Sunday, August 26, 2007

مدن نائية FAR AWAY TOWNS


مدن نائية


ترى هل بقيت كما هي ، قوية ، مندفعة ، مرت بالقرب منها ، لم تلتفت لتلميذتها القديمة ، فكرت انها يمكن ان تركض خلفها وتمسك فستانها وتلفت نظرها ، انها هي ، في آخر الممر ، جلستها حيث يحلو للأستاذة الجلوس وتصحيح الدفاتر ، تذكرت نظرتها الثاقبة ، تلك النظرة التي لاتحفل بزمن ولا مكان ، امرأة تختصر سلسلة النساء ، ثقة غير عادية ، في وقع الخطى وفي اللهجة الآمرة الودود ، ظلت الفتاة تبكي وهي غير مكترثة ببكائها ، عندما اكتشفت بفراستها رسالة عشق من شاب يطاردها ، همست في اذنها ، عليك ان تكتشفي كل شيء بنفسك ومضت ، ويومها كانت قد سحبت شبكة كبيرة احاطت بالعشرات من الوصايا والمحظورات وصارت تلقي تلك الوصايا يمينا وشمالا وهي تحتضننا واحدة واحدة وتردد .. ليس لي مكان .. ليس لي مكان .. وخرجت ، كانوا ثلة من الغرباء .. هكذا قيل ، غرباء لايحملون دماء نقية ، خليط من الأنسال القادمة من وراء الحدود .. هجروا في شاحنات مكشوفة .. تركوا بيوتهم ومحالهم ومصالحهم .. اقسمت هي انها هنا .. شجرة جامحة ضاربة جذورها في هذه البلاد .
لحقتها كما ينبغي ان الحقها ، مسافة ما ، كتلة هائلة تحول بيني وبين اللحاق بها وتنبيهها وتذكيرها بأنني التي كنت اجلس في آخر الممر ، حيث يحلو لها الأستراحة او تصحيح الدفاتر ، وحتى قيادة الدرس من هناك حيث يتدفق شذاها وتنتصب قامتها المكتملة باتزان وتناسق ،كانت هنالك مسافة شاسعة ، قالت وهي تجلس الى جواري : هل ترين المسافة فيما بيننا ؟ انها بضعة سنتيمترات وستصبح امتارا بعد حين ثم كيلومترات ، عندها هجمت عليها وصرخت ..لا ..لا ارجوك ، لقد عدت من رحلتي وعليك ان تعلمي ، اتذكر تلك الفتاة البيضاء المدللة المكتنزة وهي تحول بيني وبينك ، انها غشاء مبهم صار يزداد سمكا وانا اشكوها اليك ، وتقولين انني اسمعك ، اناديك بأعلى صوتي ، وتقولين اسمعك ، لكنك تبتعدين كثيرا والفتيات البيض المكتنزات يتكاثرن ويسددن الطريق اليك ويملأن وقتك تماما فأبكيك في دفاتري وأوراقي وتجاربي ، لقد امعنت في الرحلة ، تناثرت الفتيات... ( ياحيف مر الوكت واحنة تطشرنه ) ويضحكن ويلتقطن صور التخرج ، احاول الأقتراب منك ، اريد صورة التخرج لي ولك ، وانت تمعنين في دفعي الى الأكتشاف والتجربة ، لكنهن يزحنني بقوة فأكون في آخر المجموعة ذات الصفوف الثلاثة ، منكسرة مليئة بالحزن لأنك بعيدة عني ، لقد عدت وهاهي دفاتري تغص باكتشافاتي وانكساراتي وانتصاراتي وعذاباتي وتألقي وجنوني ، هناك عندما تدفقت امواج البحر والسفينة تتقلب في موانئ مكتظة ، كانت سنة اخرى ، كنت تقولين ( انت الفتى ) ، شعري مازال قصيرا ، اجتزت الموانئ بزي فتى لذا اندفعت وأنا اتقلب بين مدن نائية واطلال ومروج ، هل يمكن لصلة ان تزيح ركام الأشياء المكرورة ؟ تعيد شكل الزمن ، ترسمه في هدوء ، بلمسات العذوبة والسحر ، انطلاق بلا حدود ، اية تجربة وأي اكتشاف يعادل تلك الرحلة المتصلة في اعماق الروح وقرار الزمن ، كنت انظر في عينيه وأتساءل ... اترى الأكتشاف الذي كنت تدفعينني اليه هو هذا ام ... ماذا ؟ آه مااحوجني لأثرثر وأهذي واكشف لك عن لحظة انتشاء كدمعة في بحر ، لحظة اغترفتها فأحلق زمنا طويلا في الأعالي وعلى ظاهر بحار مجهولة ، ظل يصغي وأنا اعلن اكتشافاتي ، انني امرأة مجنونة ، مجهولة ، الآخرون يحملقون فينا ، كلام بلهجات ولكنات غريبة ، هنود ، انكليز ، المان آسيويون ... كلهم يشربون نخبنا ونحن ننطلق في حلبة مصبوغة بلون بنفسجي لامع ونحن نعلن اكتشافاتنا وجنوننا ، ترى ، ايأتي يوم نعلن فيه انتصارنا على انفسنا ، على القلوب المليئة بالعتمة ، تلك التي تعتصرها التراجعات والخيبات ام ترانا نتراجع ناكصين ؟ كنت متعبة وانا احاول اللحاق بك ، احاول اعلان قضيتي ، انني كأية امرأة ، كائن تفحص اعصابه وعروقه وأصغى لنبضه ورسم جسده وحرك كوامن ذاته ، هذه ذنوبي ، اتذكر عندما اطلت اظافري وأنبني ولامني .. وقلت يومها .. اكتشفي ذلك فهو اكتشاف الجسد ، جسدك ، وهو انت ، وسمعته يصرخ ..كيدكن عظيم ..
كلما عبرت حدودا .. اراك خلف الأسلاك الشائكة والبوابات .. اراك في فلاة وسهوب برية .. جسدك في يفاعته ولمعانه وتناسقه .. العبق القادم من مساماتك يطوق احساسي بك .. فأتوق لأحتضانك ورؤية ذاتي فيك .. وأنت هناك مع المنبوذين .
لاادري كيف ادركت اسراري التي ظلت مثل لقى مندثرة في قرار معتم وهي مطمورة في غياهب مجهولة ، تواريخ يغمرها النسيان والتجاهل ، صرت اتأمل كفي وعيني وأخرج لساني وأطلق صوتي عاليا ، صرت اسمع وأقرأ كما لم اسمع ولم اقرأ من قبل ، ترى هل يليق بامرأة ان تضحك او ان تغني بصوت عال ؟ انني متعبة تماما وماتبقى لايثير اشفاقي وحزني ... انني مثقلة ، اشعر انني قد اثبت قوانينك ، اثبتها هنا وهناك وعليك ان تعودي اليهم ، عليك ان تعودي اليهم بتجربتك التي ثبت يقينها ، انا ....
ولكن .. هل بقي من اثر لي ؟ هل بقي ؟ الرسائل المتلهفة والبطاقات البريدية الملونة ، اعترافاتي الخجلى وأنا اروي لك الحنين المر ، كنت ارمق الأكف الملوحة وأراك تلوحين ونحن نوغل في البحر وأقول له ، انه هناك ، سري الكبير ، عندما طرق النادل الباب وخرج حاملا البرقية ، كنت ابحر في الحروف والكلمات والضباب يغلف الغرفة ، لكننا حملنا حقائبنا واتخذنا لأنفسنا اكتشافا جديدا ، حيث تتوارى بغداد في الضباب ونحن نمارس اللعبة ذاتها اراديا ، نهاجر معا بأجسادنا .. هكذا نخوض المغامرة .. فيما العقل في مكان ما .. ربما هو كامن في زقورة او مجهول .. كان يرسم البحار والشطآن ولحظات الوداع ، اضواء وظلالا وألوانا وشجنا ، تكوينات نقية ، مشرقة ، عاطفة مكرورة ، تنبعث من جديد ، ولذا اندفع بقوة ، حمل حقيبة بنية صغيرة وأقلاما وكراسا وغاب ، وظلت اللوحات تسورني وتجرني امواجها الى قيعان غامضة ، جزء من زمن مبهم بقيت بعض الذكريات ومضات لاتقوى على اضاءته والكشف عنه ، وهو في كل حال قد احتشد في اعماقنا وصار سبب استمرارنا وتدفقنا . عندما عاد في المرة الأولى كان ينظر في المدى ، يتخذ جلسة في الشرفة ، يرسم تخطيطات اكثر حدة وقسوة ، كانت حقيبته مليئة بأحجار وشظايا وقلائد محاربين ورسائل مدماة وأوراقا شخصية محترقة .
كنت اسأله عن التجربة فيشير الى تلك الأشياء التي يوزعها على سطح ناصع البياض ، كنت احاول اعادته الى البحر والمحار والشطآن والمظلات الملونة والعناق على الرمال الملونة ، اعيده الي ، وما ان يأخذني الى احضانه حتى تجتاحه الغصة فيعود الى الشرفة ويصرخ .. آه .. ثم يسرع في جمع اشيائه ويخرج في جوف الليل ، يتوارى ، لايعود ...
كانت ظلال الحروب .. حروب البلاد قد تغلغلت في هذا الوجود الجاثم الذي يمثله هو ... بتمائم الشيطان .. تمائم الحروب التي يحملها .. قطع الشظايا وبقايا رسائل الجنود .. احساسه الممزق .. انا المغتربة مثل صبي .. وقد قطعنا مهاجر شتى .. حتى هجعنا في هذا الكوخ المتداعي ..
في مساء خريفي ما .. في المكان الذي صنعناه والمتع الفطرية التي فينا ، اكتشاف الجسد والعناق الطويل والغوص في قرارة الذات واللهاث .. عرق يتفصد .. وملح التجربة على الشفاه .. تنفتح النافذة فيلوح الكيان المرتمي بالقرب مني .. فيه ملامحها هي ورائحتها وملمسها ..
حملت اليه صورا للوحاته الدامية ، تلك الجذوة الملتهبة ، المحاربون الضخام وهم ينشبون احذيتهم السود ذات الأعناق الطويلة على الأرض الصخرية ، يرتكزون بقوة ويطلقون والحمم من حولهم ، جلبت لك اكتشافا آخر ، تجربة اخرى ، نهاية الأكتشافات وخاتمة التجارب ، يعود ... لايعود ، ومع كل اكتشاف كنت اوقد لك شمعة واقطف لك زهرة حتى غصت الغرفة بالشموع واكتظت بالزهور لكنني ... اعترف .. انني لم اكتشف بعد الرحلة الأخيرة ، هل سافرت وتقلبت في البلدان وعبرت الموانئ ؟ وهل ستبقى الدموع جامدة في عيني ؟ اتسمحين لي ان ابكي الآن ؟ .. حسن ، اخبريني بفراستك هل انا التي رسمت هذه اللوحات كلها ، وهي مكتظة بنوارس البحار وأكف المودعين ومناديل الفراق ، ثم هل ادعيت انه الذي رسمها ؟ ايحصل ذلك ؟ وصور الحرب واللهب والأسى ؟ اسمعك تقولين .. انها لوحاتي ، وحواسي هي التي تكون صورته وصوته ورائحته وملمسه ولذة شفتيه ؟ خيالات ، وماذا عن رحلته اليومية في دمي ؟
كنت اقترب منها ، امعن النظر في امرأة غزا شعرها الشيب وقد ارتدت نظارة سميكة ، واتشحت بالسواد ، اقترب منها ، اكاد اخبرها عن تلميذة كانت تشاركها المقعد في آخر الصف وتكلمها ، لكنها لم تكن تسمع شيئا ، اناديها بأعلى صوتي ، هي تسمع كلاما مشوشا ، تضع كفها حول اذنها ، تحاول التقاط كلماتي ، انظر في عينيها العميقتين ، تتعطل الكلمات والحروف ، احتضنها بلهفة ، القي رأسي على صدرها بقوة .. وهي تنظر باستغراب ...
1988

القصة من مجموعة صعود القمر