Sunday, August 26, 2007

تنويعات بشرية HUMANITARIAN VAIRATION

تنويعــات بشــريـة


في المـدينة الصاخبة ، المدينة المتشابكة والنـاس تهـرع والكل ينظر إلى الإشـارة الضوئية للانطلاق ، كان (مارثونا ) طويلاً فيه شيـوخ وتلاميـذ وفتيات صغيرات جميلات ، باعة بسطاء ،معلمون متقاعدون ، سكرتيرات رشيقات ، عمال بناء ، كانت حائرة ومرتبكة أعصابها متعبة ، ولم تنم ليلتها جيداً وهي تهيئ ملابسها وأشيائها لتتقدم إلى اللجنة وتبعثرت من حولها كلمات الإعلان الإذاعي والتلفازي : ((تعلن مؤسسة الفتاة السعيدة عن حاجتها إلى (…....)من اجل ضمان مستقبلك تعالي معنا إلى مؤسسة الفتاة السعيدة حيث الآمال العريضة والأحلام المرفرفة في فضاء التمني)) .
أدهشتها أناقة المكاتب ، ورق الجدران ، والـورود الصناعية الموزعة في الأركان ، شاشات الكومبيوتر ,رائحة معطر الجو المنعشة ,وتنبهت للكراسي الدوارة الحمراء وحسبت نفسها تدور على كرسي وثير والهواتف لا تتوقف عن الرنين وبين الحين والآخر تنظر لتسريحتها وماكياجها لتتأكد من أن كل شيء على ما يرام .
تراجعت خطوات وهي تقف في طابور طويل بانتظار الحافلة ,تلاشى هواء التكييف ، وحلّ هواء المدينة المشبع بالكار بون والغبار وصراخ الباعة وأصوات محركات السيارات المتكدسة عند الإشارة الضوئية ، ألقت نظرة عابرة على وجـودها الماكث في المكان ، الملتصق بالواقع ، آخر أخبار الفضاء ،آخر أخبار التنزيلات الحقيقية،آخر أخبار زوجة الإمبراطور، آخر أخبار الغناء ، آخر أخبار البورصة ،كان المكان والواقع هما مرآتها الحقيقية التي ترى من خلالها وجها ًمهتزا ًوملامح مرتجفة حائرة .وجدت نفسها في موجة العابرين في ألما راثون بعد إطلاق أل (GREEN CARD ) بالمرور والإقامة في الحافلة الكبيرة باتجاه مؤسسة الفتاة السعيدة التي هي جزء من مجموعة مؤسسات الحياة المرفهة السعـيدة العالمية المتحدة المحدودة ، ولا تدري أين وصـلت ولا أين تبحر هذه السفينة في موجـة الزحام الصيفي المتلاطم ، فالأجراس لا يتوقف قرعها و(نازل + صاعد ) أزلية لا تتوقف والرجل الذي أمامها لما ينجز بعد قراءته المعمقة لصفحة الوفيات (نازل + صاعد ) ، حملها الموج وحيدة مشتتة الفكر ، وتغيرت هيئتها ولا تدري عن مكياجها شيئا ولاعن تسريحة شعرها ، شعرت بالخدر يغمر وجهها ورأسها وأطراف أصابعها ، وأحست أنها فقدت الإحساس بهذه كلها ولذا دخلت بلا أدنى اكتراث وسط نفحة كثيفة من الكلمات والسطور التي تدافعت إلى ذهنها قادمة من عشرات روايات الحب
والجمال التي قرأتها وما زالت تقرؤها .
***
كان هنالك شخص اخرس , طويل القامة,ساهم النظرة ,وذو سحنة تختلط فيها الصفرة بالبياض , عيناه غائرتان , ووجهه جامد بلا حياة , كان يمر في كل أسبوع على مكاتب مؤسسة الحياة السعيدة ليطلع على ما أنجزه رجالها الأشاوس , كانت للمؤسسة مهام متعددة ,تتجدد في كل وقت عندما يلمح أحد مستشاري الرجل الأخرس منفذاً للإبداع الجديد يرميه في محفظة بريد الأخرس الذي يصادق مباشرة ,وما ان يتم ذلك حتى تستأجر المباني والأراضي المناسبة ويبدأ استقدام السيارات والناقلات وهيئة الموظفين في زمن قياسي.
***
كان رجل العصر كما يسمي نفسه ,,يشعر انه عبقري وملم بأحوال الدنيا وشؤون الأمم وتحريك المال واغتنام الفرص والفوز بالصفقات ..وكان وجوده في فرع المؤسسة العالمية هو أمر كوني يجب ان تتنبه له الأمم فتقعي عند بابه وتسأله ان يمحظها نظرة خرساء يعدل بها مزاجها وجداول أعمالها.
كان الصمت يلف المكان .. وعبارات (هدوء رجاءً) تتوزع في الأركان ..وكان الأخرس يفضل كتابة التعليقات في الهواء ..والتوقيع في الهواء ..والضحك في الهواء..وعشق النساء في الهواء..لأن لديه هيئة من المستشارين الذين يترجمون إشاراته الخرساء في الهواء …وهو لا يريد إن يبدو أمام الآخرين بهذا العوق الخلقي ..ولذا فأنه يحرص على الإخلاء بالمستشارين في المكاتب المغلقة في أثناء اتخاذ القرارات.
***
عالم الرجل الأخرس مليء بالجمال ورغد العيش والنعمة التي تتكدس في كل يوم..ولذا صارت له إقطاعيته في الأرياف والمدن الكبرى ,وصارت له أجنحة للتعبير عن الرفاهية.
وكانت المؤسسة تعلن عن حاجتها إلى وجوه جديدة بين آونة وأخرى فكان يسرّي نفسه بالحضور مع لجان المقابلات لمشاهدة البشر كجزء من فلسفته في مواكبة الواقع..وفي بعض المرات كانت تحضر طوابير من الفتيات المتلهفات للفوز بعمل ..أي عمل..سكرتاريا ..قضايا مالية, علاقات عامة ,أبحاث ومتابعة..أي شيء من ذلك..وكانت شروطه قاسية بالنسبة للمظهر..فقد فرض الأخرس في الإدارة الكبرى للمؤسسات زيّاً خاصاً وتسريحة شعر وقامات محددة في كل طبقة من طبقات المبنى فهنالك طبقة بموظفات سمر أفريقيات بزي ازرق داكن وهنالك طبقة لنساء بدينات بملابس صفراء فاقعة وهنالك مواقع لشابات يافعات وهكذا, ضمت الإمبراطورية نخباً معاصرة من الإناث الرفيعات المستوى ,,أما الرجال فهم دوماً حليقي الرؤوس ,يرتدون بدلات سموكن ويخفون عيونهم خلف نظارات معتمة ويضعون في آذانهم لاقطات الاتصالات عن بعد.
***
دخلت الفتاة السعيدة المصعد,فانطلق بها سريعاً ولفظها فوراً إلى مكعب اللجنة …وسرعان ما استقبلتها اللجان المتخصصة ,سيدات متمرسات نقلنها إلى قسم تحديد المواصفات النوعية ,وأكدوا لها أن الأمر يتطلب تدقيقاً في كل أوضاعها فأذا وافقت على ذلك ستمضي على ورقة الموافقة وتسلم نفسها للتقييم
***
كانت قد شاهدت وهي في طريقها محلاً كبيراً بغسالات ملابس ضخمة وشاشات تظهر عبرها الملابس وهي تنقع بالماء وتدور دورات حلزونية متصلة.شعرت أنها تدور في هذا المكان بمثل تلك الدورة الحلزونية لأن الأيدي المتمرسة كانت تقلّبها على كل جهة وتارة تنحني وتارة تمد ساقها وتارة يقاس خصرها ,وطول أصابعها والمسافة بين عينيها وتلاحظ أسنانها وأمور أخرى اكثر خصوصية .
***
وعندما اكتملت المهام ..وجدت نفسها ترتدي زيا احمر اللون,محفوفة بثلة من المسؤولين الصامتين ووجدت نفسها أمام مهمة أخرى كي تقبل في الهيئة تحت التجربة.

***
اطل الرجل الأخرس واستقبلته عاصفة من التصفيق .وعندما دخلت الفتاة وجدت أمامها حشداً من الفتيات بنفس شكلها وتسريحة شعرها وهيئتها وزيها,,في تلك اللحظة كان الأخرس يأمر بالصمت التام وكان قد دخل الدائرة الزجاجية ليتابع مراحل الاختبار ,وجدت الفتاة السعيدة نفسها أمام رجل متجهم الوجه يحمل خيزرانة نحيفة ذات رأس اثري وهو يجس بعصاه مواقع يريدها….
***
الدنيا صامتة ..والفتاة السعيدة محمولة كالتائهة في باص طويل ينطلق بها,رأسها ثقيل , الدوار يلفها ,الصور أمامها مشوشة ..يدها معروقة وهي تكور شيكاً بالمبلغ وتبحث عن نافذة لالتقاط الهواء…………..
***
الأخرس متنعم في مكمنه ..ينتظر استكمال تنويعاته البشرية ..بعدما وقع الاختيار على الفتاة السعيدة عينة ذلك الليل الطويل

1997
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
اللوحة للفنانة العراقية عفيفة لعيبي