Monday, August 27, 2007

المحاكمة THE COURT


المحــاكمة

نسي أسمه أمام المحكمة ، وربما دار في خلده أن يطرح هذا السؤال أمام الحاضرين فيعرفون أسمه ويجربون قوة معلوماتهم من جهة و يخرجونه من مأزقه من جهـة أخرى ، لكنه وهو يرى تنمر الجالسين والمحيطين وعيونهم الجاحظة ونظراتهم العدوانية وعدم اكتراثهم ، حتى أحس انه لطخة حبر على الجدار ،ولــذا أنتبذ لنفسه مكاناً منزوياً وأطرق وراح يفكر في أمره : تذكر أن آخر مرة قرأ فيها اسمه هي عندما أحيل على المعاش ، أجل يذكر ذلك جيدا ، وقد أحيل علناً وأمام الجميع ولذا سمع أسمه عبر طوابق المبنى كلـها إذ أعلنته الإذاعة الـداخلية : تقرر إحالة السيد الذي يحمل الرقم (……… ) على المعاش ، ومرة أخرى قرأ الإعلان بطريقة أخرى : نظراً لإكمال (الموما إليه) سنوات الخدمه المقررة في القانون تقرر أحالتـه .. ومرة أخرى ومرة أخرى : نظرا ً
لقرارات مجلس الإدارة الأخيرة تقرر إحالة المرموز له برمز الحاسوب (أ. ب. سوفت ) إلى …… ومرة أخرى وأخرى، ووجد الرموز نفسها وغيرها في قائمة الكهرباء وفاتورة الماء والتلفون ولائحة المرتب الشهري ، وفي كل مرة كانت القائمة تحمل رموزاً دالة على اسمه لا يمكن التعرف عليها إلا بتلقين ألحوا سيب تلك الرموز فيحيلونك إلى ملفه وتاريخه ، ووجد نفسه يفتش في الأوراق القديمة عن الوثائق التي كانت تستخـدم اسمه الصريح فـوجد تنويهات باسمه برموز خاصة سرية تسهّـل أمر التعرف عليه ، فمثلا كان أسمه مكوناً من عشرة حروف في إحدى الوثائق وتأكد من الدليل الخاص الذي لا يحمل عنواناً ولا أسم مؤلف ، أن تلك الحروف تنقسم إلى وظـائف فالحرف الأول يدل على اسمه والثاني أسم أبيه والثـالث أسم العائلة والـرابع ثقــافته والخـامس ميــوله والســادس ماضيه والسابع رصيده والثامن .. والتاسع …… و…… .
ولذا انطمست الأشياء وتداخلت الرموز أمامه وصار أكثــر عطشاً لجلسة أمام الحاسوب ليلقنه كل هذه الــرموز وليكتشف ماذا كانوا يكتبون عنه .
كان يحسب طيلة حياته أنه هكذا ، رقـم محايد ، لا مشكلة عنـده ، لا شكوى لديه ، لا ثرثرة لا ميل يميناً ولا ميل شمالاً ، مستقيم ينام في الوقت المقرر ويصحو قبل الوقت المقرر بساعتين تحسباً للظروف ، لا يمر أبداً من موقع فيه علامة ممنوع الوقوف أو ممنوع المرور ومع أن تلك الممنوعات هي خاصة بالسيارات ، لكنّه كان يفسر الأمر تفسيرا صائباً عندما يسائل نفسه إذا كان المنع للسيارة فمن الذي يقود السيارة ، أليس شخصا ؟
فأذن المنع هو للشخص وليس للسيارة ، ويجب أن تفهم ، كما أنه لم يكن يعاني من مشكلة بخصوص الخضار ولوازم وجبته اليومية ، فهو لا يشتري أبدا ًمن نوع الخضار الذي تكتب عنه الصحف وتعلن الإذاعة عن أية مشكلة بصدده وتجري لقاءات مع الفلاحين وربات البيوت والنقابات حول أسباب الشحة مثلاً وارتفاع السعر ، لأنه يذكر دائماً أن تلك الشحة مادامت قد دخلت في الأخذ والرد والقيل والقال فستحصل من ورائها بلاوي وهو لا يريد أن يخزن أسمه في الحاسب بأنّه تكلم عن شحة البطاطا أو البصل أو الباذنجان فيقال أنه ينبش عن السيئات ويغمض العين عن الحسنات ، وهو رجل يملك سجلاً حافلاً من النكات والقفشات وكلما سنحت الفرصة في جلسة أو لقاء عابر مع زميل في العمل فانه يلقي إحداها ويترك الشخص يتلوى في الضحك ويغيب هو ، فهو مواطن سعيد هذا هو المؤشّر عليه ، والسعادة مترجمة عنده إلى نكات لا تنتهي حتى أنه كان ينصت للنكات التي تلقى هنا وهناك ويدونها في سجل خاص ويبقى يستظهرها .
وعندما يسأله أي صديق عن أحواله كان يردد : كلّ شئ جميل ، كل شئ لطيف ، كل شئ مناسب أما حرّ الصيف اللاهب وسط الزحام وقلة المواصلات فكان يفسر على أنه اختبار لكفاءة الإنسان على الصبر أي أنها ممارسة وتدريب على الصبر ، و( الطابور ) مثلاً كان دليلاً على أنّ كلّ شئ في هذه الدنيا إلى زوال وان الحــكمة تقتضي أن يتنبه الناس أن كلاً منهم آخــذ دوره في ( الطــابور ) ومصيره إلى النهاية بحسب الأسبقية ، وأما إحالته على المعــاش فهي أيضا اختبــار مقصود له .
فأن أنزوى في منزله وحيداً مكسور الجناح لا يستطيع سد قوت يومه فأنّ هذا دليل على أنه رجل مصلحي غير مقتنع بأن مصلحة المؤسسة تقتضي خروجه وأنّ دوره يبدأ الآن في توعية الآخرين في المقاهي بأهمية وعمق فلسفة الإحــالة على المعاش وأبعــادها الخاصة ، فهو عندما سيتكلم عن تلك المزايا فسيسمع حديثه شبـاب وفتية في أول سلم الوظيفة وشق طريقهم في الحياة فيحسبون من ذلك الوقت حساباً للمعاش وأنه آت لا محالة مثل الموت تمــاماً فعليهم التهيؤ له من الآن والتحلي بالصبـر واستقبال الأمر بفرح غامر.
حاول (أي ، بي . سوفت ) أن يفسر بعض الأشياء المتعلقة بكثرة مراجعاته للدوائر والمؤسسات الرسمية وكثرة الأوراق والإمضاءات وساعات الانتظــار لإنجاز أوراق المعاش ، فوجد أن روعة ذلك تكمن في ( الخبرة ) أجل ، أن الغاية من كل ذلك هي أن تتراكم عند المواطن الخبرة في كيفية أداء مؤسسات الحكومة والمراحل التي تمر بها إجراءاتها فلا يبقى المواطن مجرد اسم أو رقم بلا وعي بل يصبح جزءاً من حركة الحكومة ومؤسساتها وعندما يسمع مغالطات أو أخطاء من قبل بعض المغرضين والأعداء فمطلوب منه ان يصحح ما سمع وا لا لماذا صرفت عليه الدولة ثمن الورق وأجور الموظفين وحبر الإمضاءات وفواتير الماء والكهرباء التي تصرف للمؤسسات
وكان الرجل – والحق يقال - على قلة مرتبه لا يقصر في واجب ، فهو يحضر كلّ عزاء وكلّّ عرس وكلّ حفل ، ما أن يسمع بمناسبة أو حدث ما يمس زميلاً في المؤسسة بطوابقها الثلاثة عشر حتى يهب مسارعاً لأداء الواجب ولذا عرف عنه هذا التتبع اليومي لحوادث الناس وحضوره لأفراحهم وأتراحهم ، بدلة سوداء للمآسي وبدلة بيضاء للأفراح .
وفضلا عن ذلك فهو لا يتوانى عن نشر البرقيات ذات المساحات المحدودة والكلمات القليلة المعبرة في الجريدة ، وهاهو يقرأ فجأة عن ترقية كبيرة لزميله وصديق عمره الذي نشأ معه في حارة واحدة ، لعبا معاً وأكلا معاً ودخلا في مدرسة واحدة وفصل واحد معا ً، هاهو يقرأ خبر ترقيته الكبيرة مزهواً، فلا يتمالك نفسه ألا المسارعة للجريدة الأكثر انتشاراً ليكتب برقية تهنئة لذلك الزميل الذي تقلد موقعاً رفيعا ًوحساساً في الحكومة وعندما طلب منه مندوب الإعلانات ذكر أسمه وعنوان سكنه تحير ,اكتشف لأول مرة أنه لا يحفظ إلا(الكود) ، ولأنه على قناعة بان زميله المتمرس في العمل الوظيفي على علم بخلفيات الأمور ويعلم بصيغة تجريد الموظف من أسمه ومكانه والمعلومات الكاملة عنه واستبدالها بالأرقام أو الرموز أو كليهما معاً ، لهذا راح يدبّج البرقية بكل ثقة وحماس قائلاً :

" سعـادة الأستاذ الكبير والـرجل الهمام فلان الفـلاني .. لا يسعـني وأنتم تتقلدون موقعكم الرفيع إلا أن ……………………………..……… "
التوقيـع صـديقك وأبـن حـارتك
( أي . بي . سوفت )
أو ( الموما أليه )
أو الموظف المحال على المعاش الذي يحمل الرقم (………)

وعندما قرأ الرجل المهم تلك البرقية الساخرة ، وصاحبه القديم قد نشر صورته وهو يضحك إلى جانبها استشاط غضباً وفسر تلك الصورة الضاحكة بأنها سخرية مؤكد ومقصودة منه وكأنه كان يقول : هل نسيت أيام الحارة وبنطلونك المرقع وحذائك المثقوب وهل نسيت إدمانك السرقة وأبسطها وأنت تسرق الثمار من حديقة الجيران عند الظهيرة وأنت تأكل كل يوم علقه ولا تتوب ، وهل نسيت كذبك ونفاقك وانتهازيتك المبكرة ؟ وهل نسيت شكوى أبيك منك ؟ وهل نسيت فشلك المزمن في الدراسة وتفوقي عليك ؟ وهل نسيت.. وهل نسيت .. وها أنا محال على المعاش راغماً وأنت ما شاء الله …
وها هو الرجل … ودليل اتهامه بين يديه أمام المحكمة ، لأنه مسّ شخصية حكومية بالقدح والسخرية ، ومطلوب منه الآن أن ينطق ويعرف بنفسه ومازالت المحكمة تنتظر … وهو يردد أنا أي . بي سوفت .
1997
ا
لقصة من مجموعة قربان المدن السعيدة