Monday, August 27, 2007

بورتريه امرأة مجهولة UNKNOWN WOMAN PORTRAIT

بورتريه امرأة مجهولة



قالت :
انا امرأة من دخان ، اتكور في زمن مجهول ، ادور حول نفسي وأتحول من حال الى حال حتى اغدو امتدادا لتحولات المادة وأصير دخانا ...
يمكنني التنقل في حجرات المنزل وفي اجزاء المكان ، كما احلق حول ملجئي وأطير روحا مرفرفة خفيفة من دخان ..
اتخلق في مديات احلامي ، وأطير دخانا على مكان نزوحي القديم ..
انا من فلسطين ، من مخيم الشاطئ ، انا شاهد على النزوح والجلاء ومخيمات اللاجئين ومدارس الغوث .. وها أنا دائرة من دخان في ملاعب طفولتي ... هنا في قلب الحدث : بغداد .
من الذي جاء بالدخان وجعل سيكارتي دالة علي ؟ ، هذه الماركات الأستعمارية لسكائر تعود الى سلالة سيجار تشرشل وسيجار هافانا وصولا الى سيجار طارق عزيز ...
ميامي وهوليوود ثم سومر وبابل والرشيد وكليوباترا وروثمان وكاميل وكمران .. و .. , وبقي الدخان هو الدخان ... ربما كان سبب الأختلاف اني قلت للطبيب انك على خطأ وأنا اكثر حيوية ونشاطا مع الدخان وأكثر بؤسا من دونه .. ولهذا قال ... انها حالة سايكولوجية محظة .. وأما القبلة الذابلة فقد تلاشت وذوت بسبب طعم الدخان وذوت الشفاه بسبب طعم الدخان الممزوج بالقهوة ..
واعترف بذلك .. ان القبلة الأولى هي التي جعلت ذاك الغلام ينفر سريعا .. بطابعه الوسواسي العريق ... ان الدخان والقهوة اسباب كل المصائب التي نمر بها ... ولو جمعت الأموال التي انفقت على الدخان لصرنا اباطرة وسلاطين ، نحن معشر الفقراء والموظفين الصغار ..
المفاجأة اني وجدت قلما في شكل سيكارة فاشتريت علبة كاملة .. ومصباح النوم في حجرتي طورته وصار في شكل سيكارة .. ونظرت في القاموس النسائي فوجدت اجماعا ان من تدخن فهي اما امرأة مسترجلة او معطوبة سايكولوجيا ..
مرت سحابة الدخان ، بالقرب من وجهه الشاحب ، ومفرق الشيب الذي بدا ناصعا على جانب شعره ، ودون ادنى اكتراث .. كان يحدد قراره .. انه سيغادر حتما ..
كانت غرفة المحررين قد خلت الا منا .. ورئيس التحرير ودعنا وبروفات الجريدة دخلت المطبعة .. اما هو فقرر ان يقول كلمته : سأذهب ... قلت له : لاسبيل لأسترجاع الكلمة او تصورها في هذا المكان ... ولهذا مسكت يده وخرجنا ... في شارع الكرادة وقد حل الخريف وبدأت ريح هادئة منعشة تضرب حدائق الورود ، توقفنا ... وأدرك حاجتي للدخان .. فتح زجاج السيارة وأشعل سيكارتي .. كانت تسريحتي لذلك اليوم نحسا علي ، فقد اتخذت تسريحة ( ولادية ) كما سموها .. تسريحة شعر قصير شبابي وعملي .. حتى بدوت مسترجلة بحق وحقيق .. ياه اشياء عجيبة تحصل لنا ..
احاط الدخان الزجاجة الأمامية ولم يكن من سبيل للوداع بقبلة او عناق او ماالى ذلك .. فقد طغى الدخان على المشهد .. وسمعت كلمة واحدة من كل النشرة الخبرية التي كان يستمع اليها ..
ا ..ن ..ت ..ف ..ا.. ض..ة
كأنني غفوت .. او ربما تعمقت في تأملي الفتاة التي عند منعطف الدار .. الفتاة المكتنزة البيضاء التي خرجت لتلقي نظرة على من يطرق الباب الخارجي .. وعرفتها فورا وياللعجب وكدت اناديها بأسمها ..
فلو قلت ( دخان او smoke ) لهرعت الي ولأسترجعنا ايام غرفة الطالبات في الجامعة حيث كنا نتبادل السكائر وقصص العشاق . لكن سربا من العصافير كان قد مر والتحقت بالسيدة ثلة من الأطفال .. وتأكدت انها اصبحت في عالم آخر اذ اشترط الزوج ان تقلع عن الدخان كي يشبكها بخاتم الزواج .
قلت له .. نحن في خريف الثورة .. وأنت تريد ان تحيي التاريخ ..
استغرب كلماتي .. وقال باستخفاف .." عن اية ثورة وأي تاريخ تتحدثين بالله عليك ؟ " .
انا اريد ان اهاجر .. اعاني تمزقا حقيقيا .. اريد ان اعيد اليك انوثتك المسلوبة ..
ان تعودي كما كنت يوم شاهدتك قبل سنوات ، يوم همت بك ومنعني كبرياؤك من ان ابوح بمكنونات نفسي .. ولست اصدق الآن انك هنا .. في مكان يجمعنا .. ولكنك قد تحولت الى كيان آخر ..
من فضلك عودي سيرتك الأولى ... من فضلك حررني انت من عبودية النار والدخان اذا شئت .. عود ثقاب يحرق المملكة .. وعود ثقاب يحرق دفتر التاريخ المزيف .. ويصبح كل شيء دخانا ..
ماذا بقي عندي .. هاأنا قد تجردت من كثير من اثقال الأنثى .. فقدت عدة كيلوغرامات من وزني ، لم يعد هنالك ردف يثقل حركتي ولا ساقين مترهلتين ، ولا صدر بمقاس ( اكس لارج ولا حتى لارج ) ولا كرش ولابطن ولا رموش صناعية ولا شفاه مطلية .. . هاأنا ... جاهزة ان اشتعل واتحول الى دخان ... مد يده .. ورسم على الزجاج دائرة ووضع نقطة .. ثم غمغم :
"سأعيدك سيرتك الأولى .. لكن .. لكن ساعديني .. استعدي من فضلك لذلك .. اتركي شعرك اطول وتناولي الفيتامينات من اجل نضارة الوجه .. ولابأس ان تزدادي بضعة كيلوغرامات .. بصراحة .. بصراحة .. انا سأكون دبلوماسيا بعد بضعة شهور .. وافترض ان سيدة يفترض ان تقف من ورائي وألى جانبي .. ".
كان الدخان قد غطى وجه مدن اجهلها من قبيل اطلال المخيم التي لم ارها الا خيالا في المرويات العائلية القديمة ..
دخان كان يغطي مضارب نزحنا عنها جميعا وبما فيها جلسات طفولة ومراهقة ، ولقاءات حب مختلسة ، اما هذا القانون الأرضي الذي شرعناه في السيارة من اجل ان اعود سيرتي الأولى فهو نقلة نوعية من حياة الأمم ..
لاأدري من اين تسللت المفردة ( حياة الأمم ) ، ولا ( النقلة النوعية ) في حياته وهو يتحول الى دبلوماسي من اهم مهماته ان يدين ويستنكر .. . ويصنع لغة دبلوماسية شاحبة كما هي لغة الدبلوماسية في بلاد العرب اوطاني ..لغة تطيل عمر الكائن الذ ي يملك مفتاح العاصمة وفيما يقصر من عمر الرعية ..
ترك لي متسعا ان افكر وأجيبه .. لكنني كتبت له على الزجاج .. ( سأواصل التدخين حتى النصر ) .. وأغلقت الباب ومشيت عند الغروب في شوارع وأزقة هادئة تتفرع من الكرادة .. وكنت ادخن وامزج كل نفس من دخان بصرخة وحشية تنبعث من سيارة عابرة حتى استنفدت سجائر ميامي ..
ببنطلون الجينز والكنزة السوداء ،والحذاء الرياضي ، بالشعر المقصوص والوجه بلا مساحيق ، من سيتحرك قلبه نحوك في نظرك ؟
مرت كلماتها .. وهي تتربع على عالم من العطور والماكياج والبدانة والملابس الضيقة والأماكن المعلنة من الجسد برسم الأغراء العام ..
كانت صورة مشاكسة ، نفخت عليها الدخان كمثل دخان السحرة ، وشاكستها واغلقت الباب من خلفي .. وتكونت من ورائي خرائط دخان جديدة ... مصحوبة بسحب النميمة ...والرثاء الجميل ...
كأنني في صالة قمار : تخسر الفتاة انوثتها بهذه الملابس وقصة الشعر ، وتخسر الفرص تباعا لأنها نفثت في وجه رجل الدخان ...
وهاهي ... اسطورة من دخان ...
تمضي في شارع نصف مضاء في ليل خريفي .. لتقول له : من فضلك ... هلا ارسلت لي دخانا مستوردا يوم رحلتك الدبلوماسية الهانئة ..؟
2006
القصة من مجموعة بورتريه امرأة مجهولة
اللوحة للفنانة العراقية عفيفة لعيبي