Sunday, August 26, 2007

حورية HURIAH

حورية


بدت فسحة المكان مترامية الأطراف ، قفراء ، عجلات السيارات المتهالكة تضرب كتلا تتناثر مع النثار الغروبي المحمر لغيوم واهنة، ترجيعات متذبذبة لعجلات تشق لها مسارا على رمل احمر ، تجمع المرآة في اهتزازها شتاتا من لون الشفق الذهبي الرجراج او اجزاء من وجوه الراكبين الذين تهاوت قواهم فذهبوا في خدر لذيذ او نوبات من النوم المتقطع . عندما تأكدت ان الجميع اخذوا الى رقاد جثم عليهم تساءلت : اين نحن ؟ سؤال يدور على شفتيها وينبض في قرارة نفسها وهي تنطلق في رحلة ما ، رحلة غير محدودة ، اتراها استمرار ام بدء ام انتهاء ، تفقد ذلك التواصل ، تلك الحلقات الدائرية المتصلة وهي تتحسس قلادة متدلية بأهمال على صدرها ، حلقات ، سلسلة تتكرر ، تسأله لماذا يتكرر كل شيء ؟ لماذا علينا ان نفعل مافعلوه ؟ انهم يثقلون علي ، يسألونني مرارا : النتيجة ...بطنك مجدبة .. لا ولد او بنت .. وانا ابحث في اعماقي عن النتيجة الملقاة في بئر النسيان والعدم ، مثل دلو اخرق ، بلا مياه ، ينحدر في ذلك الظمأ الأزلي ، في افق صحراوي قان ، ينحدر ، يهوي ، الى عتمة قاع ، يهوي سريعا ، وتبدأ الرحلة المعاكسة ، ... النتيجة .. ننتظر ، النتيجة ، انت تصنعينها .. انت .. وكيف ؟ والدلو يوغل في العمق ويعود جافا قاحلا حيث لاماء في القاع ، اين نحن ؟ في دوامة السؤال اليومي : اصنعيه .. أأصنعه من طين ؟ من تراب ؟ من الم ؟ من ماض ؟ ام من هباء ؟ .. لاادري . اندفعنا مزيحين المدى ، متدفقين في قرارة الرمل والحجارة والأكتاف الترابية والأخاديد واحتفارات السيول .. اين نحن ؟ احمرار الرمل يكمل نصف دائرة السماء المحمرة فأرانا ندور في مضمار مكتمل من كرة مشطورة نصفها الأعلى غيوم محمرة والأسفل رمال الأرض .. ونحن .
تسألها امرأة اتخذت لنفسها مجلسا في فضاء ترابي وقد انتشرت امامها قلائد رخيصة وقطع زجاج وقرنفل مسحوق والمباخر يتلوى دخانها متصاعدا ، تسألها : مريضة ؟ يختلط كلام الأم والبائعة والتي في جوارها ، سلسلة من كتل سود كدرة تلتئم في فضاء ترابي تجمع لوجوه منقوشة بوشم ينتشر بمربعات ودوائر وعقارب ورؤوس ، تجلس هي في الوسط ، كف تتحسس بطنها الضامر ، تضرب ظهرها ، هي اكثر جوعا وضعفا .. وأصداء .. لا والله عاقر .. تتردد لاسعة كاوية جارحة للذات.. ينتهي المجلس :انه في المدى الصحراوي الممتد يملك امتداد هذه الجزيرة ، يضيف الغرباء وربما ساعدك في انجاب الولد .. وابنتك شابة ورحمته واسعة .. اذهبي ياامرأة اذهبي .. ينفتح الباب وتركل هي مثل قطة جرباء ، اذهبي ، تخرج في كون محتقن داكن ، اذرع طويلة ، طويلة ، تمتد ، تجر خطاها ، تتذبذب في الصحراء في مشهد الحلم بثيابها الحمر واللعتة التي تطاردها ، تمسك بطنها الظامر ، ترفع ذراعيها عاليا باتجاه الأفق الغروبي المحمر وتصيح عبر الفلاة ..
تترنح وهو في العمق ، يحق له الزواج ثانية ليجرب ، اذهبي ياامرأة من تكونين لست خاتمة النساء الفاشلات في الخلفة .. ارضك قفراء سبخة مجدبة ... اذهبي .. لأمك .. (اذهبي..) تملأ الكلمة واصداؤها غرف المنزل ، هل بقي شيء من المياه الرقراقة المتدفقة ، البستان ، ذلك المدى المزدهر الذي تكشفت فيه ذاتها ، اندمجت خواصها بالطبيعة ، تداعبها الأذرع الحانية ، في شبكة من الثمار والربيع والأمل والقبل والحلم ، هو ابن آوى يمارس لعبته اليومية يختبئ بين الأحراش وهي تنزلق باتجاه السواقي ، تنزل مثل سمكة غضة ، يخرج من مخبئه في لحظته الخاصة ليجد التكوين الأنثوي المترع الذي يحتويه وهو ينتظره ، يهبط المساء ، ينزع ستائره الكحلية الموشاة بالنجم ، وتتكرر صور ابن آوى ، لاصحة للذكرى احيانا ولا امان من ابن آوى وهذه هي سيرة الرجال.. رددت الأم وقد تتابع الوشم على ظاهر يدها وهي تلوح للسماء من اجل ابنتها .. ليس غير ندم يمتد الساعة بامتداد الصحراء .. الرجال .. دهر .. مثل الدهر لاقرارة لهم فلا تأمنيهم .. رددت المرأة المجاورة .. لماذا فعلت كل شيء ، فرحت ورقصت له وتعطرت وجمعت الزهر البري وعطرت المكان كما تفعل كل مساء ، غنت له وأطربته ، غنت من قلبها وتمايلت في حنو ، انتشى وتدفقت الفرحة مشرقة لاحد لها على وجهه ، انت لست من النساء ، بل حورية ، يهمس في اذنها ، انت من عالم مسحور لاتعرفه النساء ، اكتمل في عقلها الأيمان بكل شيء ، يثبت كل شيء ...لا .. لايثبت ..
مابالها لاتتكلم ؟ هل هي خرساء ؟ تتالت اللوحات المضاءة .. اسماء اطباء جاؤوا من شتى البقاع حاملين سماعاتهم وورق الوصفات الطبية كي تنجب هي غلاما ذكرا .. احرام ان تعرض امرأة على طبيب ذكر ولو من اجل الأمل في ان تحبل ؟ خلص .. قولي له انها طبيبة والسلام .. وماادراه ؟ لا .. طبيب .. أأكذب عليه ؟ لا .. متعبة انا .. طبقات عمارة اخرى والمصعد معطل .. اكياس من الدواء ، رقوق شعاعية .. بطنها .. بطنها .. هي المشكلة .. اين صورة تلك البطن في سواد هذه الأشعة ؟ اين ؟ دخان وسعال ، يسعل السائق ، تتنبه الأم : الم نصل بعد ؟ تترامى بيوت الوبر في عمق الصحراء .. تمر قطعان متناثرة ثم يمر رجل على صهوة جواد ، يدور حول القطعان وما ان تلوح القافلة حتى يلوح بيده مشيرا الى بيت الوبر الذي في اعلى التل الرملي ، فيجيبه السائق بضغطة على بوق السيارة شاكرا الدعوة .
تململت الأم ، تقترب منها ، تهمس في اذنها ، " اصبري .. الخير في ايدي اصحاب الكرامة .. الخير آت .. لن نعود خائبين .."
ينزل المطر دفعة واحدة ، يسرع العابرون قرب عمارات الأطباء ، جسدان غريبان في اسواق وشوارع اعتادتا عليها هي والأم ، يمزق السؤال المراوغ صدرها : لماذا انا ؟
تنحشران وسط حشود العابرين ، الكلمة ذاتها تتكرر: لابأ س عليك .. ليست ثمة مشكلة .. قالها مرار مخففا وطأة العناء والتنقل في ليل العيادات الطبية ..
الم يقولوا لك انهم هكذا .. متقلبون كهذه الريح ... لاامان له .. قالتها امرأة تنتحب قرب الضريح الذي لطخت جدرانه بالحناء ، كانت الأضواء خافتة ، شموع تتخافق ، ظلال محمرة على حديد الضريح الأخضر ، ثمة صوت يتدفق ، انتحاب مكتوم ، شوق ما ، امنيات معذبة ، تحط على رؤوس النساء المتلفعة بالسواد ، تمتمات واهنة تتسرب كالدبيب في الفضاء المقوس الذي تستدير قبته وتنزل منها ذراع طويلة لمروحة مسرعة تحرك الستائر البالية ، في الهدوء المريب تنغمر النساء والصبية ثم يتلاشى الهدوء مع زغاريد واهازيج وحشود من النساء المزوقات ، حشد تتقدمه امرأة ممتلئة وهي تزغرد وتنثر نقودا من فئة الخمسين فلسا وحلوى ، ظلت هي في ارجوحة تعلو وتهبط بين بكاء وعويل وبين زغاريد وفرح واغان ، حتى تلفعت ونامت .
في لاوعيها المحزون : ( اتراه يأتي ، يسمع ماجرى ويجري ويأتي متلهفا كما كان يصنع بعد كل غيبة له ، معفرا بتراب الطريق ، يسرع ، الحقائب تثقل خطاه لكنه يسرع ، يرمي كل شيء في باحة الدار ، يحملها ويدور بها دورات متسارعة ، وهي تضحك وهو يداعبها وتكاد تختنق وتتوسل اليه ان يكف عن مشاكساته ، لكنه يمعن في عبثه الجميل فينز العرق من وجهها ثم يمطرها بقبل سريعة ، .. ايفعلها ويجيء ؟ ) .. انتصب امامها وهي في شبه نومها.. ظهر شبه هيكل عظمي ، اشار اشارات متتابعة ، كانت الأم تردفها بأيماءات موافقة ، . بدت الساحة ممتدة بلا نهاية ، ، قبور مندرسة واخرى مشيدة حديثا ، ارتبكت وتراجعت ، لكزتها الأم ، صاح بها الرجل النحيف الذي شعرت انه مجرد ساحر مبتدئ ودجال ،ولا صلة له بالمكان ولا الكرامة والنسل الطيب .. وظلت مسمرة : " لاوقت عندنا .. خلصينا " .. افعليها ياحورية .. افعليها من اجلي ..ارادت ان تنصرف .. وقفت الأم في المنتصف وشجعتها وتوسلت اليها ان تكمل المهمة بسلام .. لكنه ساحر ودجال ياأمي ..قالتها هامسة دون جدوى .. سمعت صوته في داخلها فتشجعت .. تراءت لها كتل من الحجارة والآجر المتناثرة ، تماسكت مغمضة العينين وهي تلف عباءتها وهو يرمق الجسد المكتمل ، جفلت لما سمعت صوت من يعد من وراءها الأرقام ( واحد ..) جاءتها اصوات متحشرجة كأنها قادمة من تلك القبور ، هيا ، هيا ، تشجعي ، لابد من عبور قبور اخرى ( اثنان ) ، ( ثلاثة ) ، باهتة ، ذاوية ، اعبريه ، ستفعلينها سبعا ، هيا ، انه مجرد قبر طفل ، ( اربعة ) ، تتوقف ، لاتقوى ، تذوي ، تتهاوى قواها ، تندفع الأم نحوها ، يمنعها النحيف ،يدفعها الى باحة المكان ، يهدد بأخراجها ،هي وابنتها ، يغلق الباب ، يعود للجسد المرتمي ، ممتلئا ، راعشا ، جفنان ثقيلان ، شبح قد خرج من قبر متهشم ، يأخذها الفزع تتلفت بحثا عن امها ، تسمعه يردد بخبث ، ( لامكان لها ) ، امسك يدها مرددا هيا .. نهرته ، طلبت منه ان يسير امامها ، يسير ، يتلفت حانقا ، يندفع عبر ممر من الحجارة لتلوح غرفة تحفها كسر من الفخار ، نباتات شوكية متناثرة ، المغتسل ، عليك غسل رجليك سبع مرات ثم تخرجين قماشتك ، ترمينها في المغتسل ثم تغسلينها بصابونة الموتى .
امرته ان يخرج ، تغلق الباب ، الدكة الحجرية المستطيلة امامها وحوض المياه والمجرى ، بدت لها المياه راكدة ، هاجت امعاؤها وظلت تهوع والعرق يتدفق بغزارة منها ، ، ترتمي متهالكة وتبكي بحرقة .
يطرق الباب بقوة ويصرخ فيها ، يحثها على الأنتهاء ، يلوح امامها الأبريق النحاسي الضخم ، جست مقبضه ، حاولت رفعه بكلتا يديها ، نظرت من حولها مليا ، لابد انه يسترق النظر ، تخيلت العيون كثيرة متزاحمة ، والمياه تتدفق ، هتفت فيه : اين انت ؟ قال : انا ابن آوى ، اغترف الماء وظل يرشقها حتى ابتلت وهي تضحك ملء قلبها ، ظلت تسكب الماء والبستان يتراءى كوكبا مهيئا لها ، مياه ترشح خيوطا نحيفة وهي تضعف وتبكي ، لن افعلها هنا وصوت الأم يحثها ، افعليها من اجلي لآخر مرة ، تمد يدها ، باردة ، مبللة ، تسحب القماشة ، ساقاها عاريتان ، الضجيج يصم آذانها ، درابك وزغاريد وبكاء ، نسوة وصبية ، ضجيج يختلط بصفير القبور ، ينفتح الباب بقوة ، يلوح النحيف ، يسرع نحوها ، تنتظره ، تعلم انه سيفعلها ، جاحظ العينين ، مندلق اللسان ، تلوح كتلة عظمية ، كتلة مخيفة ، تترك القماشة ، ينزل الثوب ، تدعوه ، يأتيها ، تراه رائعا ، فيه كل الرجولة التي رسمتها في خيالها ، امها تبكي في الخارج ، اهل الزوج يزغردن ، الدرابك تعلو ، يختلط البكاء والغناء ، يتقدم ، يحتضنها ، يتمكن منها ، تتسلل يدها للمقبض البارد ، يرفع ذراعه ، تنزلق الصابونة ، يسحبها الى مستطيل المغسل ، تمسك المقبض بأحكام ، ترفعه ، تصرخ فيه ، " ان لم تجئ فساعدني على حمله " تحمل الأبريق ، يهوي على الرأس الفاحم ، يصدر صوت شخير متقطع مختلط بنشيج متصل يخنقها ، يتشنج ، يقبض على رقبتها ، يرتفع ابريق النحاس ، يهوي ، يذوي الجسد الذي فوقها ، تدفعه ، تتدفق دماء وتختلط بأصوات حشرجات وصراخ ودفوف ، يسقط الجسم في الحوض غارقا بالدم ، تخرج هي صارخة بحثا عنه في الصحراء الممتدة .
1991
القصة من مجموعة صعود القمر
اللوحة للفنانة العراقية عفيفة لعيبي