Sunday, August 26, 2007

البحيرة THE LAKE




البحيرة


ظل الهدوء يغلف سطح البحيرة حيث يلوح من بعيد المنتجع السياحي ، العيون تراقب .. خيوط سنارات الصيد تدور وتدور في فراغ ثم تنزل خاطفة على سطح الماء .. يفعلها الأولاد بكسل وبلا رغبة ..تلقي شجرة السدر ظلالها .. فيما هو نائم .. تركوه نائما ... سئموا الدورات المتصلة .. نهض هو ولكي يشوش على الآخرين ، القى حجرا وسط البحيرة ،حجرا مفاجئا بدأ يفقد شكله وحجمه وهو يشق مساره صاعدا حتى بدا ندبة او نقطة في فضاء ازرق ثم نزل فجأة وخلف حفرة مائية ودوائر رجراجة متصلة ، لكمه على وجهه وبطنه ، ظل الأشقر يضحك وهو يتلقى الضربات ، بينما الآخر مستغرق في نومه الكاذب وهو يردد متثائبا : " الا يوجد من رزق هذا اليوم ؟ " كان متكئا الى ساق السدرة الذي امتدت فيه الأخاديد ، كان يحضن كيسا ، ناداه الأشقر ، لتجرب ذلك الشيء لكنه لم يلتفت ولم يجب وظل ملقيا قبعته القماشية الخضراء على وجهه بأهمال محاولا الأنقطاع عنهم . ترك الطويل خيوط اللعبة بنزق وهو يشتم الأشقر الذي ظل منبطحا على بطنه على مساحة خضراء وهو يلتقط الحصى ويرميه ويراقب ذعر الضفادع وسرعة انخطافها ولجوئها الى الماء ، شاهدهما الأشقر ، امعن النظر فيهما ، ترك دفتره ، ظل فاغرا فاه والعرق يتفصد من كفيه وتحت ابطيه والدوي يتصاعد في رأسه ، مارس لعبة خبيثة ، ظل يدور ، يذرع ساحل البحيرة مرات عدة ، كمن يمارس لعبة سحرية ، شاهدها يوما على الشاشة ، هندي يشعل النيران ويدور حولها وحول بركة ماء ثم يتمنى فيتحقق مايتمناه ، تذكر تلك الدورة البلهاء وهو يلهث راكضا ، والأرض تدور من حوله فتارة يغمض عينيه وتارة يضع كفيه عليهما فتتعثر خطاه وينحرف مقتربا من حافة المياه ثم يمعن في الركض وهو يضحك ويتمتم ، كانت الكلمات التي يرددها مجرد شتائم يلقيها على صاحبيه : الطويل وصاحب القبعة الخضراء ، عندما اقترب المساء وبدا السكون مسيطرا على البحيرة وتصاعد ضجيج الطيور العائدة الى اغصان السدرة ، ناداه الأثنان ، لكنه ظل يركض ويتمتم ، عندها شتماه وانصرفا يتأبطان دفتريهما المدرسيين . ما ان احتواهما الطريق وبدا في المدى ظل قامتيهما حتى تدفق غبارها ، ثم تتابعت سلسلة من الأصوات لأصطفاق ابواب السيارة المنتظرة وضجيج وموسيقى ، فتح عينيه ، توقف عن الركض مرددا : " فعلها الهندي " . كانت سيارة حمراء لامعة مفتوحة الأبواب ، قفز منها اربعة وبدأوا في تهيئة المكان ، عندها انحنى هو ثم ارتمى على الأرض وراح يزحف حتى بلغ السدرة ثم زحف الى الربوة التي تشرف على تلك التلة من الأعلى دون ان يراه احد منهم ، كان اثنان منهم ، شاب وفتاة قد ابتعدا راكضين الى الأرض المعشوشبة ثم تواريا فيها ، اما الفتى والفتاة اللذين بقيا فقد اخرجا طعاما وعلب مرطبات وراحت الفتاة تطعم صاحبها وتسقيه ، وعندما يقترب منها محاولا ضمها اليه كانت تبعده ، وكلما تكررت الحالة كان الفتى الأشقر يضرب الأرض بقبضته ثم اشترك الأثنان في رقص متصل على انغام موسيقى غربية . عندها دمدم الأشقر والدم يغلي في عروقه ، وتذكر الأثنان اللذين غابا في العشب ، التفت اليهما ، لم يكن لهما من اثر ، لكنه شاهد حركة في المدى الأخضر الساكن ، عندها انسحب حانيا ظهره وتتابعت خطاه حتى بلغ نخلة تجمعت تحتها قشور رمان وعلب معدنية ومكعبات ورقية ، وظل يزحف حتى بدا له ممر طويل من الأرض التي تيبست عليها الحشائش فبدت صفراء لامعة ولاحت على ذلك الممر الأقدام الأربع المتعانقة وهي تتبادل مواقعها فتارة تثبت على القش وتارة ترتفع ، عندها فغر الأشقر فاه واندفع لأكمال المشهد ، كانت الفتاة شبه عارية الصدر وكان شعرها منسدلا يخفي عينيها وجانبا من وجهها وهي كالثملة ، تتذبذب يمينا ويسارا والفتى يتلقفها في حنو . جاء الطويل راكضا ، هجم على صاحب القبعة الخضراء وانتزع الكيس منه ، عندها انتفض الفتى كالملدوغ وظل ممسكا بالكيس والطويل ينهره ويلوي ذراعه ، وثمة ضجيج يتردد صداه حول البحيرة ، استيقظ الأشقر وأسرع الى الأنضمام الى الجلبة ، عندما اخبره الطويل بقدوم مجموعة جديدة تهلل وجهه وانطلقت اساريره ورفع قبضته الى الأعلى وظل يصنع قفزات متصلة ، ثم صار يحول بين الطويل وبين نيله الناظور الذي اخرجه صاحب القبعة الخضراء من الكيس وألصقه بعينيه وأداره دورة واحدة ثم اخرى وهو يردد " مشوش ، لاارى " والطويل كمن يجلس على موقد من الجمر ، هجم وأدار قرص الناظور وتبع ذلك بركضة سريعة وتبعه الأثنان وارتمى على التلة وأدار قرص الناظور ... اشياء تتدفق جذلة ، لذيذة ، ينقطع فيها الضجيج والثرثرة وتبقى تلك اللغة الخافتة المتسربة عبر البحيرة وعبر: السدرة التي احتضنت جيش الطيور .. دورات متصلة لخيوط واهنة تلقى على ظاهر البحيرة ، الصمت يتوزع على اجساد مترهلة وممشوقة ، شقر وبيض او سمر وصفر ، ظلال المدرسة وأصداؤها تبتعد ثم تخفت وتتلاشى ، كل شيء يهدأ في تلك اللعبة الماكرة التي يمارسها اثنان مراوغان يمارسان الدهشة والحلم على كف الطبيعة وفي كنف مداها ، دون ان يحسب احد ان ثمة ست عيون لاتترك طريدة تمر دون ان تفرض ضريبة الفضول والتدقيق في الأجساد المأخوذة الى العناق في مدى لايشوش هدوءه شيء يذكر . يظل الأشقر مأخوذا بالأثنين على العشب ويظل يحكي مرارا كيف يصنعانها . الأثنان كلاهما ، لاكما شهد مرارا رجالا مندلقي الكروش ينشغل واحدهم بين قفل ازراره وتسوية الشعر الذي يستر صلعته ، والبصاق عدة مرات والأنتهاء من المرأة وأشاحة الوجه عنها ثم الأسراع الى القائها في جوف السيارة ثم الأنطلاق خلال دقائق . ظل الأشقر ذاهلا وهو يشهد تدفق العشب وتمايله في ذلك التناغم الأخاذ ، العيون التي توارت خلف شعر ذهبي ، الغلام المناور الذي لايترك لها متسعا لترى اين حدود البحيرة وماالذي يختبئ وراء السدرة اوعلى الرابية ، نزل الأثنان ، رجل في الأربعبن بلحية صغيرة وفتاة مقصوصة الشعر كأنها صبي ترتدي تنورة حمراء وكنزة بيضاء موشاة بخطوط صفر ، تحاورا وهما يتلفتان حولهما ، ظل الناظور في يد الأشقر اذ اقتنع الآخران انهما يريان تماما وبالعين المجردة دون الحاجة الى الناظور ، تحاور الرجل والمرأة ودارا حول السيارة ، ردد الطويل ( ياللعنة .. لايروقها المكان ) ، انصرفت المرأة باتجاه دكة ترابية تحاذي السيارة واندفعت تسير كأولئك الذين يقيسون الأطوال ، ظل صاحبها يرمقها وقد التقط سيكارة وصار ينفث دخانها بسرعة الا انه لم يكملها وهو يشاهد صاحبته تمعن في قطع المسافات ، عندها رمى السيكارة وسحقها ثم راح يسير بسرعة ملاحقا فتاته حتى بلغها فأمسكها من ذراعها وجرها بقوة وهي تحاول التخلص منه ، كان الثلاثة فاغري الأفواه وكل منهم يحس ساقيه تطولان وتتمددان حتى تصلا الى حافة البحيرة ، فيلملم الطويل منهم امتداده بحركة المضطر ، ظل الرجل يسحب فتاته خلفه حتى استسلمت وظلت تتبعه حتى اقتربا من السيارة ، عندها استدار الرجل الى الباب الخلفي وفتحه وانحنى وهو يسحب شيئا ما ، تهلل المراقبون لما انجزه الرجل اذ هو بصدد جلب الفراش والشراب والطعام ولوازم اللقاء ، لكن الرجل اخرج صندوقا حمله بهدوء واتزان بينما اشاحت الفتاة وجهها جانبا واجهشت في البكاء ، ردد صاحب القبعة الخضراء ، " البكاء آخر المحطات ايتها السمكة البلهاء " ، قال الطويل : " بل تبدو كنعجة اقتيدت للسلخ " . حمل الرجل باقة زهر مغلفة بالسيلوفان ، ثم عاد لصندوق السيارة وصار يحمل علبا من الكارتون ويضعها بجوار الصندوق الكبير ، عندها صرخ فيها الرجل فعادت ادراجها اليه وسارت تساعده ولكن ببطء وبلا كثير حماس في اخراج الأشياء من صندوق السيارة ، سيطرت الدهشة والترقب على الثلاثة ، اسرعت المرأة فجأة نحو الصندوق وألقت رأسها وسطه وراحت تبكي ، سحبها الرجل بقوة وأدخلها جوف السيارة وأغلق الباب عليها ، فعادت للبكاء بينما ظل هو يرتب مكانا للصندوق ويصف حوله العلب الأخرى وباقة الزهر ، ثم مالبث ان تراجع بضع خطوات ونظر مليا للأشياء التي صنعها ثم عاد الى سيارته وسرعان ماانطلقت متوارية وسط سحابة من الغبار . ظل الثلاثة جامدين وكل منهم ينظر الى الآخر والصمت يرين عليهم والمدى مقفل ، العصافير قد عادت الى اغصان السدرة الشائخة والبحيرة اكثر صمتا ، تعالت في المدى صرخة مدوية ، جعلت الثلاثة يؤخذون مرتعبين على حين غرة ، قال الطويل " لاشك انها روح شريرة تأتي مع الغروب كما قالت امي " ، ردد الأشقر " بل هو صوت ، وصوت قريب وسأعرفه الآن " ، اما صاحب القبعة فردد " اي نحس هذا اليوم " . اندفع الأشقر باتجاه الصناديق ، التأم الجميع .. جاء ضابط الشرطة ، والطوارئ ، ومندوب الوفيات والولادات ووجوه الحي ، والنساء والصبية واحتشد الجميع وتصاعد الضجيج واللغط والطفل يبكي وأم الفتى الأشقر تلقم الرضيع ثديا من المطاط ، ظل الحشد على اشده ، الناس يحملقون في الطفل الذي ضم زجاجة الحليب بكلتا يديه ورفع لها ساقيه جذلا ، ظهر على شاشات التلفاز ثلاثة فتيان محاطين بالشرطة يروون امام الضابط كيف عثروا على الرضيع المسكين فيما هو يقاطعهم بالشكر والناس تهديهم الحلوى .
يركض الثلاثة بعد حين باتجاه البحيرة ؟، تلوح السدرة الأسيرة ، والربوة والأرض الخضراء محاطة بالسور والأسلاك ، يتوقف الثلاثة ، يتشبثون بالسور ، تغرورق عيونهم ، يظهر رجل مدجج بالسلاح ، بصرخ فيهم ، يصوب ،باتجاههم ، يقولون بصوت واحد واهن" عفوا .. لو سمحت .. نحن الذين .. " يصوب ، يطلق في الهواء ، ينطلق جيش الطيور مرعوبا ، ينكسر الهدوء ، تعود الفوهة باتجاههم ، يلوون عائدين مطرقين في طرقات غريبة محاطة بنقاط حراسة وعيون غريبة تراقب كل شيء .
1992
القصة من مجموعة صعود القمر