Sunday, August 26, 2007

ابو العتيق


ابو العتيق


عنــد ملتقى الدروب المصفوفة بالحجر ،تمتـزج أصوات المغنين عبر جهاز التسجيل القـديم مع ثرثرة الجالسين في المقهى القـريب و أصوات عجلات العربات الداخلة الخـارجة ، تلوح من هناك المنـارة القديمة للجـامع الكبير ، تلـوح بامتدادها المهيب ولونـها الحليبي الـذي دخلته الخطوط السـوداء وقـد أحاطت بها الآيـات القـرآنية وأسماء الله الحسنى ، وفي الفنـاء المحـاذي ستعقد جلسات الـذكر ويلوح الشيوخ بقامتهم المـديدة المهيبة وملبسهم المتقشف النظيف والـرائحة الزكيه المنبعثة من طيـات مآزرهم ، كـان الصبي يلم بمفردات المشهد اليـومي ويجد في تداخل الأماكن من فناء المسجد المليء بالشمس والدفء وامتداداً بالدكاكين الصغيرة لباعة القماش والعطارين وبائعي الجلود والنساجين الكهول ، وصانعي الفؤوس وملمعي أواني النحاس ، يجد في تداخل الأماكن امتدادا لتداخل الكلمات والأشياء بالنسبة للأب المنخرط الآن مع جمع الشيوخ في الخشوع والتسبيح ، ولكنه ينتظر وينتـابه النعاس خافتًا قادماً مع أمواج الرطوبة الناعمة المنبعثة من أقبية السوق ودهاليزه حيث مستودعات الغلة والثمـار الجـافة ،كان كمن يركب سحابة مرفـرفة تحيط بفضاء المدينة القديمة فتجمع كل أجزائها كما تتجمع حبات المسبحة ، ولذا كان تتابع الأماكن والوجوه مثل تتابع كل الأشيـاء المبثوثة في حـدود هذا العالم المقفل الذي تأكـد أنه عـالم غير مسيطر عليه ، أنه عالمنا المتدرج في تدحرجه وشيخـوخته وزواله ، وهكذا كان الأب يعمق في الفتـى (رشيد ) فكـرة المدينة العتيقة القائمة على قدسية ترابها.. فمنـارة مسجدها تمتـد لعـدة قـرون مضت وأطـواقها ومـداخلها داست عليها سنابك العـديد من الأقـوام سـواء الغـازية منها أو المسافرة العـابرة فأيـن هي تلك الأقوام ألان؟ أنها إلى زوال ، ولـذا لاح للغلام ان حجر هذه المدينة فيه أسـرار اليقيـن الثـابت ، فلا تهتز الجداران ولا الحواجز ولا الدروب المرصوفة بالحجر ، ولذا فان الروعة والقدسية كلها تنبعث من روح العتيق ، تنبعث مدمجة بالعبقرية والحكمة الخالدة ، وهكذا كان الأب يعزز فلسـفته في عقل الفتى الغـر الذي صـار مؤمنـا بالعتيق .
ولذا واصل رحلة الأب والأجداد في تجارة العتيق فورث سريعاً ذلك الخان الواسع الذي لوثت جدرانه بالسواد وبدا مثل فم أسود بشع متآكل الأسنـان ، فم يبتلع كتلاً من الأشياء العتيقة التي لا يعرف الفتى سبباً لحزنها ، ولا يملك الجرأة في سؤال الأب عنها إذ لا يعرف وقتاً محدداً للأب يكون فيه هانئ البـال صافي الذهن فيجيبه ، ولكنه شعـر بالتدريج أن موضوع ما مخزون في الخان ليس بمشكلة .. إذ يبـدو أن تلك البضـاعة بحـاجة إلى مزيد من التعتيق ، وسلط الأب بمرور الأيام قـوته وحزمه وصلابة آرائه التي يدافع عنها في موضوع العتيق والـزوال وكانت سيرته كلها تحكي نهجه الامتدادي العتيق ، زيّه ، أثاثه ، طعامه ولمـا كان هنالك جيل ينشأ يرنو إلى الجديد ، فقد كان الابن الأكبر ( عبد الحق ) قد جادل الأب في فلسفة العتيق وتشـدد في أن الجـديد هو الـذي يبنـي الحياة ومـا العتيق إلا ماض وذكرى نحنّ إليها ونحبّها ولكنها ليست حياتنا ولا رغبتنا واستشاط الأب غضباً واعترف بتسمم الابن وتلوث كيانه ومروقه ولذا أوجب عليه الجـلد لكنّ الشـاب الشرس رفض العقاب ولذا ركع أمـام أبيه مستـأذنا الرحيل إلى أرض أخـرى ومـن يومها غاب غياب الإبـرة في القـش.
أما رشيد فقد تتبّع أفكار الأب وحفظها عن ظهر قلب ولذا كان يتدرب في نوبات يومية للخروج إلى دروب المدينة وهو ينادي ( عتيق .. عتيق .. للبيـع .. من الذي عنده سجادة عتيـقة للبيـع ، الذي عنده فضة للبيـع ، الذي عنده حجر كريم للبيع ، عتيق .. عتيق ، الـذي عنده عاج للبيـع ، الـذي عنده أخشاب للبيـع الـذي عنده ماكنة عتيقة للبيـع ) .
وكـان الأب متشـددا ً على الغلام أن يطأطئ رأسـه وهو ينـادي لا يـرفع رأسـه إلى بيـت أو شبـاك أو بـاب حتى ينـادي عليه النـاس أنفسهم وأن لا يمر قرب البيوت الفـارهة والنـاس المتخمة .
وراح الغلام في سيرته المحمودة يؤكد للأب يـوما بعد يوم أنه أبن فذ ورائع.وكبر الغلام وصارت تمر في خاطره صورة امرأة .. ، زوجه متواضعة بسيطة تلبس مثله العتيق وتعيش في غرفة كل ما فيها عتيق ثم يعد العدة لاستقبال وليده الأول وترتسـم في مخيلته صورة جلساته مع الزوجة المجهولة وصورة الطفل الرضيع وهو يرتـدي العتيق ثم وهو يكبر ويتـدرب على سيرة العتيق إقتداءً بالآباء والأجداد لكنه كان يعود إلى ارض الواقع مرتطماً بوحدة الأب وعزوفه عن الزواج منذ وفاة زوجه الأولى وعدم طرحه أو سماعه فكرة زواج ابنه وفي فجر إحدى الليالي صحا على ضجيج ما ، فاستفزّت روحه وغمرته وحدة مريعة وشعر بأطرافه باردة ورأسه يدور ولذا أقام صلاته ثم حمل ( خرجه ) على ظهره وخرج مع انبسـاط الفجر وامتداده الشفـاف على دروب المـدينة وأبوابها المغلقة وفضاءاتها المشبعة بالضباب والرطوبة ولم يكن يصغي ألا لنبـاح متقطع هنا وهناك ولا يتناهى إليه ألا وقع خطاه هو وتراتيل بعيده لآيات قرآنية ،.
كان قد تنبه إلى هزال قـد أصابه منذ مدة فقد كان بالأمس القـريب فتى ممتلئاً طويل القامة قوي العضل واسع العنين أسمر البشرة حادّ النظر لكنه ألان صار يشعر بخفوت ما مرّ بدكاكين الحدادين ومدبغة الجلود ، وبالقصابين وسوق الخضار ، وهـو يتمنى أن يسرّي عن نفسـه في هذه الـرحلة المبكرة في المدينة النائمة.. دار حول السـور القديم ناشـداً الخروج إلى فضـاء أكثـر انفتـاحاً ، إذ كان يشعر بانقباض شديد في صدره وحاجة ما للهواء الشديد ليعصف بكيانه ، لذا راح يصعد الهضبة القديمة حيث تلوح أطلال وأعمدة من الآجر وأقواس من الحجر لتنحدر الهضبة فجأة إلى مجرى النهر الوحيد الذي يمر بالمدينة ، وها قد مر الوقت سريعا ، فكان أن كست الشمس بضيائها النحاسي سطوح المنازل وواجهات الدكاكين ، وكان ذلك إيذاناً بنداءات الـرجل ( عتيـق .. عتيـق ) وراحت خطاه تسارع في الخروج من أبواب المدينة القديمة وهو مندفع بلا هدف ، حتى إذا ما أنتصف النهار كان الفتى قد قطع مسافة طويلة , إذ لاحت بعدها أسوار السرايا وسطوح بيوت البكوات ، تلك الأماكن القصّية المحظور دخول القرويين والعامة إليها وتأمل وهو يقترب هياكل الحجر وواجهات المرمر والستائر الزرقاء المر فرفه ، ورأى الخمائل الكثيفة ولاحت له ايكات العنب مزدهرة غناء وفاحت من حوله روائح هي مزيج من عبق الزهر وروائح الطهي ولذا فاضت في داخله أحاسيس متضاربة ووجد نفسه لا يملك ذلك الرادع العتيق الذي يحول دون أقدامه على اكتشاف هذا العالم المجهول .. ولأنه رجل يشتغل في ( العتيـق ) فقد وجد في نداءاته عذراً لاقتحامه ذلك العالم المجهول بأنه رجـل فقير يبحث عن قوت يومه ، لهذا قـادته خطـاه بلا قصد لهذه الدنيـا العجيبة وكانت تلك سـلسة أعـذاره فيما إذا داهمته الشرطة أو الحراس ، ولذا نزل من هضبة المدينة وسـار طويلا ًبمحاذاة السـور وما أن دخـل الممر الحجري الـذي تلامع مفصحا عن نظافة وجمال وتنسيق .. عنـدها بدأ ينادي (عتيـق.. عتـق ..) ولما أجتاز صفاً طـويلاً من المنازل الفخمة دون أن يكترث لوجوده أحد ، ظن ان المدينة مهجورة ، ولذا راح يرفع رأسه متأملاً في البيوت متسـائلا ًعن فحوى الأمر ، لكنه ظـل يـردد ترنيمة العتيق المعهودة ، وماهي ألا دقائق مرت وهو يرصد البيوت بلا قصد ، إذا بإحدى الشـرفات تنفتح فيتدفق الهواء فوراً فتتمايل الستـائر الـزرقاء وتطل من بينها حورية ، لا رآها قبل ألان ولا سمع عنها ، كأنها شيطانة أو جنيّة .. أو أو .. حوريّة ولذا أرتعب الغلام وارتجفت فرائصه ، وراح يكذّب حواسه في أنه في مدينة مسحورة وفي حلـم .. أو كـابوس إذ ما صلة هذه الحورية بهذه المدينة المهجورة ، لاح ذلك الجيد الناصع البياض الذي أمتزج ببياض الوجه الذي زاده تألقا وإشراقا هالة سوداء كالليل لشعر فاحم يتهدل على كتفي الفتاة متمايلاً مع كل هبة ريـح، وتداخل لـون تلك البشرة مع لون القميص الحريري الذي يلتف على جسد متوثب كـامل مكتنز ، ولم يصدق الغـلام أن تلك الفتـاة تومئ له وبيـدها عصـا من الذهب .. لكنه راح يقترب من الشرفة حتى إذا ما اقترب من سياج الحديقة كان البهاء كله قد حط في الشرفة وهـو في القاع على الأرض مـذهولاً .. ولم يكن ليصـدق أن تلك الفتاة قد أعجبها تنغيم صوته وهو يصيح (عتيـق .. عتيـق ) لهذا أرادته أن يردد نداءاته مـرة أخرى وهي تعزف على آلة (الفلوت ) التي تتدرّب عليها ، وبدت لعبة غريبة ربطها الرجل فورا ًبالغيب وعالم الجـن والخـرافة ، ولذا وجـد نفسه مجبرا ًعلى الإذعان لمطـالب تلك المخلوقة خوفاً من عقابها أو أذاها فـراح ينغّم بكـل ما استطاع من قـدرة على التنغيم ويـردّد لازمته المعهودة .. عتيـق .. عتيـق .. عتيـق .
وجلس عند قدمي الفتاة في سكون واستسلام وهو ينغّم وهي تنفخ في آلتها ، وطالبته بأن يعود إلى جلسة ثانية في الغد بعد ان يرتدي ثيابا انظف واجمل .. ونقدته ليرة ذهب كاملة ..
وتقشعت أمام ناظري الرجل كل السحب ووجد نفسه أمام حقيقة دامغة هي هذا الكيان الذي لا يوجد فيه ما هو عتيق وليس آيلاً إلى زوال ، وان آلتها وحدها تتغلغل في كل شيء فالصوت يتجسم وتتراقص في المكان فراشات ضوئية ،تنسجم مع ارتعاشات جفني الفتاة وأصابعها الرشيقة وهي تتنقل بخفة بين ثقوب الآلة ، وتجسمت أمام ناظريه شفتين رائعتين تلتصقان بحنو بتلك الآلة فتتكوّران ثم تبتسمان .. وكانت تلك الحورية تحلّق هي الأخرى في أفق مليء بالمرايا والأقواس والنافورات وتماثيل الأيائل والنمور والأرائك الوثيرة وستائر المخمل .
عاد رشيد محمّلا بخراب روحي عجيب ، شعر ان روحه معطوبة وان ما جرى قد نكأ جرحاً في داخله ليعرف من الذي كان السبب فيه .. أبوه .. الزمن .. العتيق .. لا يدري ، ولذا كانت العودة إلى الخان والأماكن الرطبة والرائحة العطنة كانت عذابا مريراً لاقبل له به ، والعودة إلى الحورية اشد عذاباً وإيلاما ولذا اعتصرته وحشة شديدة وجثمت على نفسه كآبة قاتلة ، ولكنه بين حين وآخر يشعر بريح طيبة تأتيه من مكان ما فتنعش كل كيانه وتؤجج فيه سعادة صغيرة مجهولة .. وبقي الغلام مشتت الذهن غائب البال حائراً يتقلب طيلة ساعات الليل الطويل الجاثم حتى جاء الفجر الجديد.
لبس زياً نظيفا ورحل .. وعندما وصل تلك السرايا الفخمة كان قلبه يسبقه إلى تلك الشرفة المتلألئة .. ولذا سارع نحوها بكل ثقة وعندما وصل فتح الباب مباشرة واتجه نحو المدخل الرئيسي وما هي إلا لحظات حتى دوت في المكان صفارات الحرس وتعالى نباح الكلاب المزمجرة التي قفزت عبر الاسيجة وجاءت تجر خلفها جنازير حديدية فيما بدا حول السور حراس سود جهمي الوجوه يركبون جمالاً وخيولاً ويهددون بهراواتهم وبنادق البارود ، وحطت على الدنيا كتلة قاتمة هائلة مريعة من الرعب والجلد والنهش والتعذيب والقسوة ، وكانت صورة فتاة الشرفة و(فلوتها) تلوح أمام الجسد المعذّب في الأعلى هناك حيث يتدفق الهواء وتتراقص الستائر ، وكان العزف الجميل يشتت آلام الغلام وهو يتلقى عذابات رحلته وحتى وهو يسحل في دروب المدينة الحجرية والجمال تجره ، كان يتشبث بأغصان زهر حديقتها ويشير أليها دامي الوجه دامع العينين ويردد منغماً لازمته الأثيرة : عتيق .. عتيق .. عتيق .. عتيق ..

….1997
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة