها ..
* ..........
* وما صلة سعيد بهذا ؟
* جاءني مصادفة فضربوه .
* وانت .. هل ستهرب.. المسألة فيها عنف واعتقال وربك وحده يعلم ماذا بعد ذلك ؟
* هاه .. اهرب .. الى اين ؟
* سيلاحقونك .. انا اعرف اخوتي .. انتهى ، انت الان في رؤسهم ولا يجلسون جلسة الا ونكون انا وانت موضوعهم..
* سافري انت الى امي ..سافري اليهم ..
* ما اسهل ان تقرر قطع جذورك .. ان كنت تمتلك هذه الجرأة لما لا تفعلها انت وتسبقني.؟
* انا اتحمل .. ولكنني خائف .. خائف عليك .. انا نفسي الى الجحيم ، ليكن ما يكون ، كم مرة مت في الحرب ولم امت .. لن يميتونني الا اذا اراد الله ان اموت على ايديهم .
زحفت يدها على الجدار الاملس البارد ، ودبت ببطء حتى لامست ذراعي والتحمت بكفي ، احسستها متراخية واهنة ، تحمل كلمة استغاثة بعيدة مثل صوت قادم من الفضاء .. وانفتحت في عقلي صور شابين يافعين يشاكسان بعضهما بعضا في حديقة الزوراء ، ولاحت صور حراس وثكنات جيش وعربات نقل جنود .. كان الهدوء قد سيطر على الممر .. في تلك الدقائق من انتهاء الدوام الصباحي عندما انفتحت بوابة غرفة العمليات ودفع ممرضون عربة كانت تحمل منال بوجهها الشاحب ورأسها المغطى . اندفعت ليلى نحوها ..ازاحها الممرض بهدوء وطلب ان تنتظر ريثما توضع على سريرها وتخرج من تأثير المخدر. مرت الدقائق ثقيلة ، ثم اندفعت ليلى باتجاه الغرفة واحتضنت وجه منال بكلتا يديها وقبلتها على جبينها ونشجت قربها ، افاقت هي بالتدرج ومدت كفيها لسعيد ولي ثم امالت رأسها نحو ليلى , همهمت ليلى:
* لماذا .. لماذا ايتها المجنونة لماذا لم تخبريني .. لماذا فعلت هذا بنفسك، كنت تتألمين بصمت وكلما اتصلت بك كنت ترددين انا بخير..لماذا ..لماذا ...؟
شعرت ليلى بعذاب لاحقها ، كانت كمن تدفع ثمن مشاركة منال الامها ، كانت تريد ان تخفف عنها بطريقة ما , ان تحمل جزءا من وجعها ، سألت سعيد عن الاولاد ، كانت مضطربة ، مشتتة لا تدري ما تفعل , دست مالا تحت وسادة منال ، قالت انها ستبقى هنا , ستمضي الليل معها .. جلبنا لهما طعاما وفاكهة وخرجنا.
كان الغروب يجر اذياله على وقع اصوات اذان صلاة المغرب التي تصاعدت من احياء بغداد ، اصوات شباب وكهول تتبعها ادعية وتعاويذ وصلوات على النبي واله وصحبه ..
اكترينا تاكسي ، وعادت قصة النفط مشى والسوق جامد والناس خائفة وكلنتون مصمم على ضرب العراق والحكومة لا تقبل دخول المفتشين للقصور ، كل هذه الاحاجي رددها السائق على مسامعنا وشعر باللاجدوى لانه لم يجد تشجيعا منا، سعيد لا ئذ بمنال وما جرى في الفجر ، وانا اتحسس كف ليلى وندائها، استغاثتها ورعبها ..
مررنا بالصالحية ونظرت الى مدخل شقتنا القديمة في اول اشهر زواجنا ، لاح المتحف بزرقته وشكل الاناء النذري محفورة على الجدار .. ثم جاء نصب الجرار والنصب الضخم ( لسفينة نوح) كما يسميها الناس فيما تسميه الحكومة ب( نصب المسيرة) . قال السائق انه بحاجة الى التزود بالوقود فوافقنا، نزل وعبأ خزان السيارة ، وعاد، انطلقنا مجددا بينما السائق ظل يردد دون انقطاع ( .. النفط مشى، والخير كثير ، انهار من النفط ، بحيرات , العلاوي تحتها نفط والثورة تحتها نفط والاهوار تحتها نفط، وكركوك كلها نفط والبصرة والعمارة وقره تبه ولايتي كلها طامسة في النفط ومع ذلك الخبز الذي يعطونه لنا في الحصة لا يعطى للحيوانات صدقوني يا جماعة خبزنا فيه بقايا نوى التمر وسعف النخيل.. واشكال الشوائب ، اخي الناس ابتليت بالقولون والقرحة بالالاف ... لكن لا احد يتكلم ).
نزلنا في حي العدل ، عند بيت موفق ، اندهش لرؤيتنا وتهلل وجهه وفتح الابواب وضج معلنا مقدمنا كما هي عادته ، صاخب ، عابث، جاءت زوجته واولاده وابوه الكهل وامه ، واحتفوا بمقدمنا ، شربنا الشاي وكدنا نغادر فاغلق الباب دوننا كعادته.. وحلف بالطلاق ان لا يخرج احد .. العشاء.. ثم السهرة والسمر ثم المبيت واليوم خميس وغدا جمعة ولا عذر لأحد في الخروج.
وبدأ الحديث عن الكتلة بعد العشاء مباشرة . مرت على ليل ليلى صور متنافرة ، اناس غرباء ، تائهون في فلاة لا نهاية لها .. فلاة اسمها هذا الواقع الذي تعيشه البلاد ، المستشفى متحف هائل بلا قرار للأوجاع والأحباط ، الخواء في الخدمات والرشى المستشرية والفقراء الذين ينهشهم المرض بلا رحمة ، لم ينقطع الأنين ولا صراخ الثكالى في ذلك الهيكل الاسمنتي الجاثم في الفلاة ، كانت جوقة ضخمة تتوزع الالم ويقودها مايسترو مجهول ما انفك يوزع الادوار ويستمرئ المهزلة.
بدا عجز كل الايدي والعقول عن فعل شيء لفك هذا الالتباس العجيب بين صبر الانسان وعذاباته وبين تشبثه بالحياة فيما الموت يطوقه من كل جانب ، في تلك الردهة الرمادية حيث كانت منال تحملق في السقف وذبابة تدب على ظاهر كفها ، بدا تتابع غريب لنساء يتم استئصال اجزاء منهن، بالاخص من الرحم والثدي ، كأن هنالك هجمة وحشية تستهدف نساء الوطن وتقضم ارحامهن واثداءهن ، وصار الحديث عن التفاعلات الكيمياوية والاشعاعية مثل قصة تأسيس عصبة الامم ، الذين اسسوا لا يفخرون بشهادة العصبة على كوارث العالم ، ولا الذين يتحدثون عن فوائد الكيمياء والفيزياء والذرة يفخرون بهذه جميعا وهي تنخر في اجساد الكائنات , تراجيديا النساء المستباحات هي ديكور هذا المكان ، النساء المشرعات لمباضع التشريح والاستئصال ، لم يكن الواقع هو نفسه الذي تتحدث عنه الاذاعات والاناشيد الحماسية ، النساء هنا ثلة من القرويات البائسات واخريات من اشباه منال من الطبقة المتوسطة ، ولذا كن امتدادا لبعضهن ، كن في صورة ما مشهدا من هيكل الحرب وامتدادا تقليديا لها ، عشن الحربين العراقيتين الرهيبتين ، وها هن يقدمن شرائح من الارحام والاثداء قرابين لبوابة النصر العظيم .
كانت قصة ملفقة ونوعا من الخزي تلك التي تقرن القطع المقتطعة من اجساد النساء بالهراء الحماسي ووطن الاوجاع..
سخطت ليلى وهي تقلب المشهد وتدور في الردهات وتستمع لعشرات القصص ، امضت الليل وهي تتنقل بين تلك المشاهد المتصلة للاحلام المريضة والسريالية الوحشية المرتبطة بآمال العبور وأحداث شرخ في جدار الحصار.. ردهة كاملة لنساء يتوزعن على الاسرة , نساء وفتيات صغيرات ، سيدات ومراهقات كلهن ينظرن بعين واحدة بعد انتشار عارض جديد لا تعرف له اسباب واسمه ( تهدل جفن العين) تهدل الجفن وحده كان مشهدا سرياليا عندما يعجز الجهاز العصبي عن الايعاز للجفن بان يرتفع عند مقلة العين كي ترى.. هذا الجفن الثوري المجنون الذي يحاول الاطباق على البصر كي لا يبصر ويرصد ما يجري .. ترى من سيقبل بتلك الفتاة اليانعة بجفنها المتهدل؟
دارت على تلك الكائنات وحفظت الوجوه وانتقلت الملامح الادمية الشاكية الموجوعة الى سيل من صور البورتريه لوجوه مطرزة بالوشم وملفعة بالسواد ، القرويات المعذبات ، ثم الفتيات اليافعات طالبات الثانوية والجامعة وهن يواجهن مصيرا مجهولا في ظل التهابات عجيبة واورام مرعبة ، كانت هنالك قصة متصلة الحلقات متحدة الشخوص تقترن بهذا المشهد ، ولذا وجدت ليلى في دمعة منال ملاذا لكل هذا ، بعد ان امضت الوقت في الاصغاء لقصص اولئك المعذبات والتخفيف عنهن ، فتحت النافذة وبصقت مرات ، وهاعت ودارت الارض بها ، وهي ترى بغداد بعد انتصاف الليل , مدينة لا تستطيع ان تغفو ونساؤها مكشوفات للقدر ، مرميات على قارعة فرق التفتيش ، مستباحات بأنجازات التكنولوجيا . الانانية القاتمة خنقتها وهي تتمثل لها في من يدري بما يجري في هذا المعتقل / المستشفى ومن لا يدري..
استغرقت منال في شبه اغماء كامل ، كانت تفيق لبضع دقائق وتتكلم بصعوبة كلام هو اقرب الى الهلوسة ثم تعود الى عالمها ، تغمض عينيها تدريجيا ويرتعش جفنها مع تتابع قطرات الماء المغذي الذي ربطوه بوريدها . قطرات تنزل لتتغلغل في جسدها المتراخي ، اه ياالهي كم هو ملائكي وجهها ، البراءة التي تغلف محياها والاستسلام الهانئ الذي هي فيه اشبعاني أسى وانا ارى بقعا دموية على ضمادات صدرها وخيطا احمر قانيا نحيفا على ظاهر كفها ، لذت بالنافذة بعيدا عن صراخ في مكان ما ، حيث ردهات الاطفال وكوارث استقبال اجسادهم الغضة المشبعة بالألم والمأساة وسط زغاريد مقولة ( النفط مشى).
مع الصباح، جاء حاتم وسعيد وتسلموا امر العناية بمنال ( تخرج ليلى شاحبة الوجه ، ذاوية العينين ، تسير بقدمين واهنتين . وجدت زاوية يباع فيها الشاي في حديقة قفر ملحقة بالمستشفى ، ساحة كالحة تجمع فيها الحطام الذي تلفظه الردهات ، كانت هنالك بقايا مزرية تلقى من الطوابق العليا بطريقة عبثية وفوضوية ، ملفات مرضى ، صور شعاعية كنزات اطفال ، اسمال ملطخة بالدم ، اسرة محطمة ، بقايا طعام ، صحف يومية وبيانات حكومية ممزقة ، لم تستطع تقبل المنظر بسهولة ، ارتشفت جرعة شاي مر ثم اخذها الطريق.. سارت بمحاذاة اسيجة و دخلت في ازقة ، كانت كما هي عادتها في الغالب ترتدي ثوبا كحليا وتغطي شعرها بقماشة من اللون نفسه وتضع نظارة شمسية قاتمة ، تمر على نساء يتصارخن ورجال يتشاجرون ، تمرق حافلات طويلة من نوع تاتا هندية الصنع من التي جُلبت من الكويت ، حافلات مكتظة بالناس رجالا ونساء وقد جعلتهم ازمات النقل العمومي اكثر الفة ، الرجال ملتصقون بالنساء والنساء لائذات بالشقاء والصمت ساكتات على انتهاك منظم يتعرضن له من كل جهه، حضرت في المناجاة الصامتة وعبر النظرة المتطلعة الى الافق عاليا , حضرت صورة منال والدار والعزف المترنم على الكمان ، ثم توقف المشهد على العمة الكبيرة ، ناجتها عن بعد :
* تبدين شاحبة ، لا طعام في جوفك، تذكري ان هنالك معدة خاوية اخرى ، الجنين الذي يخفق في احشائك .
* الجوع ياامي احساس غامض مشترك ، نتدرب عليه ويصبح الاعتياد عليه جزء من نشيد المجد لبلاد من انجازاتها انها تدرب ابناءها على الجوع ولو كانوا اجنة
* غريبة انت عن الناس والمكان..
* الغربة ياامي ليس ان تعيشي مع غرباء ، بل ان يعاملك الاخرون معاملة الغرباء ، ثم يرتدون فجاة قناع النفاق ويسيل لعابهم وتنسحق كينونتهم تحت اية مصلحة او حاجة او رغبة .
* وحيدة انت في هذا الصراع والجدل...
* الوحدة ياامي هي هذا اليباس الذي تعيشه الحدائق ، اهمال الكائنات الهشة وتركها عبثا تحت رحمة اقدارها ، الوحدة ليس ان اكون وحيدة بل ان يتخلى الناس عن امانيهم خوفا وجزعا ويتقوقعون في فلاة وحدتهم .
* المستقبل عندك هذا الذي انت فيه ..
* المستقبل ياامي كلمة كلت عقولنا عن ادراكها وشلت ايدينا عن صنعها او نحتها من صخر ايامنا ، المستقبل تشبث بنوازع الذات ايا كانت ، انانية التملك ، سحق الاخر ، ثم ندبج بيانات حول عظمة المستقبل الذي داسته سنابك الشهوة للمجد.
تفيق ليلى من جدل متصل مع ظل العمة الكبيرة الذي يلاحقها ويحوم من حولها ، هذا الاحساس بالحاجة والتفاعل معها الذي ازدادت وطأته مع الوقت ، ولذا لم تعد تسميها عمتي بل.. امي وصارت تلوذ بها وتسألها ان تمنحها حسا بالأمومة حيث الرأس يهدأ ويجد ملاذه على صدر تلك الأم الواقفة بلا حراك تتطلع في الفراغ وتمنح حسها الأمومي لمن تشاء.
وجدت نفسها قبالة الدار ، لا تدري كيف مر الوقت والمسافة هكذا دفعة واحدة ، نامت في السيارة وهي تقطع الطريق الى جسر ديالى ، ايقظتها السيدة التي تجلس الى جانبها ،فخرجت من اغفاءتها مذعورة وحملت حقيبتها وولجت الدار.
كانت ظهيرة النهار الرمادية تلقي الوانها على واجهة المكان والانعكاسات الضوئية تخفي ما هو كامن في الداخل خلف تلك الواجهات الزجاجية ، ولم يكن يسمع صوت من الداخل ، فتحت الباب الرئيس فاندفعت سعاد نحوها . مصفرة الوجه ، زائغة النظرة ، شاحبة الشفتين واعلنت مباشرة عن اختفاء ريمة .. تبع ذلك الخبر اصوات الولولة المعتادة للاخريات .
* لقد اختفت ..ريمه
* واين تراها ذهبت ، ربما لزيارة اسرتها ....

* لا ابدا .. لا اسرة لها .. لا احد ..
* الا يزورها او يتفقدها احد .؟
* لا ..
* من هم معارفها ؟
* لااحد غيري .
* اتراها شبح حل في المكان .. افتحي ملفها واقرأي اسماء الناس الذين تعرفهم .
* لا احد . الملف لا تتوفر فيه اية معلومات .
* الا ترين ان ثمة امرا غامضا ما .. لا تعرف احدا .. ليس لها احد .. اسرتها غير موجودة .. ما هذا ...؟
شعرت سعاد ان الكلام هذه المرة موجه نحوها وفيه تشكيك في ما تحمله من معلومات عن ريمة ولذا استجمعت افكارها واجابت بجملة واحدة :
* تلك هي الحقيقة .
* الحقيقة انني اراها مهزلة وما كان علينا ان ندخل انفسنا في دوامة نحن في غنى عنها .
* ...
* انت التي جلبتها للدار وتعهدت بها .
* وهل انا التي هربتها من الدار ايضا ؟ هل انا متهمة .
*انت الوحيدة التي تعرفينها ومسؤولة عنها .
*انا غير مسؤولة الا عن نفسي .
*اغلب البشر هكذا ... هم اليفون ودودون امام الناس وعندما ياتي وقت المسؤولية يخفون رؤوسهم في الرمل .
* الدار تتحمل المسؤولية ايضا لأننا لم نحاول التعرف .....
* اسمعي سعاد .. لا اريد مزيدا من المحاضرات ويؤسفني اننا اذا ما اتصلنا بالشرطة فسيستجوبونك . لانك انت التي جئت بها والوحيدة التي تعرفينها اليس كذلك ؟
* انت تحاولين دفع التهمة عن نفسك وتزيحينها علي .
* انا ؟
* هذه هي الحقيقة . انت لا تعلمين ما يجري في الدار وانا مضطرة ساعتها ان اكشف كل شيء .
* وماذا ستكشفين ، ومن اين لك هذا التهديد والوعيد ، ومتى تجرأت ان تلاسنينني بهذه اللهجة ...؟
خرجت سعاد غاضبة ويمتزج غضبها بالاحباط والرغبة في البكاء وان تخرج هذا السخط في شكل ما ..
واما ليلى فقد خرجت مباشرة واجتمعت بالأخريات واخبرتهن عن اختفاء ( ريمة ) .
* هي فتاة يتيمة ويجب ان نسارع من اجل ان ننقذها ، اطلب من الجميع ان كانت هنالك اية معلومات عنها ان تخبروني .
خرجت ليلى من المكان والقلق يسيطر عليها عندما تبعها وقع خطى ثم كانت في مواجهة الحقيقة التي بدأت تتسرب بين النزيلات في همس وشيء من السر .
لقد ذهبت ريمة مع جندي ... جندي كان يدور في المكان ، وتحادث معها , عين راصدة شهدت الحوار , جندي نحيف ، اصفر الوجه ، بدا انها تعرفه او تعرف احدا من اسرته ، وانتهى لقاؤهما بأن سجلت رقم هاتفه واهدته ابتسامة عريضة وفي اليوم التالي غابت .
كان ذلك الغلام مجرد جندي متسيب سجله حافل بالعقوبات والمؤشرات على سوء ادائه .. ارسلت ليلى حارسا وسائقا للتحري عنه بحجة او بأخرى حتى عرفت من هو واين يسكن .. وحصلت على افادة مؤكدة انه كان على موعد مع ريمة .. وعندما اثارت القصة لدى ضابط الشرطة صدمت من دفاعه المستميت عن ذلك الكائن ، والقاء اللوم عليها هي وعلى الدار واتهمها بالتقصير وان هنالك سوء ادارة وتقصيرا في ضبط ساكنات الدار وان القصة قد تتحول الى جهات اعلى اذا ما استمرت .. وكلما حاولت تقصي موضوع الجندي كان الضابط يعترض تحت ذريعة ان الشخص المدني العادي لا يحق له المساس برجال القانون وتطبيق النظام .. هؤلاء محصنون بالقانون وغيره مسموح الاساءة اليهم .
ووجدت نفسها امام كتلة هائلة من الأكاذيب والتلفيق ووجدت نفسها وحيدة في الميدان ، حتى سعاد تخلت عنها والأخريات لا حول لهن ولا قوة ..
عندها استجمعت شجاعتها وقالت كلمة موجزة :
( حسنٌ ، ساتقدم ببلاغ اخر الى جهة ما لا بد ان تسمع القصة ) .
تمالك الضابط نفسه وبدا غير مكترث بينما رنت في راسه كلمة (جهة ما ) .
في المساء كان الضابط والجندي النحيف يقفان امام الدار .. دخل الضابط واعلن انه لم يكن يعلم بسلوك الجندي ، وانه استدعاه ووبخه ... وانه حقا يعرف الفتاة .. لكن لا علاقة له باختفائها ، وانهم سيبذلون جهدهم من اجل العثور عليها والتمس عدم توسيع المشكلة .
جاء الصباح ، وجاءت معه ريمة .. اجل هي .. بدمها ولحمها ، كانت ترتدي ثوبا رماديا تنتشر عليه زهور صفر صغيرة ، كان شعرها منسدلا يغطي جانبا من وجهها ويخفي احدى عينيها .. تأملتها.. ثم سلمتها الى الباحثة الاجتماعية واتصلت بطبيبة المركز الصحي طالبة زيارتها واحتساء فنجان قهوة معا ثم قامت الطبيبة بفحصها فحصا دقيقا . وهذا كل شيء......
عاد حاتم منهكا من رحلته مع سعيد ومنال , دلف عبر الطريق الى ساحة الشهداء كان الغروب قد غلف الشارع الشاحب، وكان الباعة يلملمون بقايا بضاعتهم وانتشرت بقاياهم على الارصفة، كان المقهى العتيق مفتوحا، وجد في نفسه رغبة للجلوس واحتساء الشاي، كان الخلق المتفرجون من الكهول متناثرين في زوايا المكان يجترون وقائع اليوم :
- اكلنا المفتشون... كانوا مثل النمل يا رجل فتشوا حتى صفائح القمامة..
- صاحبنا ولا عنده خبر ، نائم واذناه مغلقتان وعيناه لا تريان شيئا العلة ليست فيه بل بزمرة الحرامية الذين يرقصون ويغنون ليل نهار بينما الناس تئن وتنتحب..
-
رحم الله الرصافي.. فلو كان حيا لسخر من اشكالهم المنافقة...
........................
الناشر : دار دونكيشوت - اسبانيا ودار عين الزهور - دمشق 2007