Sunday, August 26, 2007

البكري ALBIKRY




البكري



بدا السياج امام عينيها طويلا ، مربعاته رمادية متشابكة ، تتداخل في تكوينات تحاول عيناها الكليلتان الألمام بها ، محاولات تتكرر مرارا للألمام بتلك السلسلة المألوفة التي تربطهم ببعضهم ، الأحاطة بحركاتهم التي ترى مستسلمة الى هدوء غريب ، هدوء يفتقد الحياة الصاخبة الضاجة ، كانوا ثلاثة يتبادلون الأدوار ، صبي ببنطال ازرق وكنزة سوداء وشيخ بكوفية مرقطة وثالهما فتى كسول ، ينسحب كل يوم الى ظل الجدار ويغط في النوم ، تابعتهم هي بقدومهم اليومي من البوابة الرئيسة حيث تتدفق مئات الكرات السود المتشابهة التي هي رؤوس العاملين المجهدين الذين يصلون في سويعات الصباح الأولى افواجا تلفظهم الحافلات ، كانت تحسب انه سينزل عند البوابة ، ينزل مسرعا ، يتجاوز الأجساد التي امامه ، يشق طريقه بثقة ، بقوة فتوته وشبابه المكتنز المتوثب ، سيقترب من الثلاثة ، يلقي عليهم السلام ـ، سيصرخ به الحارس الذي يعتلي نقطة الحراسة الشامخة حيث يقبع وبيده بندقية ذات سلسلة طويلة من الرصاص ، سيصرخ فيه : ( الى اين ؟ ) ، وسيجيب : ( ليست ثمة مشكلة ، الى ثغرات السياج ، اكلم امي واعود ) ، ويركض بموازاة الجدار الكونكريتي ويلامس السياج ويناديها ، ويسمع التتابعات الواهنة للأصوات المتخافتة ، ابواب خشبية عتيقة ، انه سيفعلها ، يلتقط كيس الطعام ويهرع مسرعا الى المكائن .
ظلت تنتظر ذلك زمنا ... منذ زواجه وابتعاده مع زوجه عنها ... يناول الشيخ قطع الطابوق ، ثم يناوله صفائح الأسمنت ، وهما يتحركان مع دورة الشمس وحركة النهار ، المرأة ترمقهم ببصرها الكليل ، حركة يومية ، مألوفة ، يدورون ، كما تدور الشمس ، حركة محسوبة فيها دورة الأشياء ، نمو الشجر ، موت الأشياء او خلقها ،واختلطت الصور امامها وتخلخلت الأشكال عبر مربعات السياج ، فركت عينيها ، يقرر هو انه لن يدخل من البوابة الرئيسة ، سيقفز عبر السياج وسيجلب وجبة غدائه ، شاهدت بنفسها تلك القفزة الواثقة ، التسلق المحكم للمربعات الرمادية ، تراه يختصر الأشياء ويحقق لنفسه عالما خاصا به ، ظلت ترمقه بينما تستطيل ظلال الرجال الثلاثة ، مع استطالة ظلال الأشجار واوتاد السياج وحواجز البوابة ، قالت له مرارا ان انضمامه الى الثلاثة سيوفر كثيرا من العناء ويسهل عبوره واتصاله بها . ظلت تكرر دعوتها ، وهو يردد ( ليس الأمر بيدي ، نحن مشغولون ، مشغولون تماما ، اصابة المكان امر محتمل وعلي ان اعود ) . كل يوم يعود ، بدا لها الأفق سائبا ، ريح جافة ، البقايا والأوراق تتصاعد ، كل شيء في دوامة طويلة حالت دون متابعة رحلته اليومية ، احست ان ماجرى في الصباح والأن كأنه قد جرى بالأمس ، بالأمس القريب من فرط تكراره ، قالت انها تريد ان تكلمه في امر هذا التشابه ، كانت مستمرة في حكايتها ، لكنها لم تجده ، وظلت آنية الطهي والملعقة وكيس الخبز وشعلة الطباخ وابريق الشاي ، ظلت كلها مثل كل يوم عندما يتركها وينصرف . ارادت ان تقول انه يوم عاصف ، بدأ هكذا ، بدوامة ريح وفوضى الأوراق والنفايات وهي تتصاعد في خرطوم طويل من حواف الأرض الى الأفق البعيد وهو ينتفض في احشائها ، يضرب بقدميه ويديه وهي تتماسك وتكمل خزن المياه ، تتردد في ذهنها تساؤلات النسوة : ( اهو بكرك ؟ أهذا شهرك ؟ ربما هو غلام فظ ... ) وقالت لهن في الصباح : " لا .. انني اشعر ان شمسا جديدة ستطلع بعد هذا النهار العاصف ، اشعر ان البكري سيجلب معه خيرا ".
تكاثف الغبار في اركان المكان وتخافقت الأبواب واصفر الأفق وتحركت في قرارتهااحاسيس يختلط فيها الألم بلذة الأنتظار وانفلاق الثمرة ممتزجة بصرخته الأولى ، وهي تدفع والوجوه المحتقنة من حولها والريح والغبار وصفرة السماء ، صرخت : ( اروني السماء ، اريد الهواء ، افتحوا شباكا ) واستسلموا لتوسلاتها ففتحوا نافذة خشبية تدفقت عبرها الأتربة وبقايا الأوراق والعيدان ، وبدا امامها سياج طويل بمربعات غامضة ، مشوشة ، رجال ملثمون يجرون اسلاكا وشبكات حديدية واعمدة من الفولاذ ، وعندما اذن في الآفاق وعبر المنائر عن ولادة فجر جديد كان هنالك هدوء غامض يلف الأفق ، كان المكان في الماضي ملاعب وملتقى للصبية والنسوة والرجال الطاعنين ومساطر العمالة والمطاعم المتنقلة على العربات ، وفكرت ان السياج الفاصل الذي احاط بالمصانع وفصل حياة الناس عن بعضها قد أثار في النفوس احساسا بتغير الدنيا والزمن ، وظلت تتردد في رأسها اصداء تلك الجلسات الحميمة ، بحثت عن آثار الجيران في ذاكرتها ، احست ان المسافة قد كبرت وتناءت ، وأصبح السياج حدا فاصلا بين عالمين ، لكنه الأبن سيكبر ، ويرحل ويتزوج وتبقين تلوحين بمنديل طويل ، ازرق عندما تصطف الحافلات وتنفتح البوابة وسيراك ويشق طريقه بقوة بين حشد التلاميذ ، هكذا فعلها ، عندما صرخ من وسط صفوف التلاميذ :" انظروا انها هناك تلوح لي ، انها هي " ، وزجره المعلم وحذره : " ان على من يلوح للتلاميذ براية زرقاء ان يكف عن ذلك لأنه سيحاسب بشدة ، وقد يرسل الى الشرطة " . وحكى لها ، كان المنديل الأزرق على حافة السرير ، مد كفه ، تحسسه ، رفعه ، لوح به ، لوح به بحرارة وهو يعتلي السرير ، والتقطت الأم المنديل وأقفلت عليه صندوقها الخاص .
اطلت عبر النافذة ، رأت العمال الثلاثة وقد تسلقوا جدارا من الطابوق ، الجدار الذي قد أكملوا بناءه ، كان الأثنان يقفان بثقة فوقه وهما يشيران لما انجزاه ، اما صاحبهما فمايزال يغط في نومه ، نزل الأثنان في هدوء ، وانضما الى النائم واستغرقا في السكون .
كانت السماء مدلهمة ، ثمة ضجة ما ، ضجة في مكان بعيد ، ضجة يتبعها دوي وطنين يتدفق من اذنها اليمنى واهنا ، انشغلت في اخراج علبة الشاي ورغيف الخبز عندما اقترب الدوي واتخذ اصداء حمحمة بشعة ، انتفض قلبها ، وهي تردد ( طنين لعوب ، في اليمين .... عدو مبين ) ، تهشم في الأفق طبق من الخزف ، طبق ضخم تناثرت شظاياه ، وخلفت ارتباكا ورهبة عندما اندفعت كتلة نارية حمراء مصفرة من الموقد ، اغمضت عينيها وتحاشت الحرارة ، استنشقت دخان الأحتراق ، احاط بها وهج مخيف وتيقنت من امتلاء الحيز بالسخام ، اختلاط مروع ، خزف يتهشم ولهيب واحمرار وسخام ودوي مربك ، دوي ، يقترب ، تصم اذنيها ، ظنون والعياذ بالله ، وساوس ، اعوذ بالله من كل وسواس ، لا ... لا ... لاشر ... تدفق الهواء ، انغلق الشباك ، خشبا متناثرا ، زحفت ، واجهتها ابر صفر وحمر وسود ، شعرت انها نشبت على وجهها ، اندفعت نحو السياج الرمادي ، تزحف ، دمدمة رعد يخلف طنينا هائلا في اليمين ، دوي متصل ؟، ينقلب الأبريق ويسيل الشاي ، احمر ، بنيا دبقا ، ساخنا ، دوي في اليمين ثم طنين في اليسار ، تزحف ، تغمض عينيها ، ترى من بعيد مئات الرؤوس ، هاهم يصلون ، يدخلون عبر البوابة ، لابد من المنديل الأزرق ليتأكد انني هنا ، بانتظاره وانني بخير ، لاسكر ولاضغط ولاحمى ولاسعال ولا وجع ، تزحف نحو الصندوق ، تمسك وجه الأسد النحاسي الذي يعض ابزيم الصندوق ، تفتح ، في يدها المنديل ، عتمة شبه تامة ، ليل طويل ، بارد ، دوامات من الورق والتراب ، تتدفق مئات الرؤوس ، يسرع الحشد ، تتداخل نداءات المحيطين به بخوذاتهم وصافراتهم والنباح في الأفق والعتمة المريبة ، لاليل ولانهار ، يحتمي الحشد ، تبتلعهم المداخل الى حفر ومخابئ ، لكنه واثق انها ستلوح بقماشتها الزرقاء ، ويعود هو صبيا ، انتشرت اضواء كاشفة على السياج الذي جرى تدعيمه بالأسلاك الشائكة ، اندفع هو ، يسمع اصواتا تنهره ، اصواتا محذرة ، يركض لاهثا ، ينظر خلفه ، لااحد ، سوى صفارات وأصوات واهنة تلاحقه ، اقترب من الحائط القديم ، تراءت امامه صور الشيخ والصبيين وهم يحملون عدة البناء وسينسحبون مذعورين وقد تهاوى السقف الذي انجزوه توا وهم يصرخون ببعضهم والهواء العاصف يشتت كلماتهم ، عندما مر عبر مساحة من الأحراش والأشواك ، كان امامه المرصد الضخم ، الشاهق ، اندفع نحو السياج ، نظر الى المنزل ، لم ير غير بصيص بعيد واهن ، انقبض قلبه ، امسك بالسياج ، وخزته الرؤوس المسننة وتدفق العرق الى عينيه ، سمع خلفه هتاف الحارس ‘ والدوي الهائل حول الموقع ، انفلق انفجار هائل في الأعلى ، التصق هو بالسياج ، لم يأبه بشيء وهو يردد : ( انه انا ... ليست ثمة مشكلة ، الى ثغرات السياج اكلم امي وأعود ) ، تبعثرت الكلمات مع الضجيج وتدفقت الريح ، وثب وثبة سريعة باتجاه الدعامة ، انطلقت رصاصة ، تدفق ضوء ساطع باتجاهه ، وصوت صفارة وهتاف ، اعتلى السياج وألقى بذراعيه باتجاه الحافة الثانية وهو يتسلق ، انطلقت رشقة رصاص ، تبعتها رعود وزخات مطر واختلاط نجيع ومياه . اندفعت الى وجهه ابر سود وصفر ، نصال نشبت في وجهه ، واشعلت نارا في قلبه ، تراءت له الراية الزرقاء محاطة بهالة من النور ، عندما انقلع سقف ما وشبابيك ، ولاح نثار وسخام وسائل احمر وبني لزج وفتات خبز ، عندها هدأ كل شيء ، وبقي هنالك حشد في المخابئ ، بقي هنالك ظلان نحيلان طعينان ، يدوران دورة ازلية وئيدة مع حركة الدنيا والريح ، وكانت هنالك قماشة زرقاء تحف الدنيا كلها وتتكور على سياج ذي اسنان حادة وجارحة.
1992

القصة من مجموعة صعود القمر