Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل السادس

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل السادس
كان رحيلها ايذانا بولادة زمن جديد.. فهي اذ كانت توأما للعمة الكبيرة توأما روحيا عميقا ، وجدت فيه ملاذا هانئا ، واذ كانت دافعا لها كي تنغمر في النور كليا ، فانها كانت امرأة صنعت رجلا مهيبا حقا. لم يكن المحفوظ يخرج عن طاعتها ولا ان يتسبب في غضبها . وكان قد وجد في السنوات الاخيرة قبل رحيلها ، وجد في استغراقها في عوالمها الروحية سببا كافيا له كي يختلس اوقاتا يمضي فيها مع اوطاره الخاصة: الزيجات السرية واللقاءات التعاقدية مع البيك الوزير وما يتبعها من اتفاقات على صفقات سانحة للارض والاملاك الاخرى. استغرقت العمة الكبيرة في بث صورة من ذلك الزمن ، هامسة في اذن ليلى عن ملامح ذلك الزمان والمكان لكنها وهي وسط هذه الطمأنينة تمر على صور المحفوظ والبيك، وسائر افراد الاسرة . كانت تتوقف عند (جابر) الشقيق الصغير للمحفوظ الذي ما ان صودرت الارض وساد الاصلاح الزراعي حتى انتفض ورفع السلاح في وجه الحكومة ، رافضا التسليم بأعطاء الارض... كانت عنده ارض ابائه واجداده والأرث الذي تستحقه اسرته ، والنعمة التي وهبها الله لهم فأنى لأية سلطة ان تنتزعها هكذا وتحت اية ذريعة . واندفع جابر ومعه ثلة من رجال العائلة والحراس والاتباع ، وراحوا يذودون عن الارض بأية وسيلة ولما اشتد عضد الدولة قامت الُثلة باعمال مشينة من قطع الطرق والسطو على موظفي الحكومة ودوائرها.. وكانت تلك الخلفية العاصفة : الاب الاقطاعي الذي تتناقض ملكيته مع المبادئ الوطنية والثورية ، العم الخارج عن القانون ، العقيدة الملتزمة التي تغلف الاسرة.. كل هذه كانت كفيلة ان يغير نجمان ونجيب وهشام جلودهم ، ويخلعوا وجوههم ويرتدون اقنعة جديدة ، نبشوا في بطون العشائر ودفعوا مالا وفيرا لتعديل الاوراق الرسمية وصنع شجرة رسمية للأسرة ، شجرة قبلية معترف بها ومحترمة من الحكومة ، غير تلك الشجرة القديمة الدالة على اسماء واماكن تثير حفيظة السلطات وتضعها في القائمة السوداء . وغاب اللقب القديم للمحفوظ وحلت القاب جديدة تتردد على السنة الناس بظهور وزراء وسفراء وضباط من القبيلة الجديدة .. فيما انهار مجد الاسرة القديمة ولم يعد يسمع الا عند فلاحين معدومين ومجموعة هربت عن طريق الصحراء الى ارض قفر في السعودية او الكويت او حتى انها اتخذت من جبال الشمال ملاذا ، وقد كثرت في هذه الروايات وتشعبت ، ولم يكن لنجمان ولا اخوته من شأن في تلك القصص فهي قصص تتعلق بأناس لا يعرفونهم ولا يمتون لهم بصلة ، برغم من وخزة الألم غير المرئية التي كانت تضغط على هشام وهو يقلب جوانب من تلك السيرة.
وصعد نجمان سريعا في سلم المناصب في الدولة وصارت له شبكة واسعة من العلاقات ، اما نجيب فقد كان العقل التجاري الذي يستثمر نجاحات نجمان في جمع الغنائم وعقد الصفقات ، اما هشام فقد كان شابا يافعا ، تعين في احدى المؤسسات الحكومية من باب ملء الفراغ بينما كان هو شبه سكرتير للأسرة في متابعة شؤونها.
وهكذا كانت ليلى تسمع سماعا عن كل هذا ، لم تتغير اوراقها الرسمية ، ولا تلاعبت بلقبها وتاريخها. ولم تزر الاخوة الثلاثة في منازلهم الفخمة ، ولم تطلب عونهم ، وكان اقصى ما تفعله هو انها تزور العمة بين الحين والاخر ، العمة التي جلبت معها من بقايا المحفوظ اثنين من اسر الفلاحين الذين اسكنتهم معها في جزء من المكان الفسيح الذي اشترته في بغداد من مالها الحلال منذ سنين .. كانوا يرعونها ويخدمونها وينامون تحت خيمتها .
وكان الاخوة الثلاثة يجدون في زيارةالعمة الكبيرة واجبا مهما لم يتخلوا عنه ، وكان نجمان يلوذ بها ويصدق في حديثه معها ، وكان يسألها النصح . واما الآخران فكانا يسألانها ان تبارك في حياتهما وان تدعو لهما ولأسرهما واولادهما .

ولم يكن شيء يفرحها اشد من رؤية الاحفاد .. ابناء وبنات اخيها حتى ربطتها بهم محبة وألفة وعشرة طيبة ، وصار الأحفاد يطالبون بين الحين والاخر بزيارة العمة الكبيرة . وعلى هذا كان مطلب ليلى الوحيد هو ان تساعدها ان يدعوها وشأنها ، مع حياتها الخاصة. ولهذا فكلما جاؤا على ذكرها كانت تطلب منهم باختصار : دعوها وشانها..
حتى قوي جاههم وترسخت مناصبهم واذا بتاريخ عتيق منسي مرتبط بالعائلة قد حضر فجاة بسبب ليلى واقترانها بحاتم ... وبلقب ليلى الشخصي وتاريخها وهو ما جعل الأخوة يستشيطون غضبا ويأتون العمة تباعا وربما كان ذلك من باب سد الذرائع لما سيقومون به .
عادت ليلى من لقاء العمة وهي اكثر يقينا انها لم تفعل خطأ . مرت بها السيارة بشوارع بغداد ، رأت الناس منهمكين في دوامة الحصار، مرت بمواكب تشييع جماعية لأطفال الحصار فيما كان هنالك موكب مخيف من سيارات المرسيدس وسيارات الدفع الرباعي أثار الهلع بين السائقين العاديين في الشارع فصاروا محشورين بين عطفة جسر الاحرار وتوابيت الأطفال وموكب المسؤول المغلف بالسواد والحرس الغلاظ الوحشيين.
اخترقنا الحشد ، وكانت السيارة تغص بعشرين راكبا ، ادار السائق المذياع فانطلقت القصة لتكمل المشهد: " وقد خرج مركز الابحاث بنتائج عديدة يمكن اجمالها:
سيادة الشعور بالخوف والقلق بين الاطفال والفتيان بسبب التعرض للاحباط والكبت منذ عام 1991.
زيادة الرغبة في الحصول على الأشياء وحب التملك بسبب الحرمان
زيادة حدة التهيج وسرعة الغضب وزيادة حالات الكذب بين الاطفال
زيادة حالات السلوك العدواني
زيادة حالات العزلة والانطواء الاجتماعي
زيادة حدة ظاهرة الاستغراق في النوم اثناء الدرس بسبب نقص البروتين وفيتامين B واليود
زيادة فقدان الثقة بالنفس بسبب الخوف والاضطراب العقلي
زيادة حدة اساءة معاملة الاسرة للطفل والغياب عن مقاعد الدراسة بسبب التسرب اوالعمل في سن مبكرة لما يقرب من 350 الف طفل......".
ازداد احساسي بالغثيان، فيما الكائن الصامت في احشائي أخذ يلبط مثل سمكة أخرجت من الماء، شعرت بذلك الكائن منتزعا من فردوسه المائي الذي يعوم فيه في رحمي، وانه قد أخرج الى الامم المتحدة ومجلس الأمن والحكومة وسيارات المرسيدس ومسدسات نجمان ونجيب ، وانني الوب في فضاء مجنون كي اخرج ذلك الكائن من جوفي لألقيه في ذلك المجهول ، كان هنالك حشد من أطفال مدرسة ابتدائية قد خرجوا عند الظهيرة ومروا مجاميع من امام المتحف وقرب السينما ، ورأيت في وجوههم النوم اثناء الدرس والكبت والانطواء والتهيج وسرعة الغضب والخوف من سيارات المرسيدس المعتمة وسيارات الدفع الرباعي .. ومضيت أبحث عنه في فلاة بشرية ، أناس لا أعرف كيف أنقل لهم احساسي بالموقف ، الخوف المستشري من مفارز خاصة تقتفي اثر حاتم المجنون الأخرق الذي بدأ موسم اللعب بالنار ، فيما ابنه الافتراضي صار عينة في احشائي عينة مركز الابحاث واليونسيف.
طرقت باب الحجرة قرب السينما ، وخرجنا، الصالحية خاوية محلاتها ، ومبنى التلفزيون مطوق بالمدرعات والجند .. قلت له:
* مثلك يمارس لعبة البيضة والحجر...
* الاشقاء الثلاثة سيتعقبون اثارنا .. ولن تفلح العمة الطيبة.
* سننزوي بعيدا عنهم . اترك السينما وتعال الى جسر ديالى.
* هاه.. نكتة قديمة .. نحن نقطة الخطأ في حياة الامة.
* لكنك مصلحة كبيرة لنساء الحروب .
* هاه.. تهمتي جاهزة.. البيت فيه ممارسات لا أخلاقية وتعرف النهاية.
نظر في افق دجلة وقطب جبينه وأدار وجهه نحوي:
* لن أهرب من خسارتي ابدا..
* تقصد من فشلك.
* هاه.. ننجح حيث يفشل الاخرون .. وكما ترين فالفشل انشودة وطنية واهازيج حماسية والهزيمة عز وفخر...
* كرهت نفسي.
* اكرهي الاسوار والجدران وصمت البلاد .. اكرهي القرارات الجديدة و قلقي واكتفائي بهذا الجنون...
* اخاف عليك فحسب.
منزل العمة قلعتك الاخيرة .. الحكومة راضية عنها , اقصد بتزكية الاخوة الثلاثة ... وانا.. خيمة في الريح ، مكشوفة للاجهزة.
توقفت .. امسكت كفه وكمن يرتمي في البحر قالت :
* اخاف عليك فحسب..
الكتلة انتخبتني يا ليلى وانتهى.. لم اعد ملك نفسي .. المتحف ملتصق بي والسينما وبستان الدرويش هما ارضي.
وكتلتي انا ..كتلة احساسي بك .. تكوينك الوحشي الذي ينبض في احشائي ، كتلة النور التي اطلقتها في حواسي ، كتلة ذلك الوعي الزاحف لالتهام ما بقيّ من صمتي وبراءتي... ماذا عنها .؟
· لن اتخلى عنكِِِِ... لكن اذا اعيتك رحلتي فلك ان تفعلي ما تشائين لكنني.. لن اسلم للاشقاء الثلاثة ، لن اغير اسمي ولا مساماتي ولا جنوني ولا كتلتي ، لن اغير سيماءك الوحشية التي احتوت ذاكرتي..
سرنا في دروب الكرخ القديمة وتنقلنا بين ازقة وبيوت متهالكة تختفي وراء عمارات فخمة وعالية وجدنا سهيلة وخالد بانتظارنا ثم جاء سعيد وشقيقه ومعه منال..تعانقنا ، اشتقت للبنات استرجعنا اياما ضائعة , انزوينا عن كتلة الرجال, تحسسن بطني وضحكن من نبض ذلك الكائن الأفتراضي وشعرت ان دجلة حي ينبض في داخلي مثل جنيني وان ماءه حي والكائنات تحت طبقاته حية ، الكائنات المتراعشة حيث الناس يشربون ماءه الملوث بمخلفات الحرب ويتجمعون في المقاهي على شطآنه ويشوون السمك المسقوف ويضحكون من الالم . وقرأت في وجوههم خوفا مجهولا وحرمانا متفاقما لم يكن مجموع مرتباتهم يكفي لشيء ذي قيمة , كان هراء .. وراح سعيد ينثر قصاصات ورقة من فئة 25 دينار خضراء اللون , بدت فيها رؤس وذيول خيول رمادية وهي تتوزع على المكان.. ولاح من بعيد نصب الحرية ولاحت خيل وسجناء وقضبان وامهات ثكالى واطفال هم بقايا المتحف البشري .
تكاثر الاولاد والاحفاد والاقارب والجيران ، كلهم تجمعوا مهللين بمقدمنا ، وانشغلت كل مجموعة بحديث ما، بينما كان حاتم مندفعا وكأنه وجد ذاته وسط تلك الكتلة من العجائز والشيوخ والاطفال ، بدت المجموعة مثل اسرة انحدرت من سلالة واحدة تناغم عجيب وألفة فريدة ، وتدريجيا ازداد اندفاع المجموعة الى بعضها واستغرقت في احاديت ضاحكة انسانية ، راح الشيوخ يسردون وقائع من الماضي وعادت ثلة من النساء للاستفسار عن بطني مرارا والتهامس حول وسامة حاتم والسؤال عن سيرته وهل انه مكتف بي ام له نية بزواج اخر ، احاديث من تلك التي تلوكها الناس عندما تشعر بالخدر والهدوء والامان والألفة وصرت اشهد نفسي وكم اشعر بحرمان عميق من هذه الكتلة ولم لا اعود اليها مرارا ، شممت في ثياب ام سهلية عبقا انسانيا ووضعت رأسي على صدر أم خالد ، وراحت كفها المكدودة تداعب شعري .. كانت الكتلة انسانية وأليفة وبدت في انسجامها وتناغمها كتلة حقيقية تستحق العناء ، تناولنا غداءً جماعيا ساخنا ، ثم انتقلنا الى بيت سعيد ، اصر هو وزوجته والاولاد ان نشرب الشاي عندهم , خرجنا في شبه قافلة ، ومررنا بالأزقة المتهالكة للشواكة القديمة برك المياه الآسنة تتوزع كاللعنة بين زقاق واخر , والرطوبة تفتك بالمكان ، شمس الظهيرة بالكاد تمرق خلال التصاق البيوت الصغيرة ، البيوت المتشابهة في البناء وبين مسافة واخرى تلوح باحات جميلة ونظيفة بين البيوت يتخذها الاولاد والبنات للعب والكتابة على اسفلت الشارع .. البيوت الخشبية الحائلة , لونها البني العتيق والمطارق النحاسية كلها تتشابه ، وفي الاعلى بقايا شناشيل بعضها تمت صيانته والآخر ترك للزمن ومن فرط ولعي بتتبع منظر الشناشيل ورنين قصيدة السياب ( شناشيل ابنة الجلبي ) ، انبرى غير واحد من سكان الزقاق بعفوية وهو يشرح تاريخها ومكوناتها وفوائدها ، كنت في شبه رحلة سياحية لذلك الجزء من بغداد الذي يتوارى عن الانظار خلف كتل اسمنتية ضخمة مثلتها ما سمي بالعمارات الالمانية والايطالية وسواها من العمارات التي قيل ان الدولة قد بدأت بتشييدها قبيل بضعة اشهر من انعقاد قمة عدم الانحياز في الثمانينات والتي لم يسمح للحكومة بعقدها وربما كان فعل الحكومة للتغطية على خراب الشواكة وتداعيها وما حولها وبؤس حياة الآدميين فيها .
جلسنا انا وزوجة سعيد نتبادل قصص الحمل الاول ، وتربية الاولاد ، القصص التي تناسب السيدات المتفرغات للزوج والبيت والاولاد وليس اي شيء اخر , اما حاتم وسعيد فقد تمثلت فيهما ملامح الكتلة ، سعيد بقامته المديدة وبشرته التي اختلط سمارها بلونها القمحي وخاتم الفضة الذي يسور بنصره وكثافة الشعر على ظاهر يديه يلوح مثل فارس قديم ، انفه شامخ ،
وعيناه واسعتان ، وسرعان ماانزلقت عيناي باتجاه الصور التشبيهية لسبي آل البيت في الطف المعلقة على الجدار وكنت أرى فيه شيئا من احد تلك الوجوه ، كان سعيد لا يكاد يصدق غياب فاضل وتحسين شقيقاه اللذان اختفيا وتأكد أن الأمن قد اقتادهما وقطع اخبارهما منذ خمس سنين . جلب لحاتم اوراقا وهما في الحجرة الداخلية وشريط كاسيت وفتحا معا صندوقا اخر فيه وثائق ما لم اعرفها , وكلما انسحب بصري عن منال كانت تعيدني اليها ، كنت اسمع همسها:
* لا خبر عن فاضل وتحسين .
* الخبر الاكيد ان روحيهما تحتلان مكانا في كل ركن هنا .. وهناك .. انهما شاهدان على جبننا وتخاذلنا ياحاتم .
* الحدة والغضب ليس لهما سوق اليوم ياسعيد تذكر ذلك .
* التوفيقيون من امثالك يتكاثرون .
* بل بناء الوعي على مراحل هو الاساس .
* تقصد النوم على التفاهة والجريمة واحتقار الشعب .
* التيار الفاعل لديه ما يصنع والامر ليس بيدك ياسعيد .. المسألة ليست بسائبة .
* اتحدث اليك لانك قريب مني رغم اني اكرهك .
* وانا ابادلك الكراهية..
يتعاركان ويسخر احدهما من الاخر في سياق ود عجيب يربطهما ، وتناحر لا ينتهي الا بعناق حاد وعهد على المضي في تلك الصداقة , انشرحت منال وهي تشهد صراع الديكة وتتامل بعينيها اللوزيتين وجه سعيد :
* هو بحاجة الى حاتم دوما ، غياب فاضل وتحسين خلف في عقله وروحه فراغا شاسعا .
* رجل صلب .
* لا .. انه طفل .. انه يبكي على صدري وينتفض مثل جواد يتوق للجري والمغامرة ... انه يحتاج الى حاتم .
* وانا اتمنى ان اراك يامنال .
* اسكنوا هنا .. قربنا ، توجد بيوت بسعر زهيد يوجد بيت ملاصق لنا .. ارجوك اقنعي حاتم ان تسكنا هنا .
* ان اقنعته فمن يقنعني ان اترك بناتي هناك .
* كلاكما مجنون ، انت وهو ، والله انت مخبولة ، والولد يرفس في بطنك وانت تركبين البحار في اقاصي بغداد لأصلاح الكون ، اذهبي لا اريدك .
بدت منال على سجيتها التي اعرفها منذ يوم زفافها ، مجرد صبية وديعة ، جاءت من سامراء وحملت معها شجنا قديما وولعا بالنهر والجسر وصيد السمك حيث كانت اسرتها من الصيادين الذين توارثوا المهنة ، ولذا اسخر منها , ان فيها بلادة الصياد الذي ينتظر سمكا فلا يجني غير الضفادع .. منال .. في بياضها المشرب بالحمرة ، سيدة بهية ، لم يزدها الانجاب الا فتنة وعذوبة ، تمتزج كلها بطيبة فريدة ، ترتدي اي شيء فتبدو ساحرة .. شفتاها مزمومتان وعيناها عسليتان ، وكفاها مثل كفي طفلة .
* اعلم ما تقولين مع نفسك . بائعة سمك لا تصطاد الا الضفادع ، ولو ارتديت خرقة قماش فأنت فاتنة .
* يامكروهة ياخبيثة وكيف قرأت افكاري ؟...
* لانك مملة .
اضربها بما اوتيت من قوة ، ونتعارك والأولاد يضحكون ، ثم ننغمر في الضحك .
اتكلم جديا .. قولي لحاتم ان ينصحه... ان يتحرك .. ويترك ما هو فيه ، الدنيا صعبة وهو مشغول بالكتلة وبالكلام في السياسة ..الدنيا مخيفة والجيران يتنصتون والمفارز في كل مكان وانا خائفة ، ما حصل لفاضل وتحسين جعلني اعيش في رعب وبين يوم وآخر اتخيل رجالا غلاظا يحطمون باب المنزل في منتصف الليل وياخذونه .
كانت شمس النهار قد تسللت الى باحة الدار ، الى الغرفتين المتقابلتين للمنزل ، وثمة بقع ذهبية تطرز الجدران الحائلة المتهالكة ... جلبت منال الشاي ثم الكعك والفستق والزبيب والتين المجفف ، وكما هي عادتها لا تترك شيئا من مدخراتها العجيبة الا وقدمته لنا وسط دهشة اولادها المعتادين على شبه تقشف وان هذه الاطعمة لا تخرج الا في الاعياد . تركت الكيس الذي يحتوي ثوبا ورديا لمنال وبلوزة زرقاء واشياء لأولادها عندما كنت اعطيها الكيس وأهم بالخروج تتشبث بيدي كالغريقة:
* اسمعي .. ربما عدنا انا وحاتم ، انا لوحدي ، حاتم لوحده , كي نحتل حجرة الضيوف لبعض الوقت .. هنالك قلق ...مرددة .. همست في اذنها تلك الكلمات فتشبثت بي .. واحتضنتني مرددة (اشعر بآلام في صدري .. والانقباض لا يفارقني ) ..
كانت الكتلة عالما سريا ، اذ لم اصدق ان تلك الكتلة من الزوجات الطيبات والشيوخ والعجائز المسالمة هم اعضاء الكتلة .. كل هذه العفوية وفطرة الناس هي الكتلة , لم يكن هنالك شر ولا طمع ولا كراهية ولا انانية ولا نفاق ، كانت الكتلة نبضا آدميا من رحم بغداد ، خرجنا الى فضاء المدينة ، كان شارع حيفا قد انتشر فيه باعة نشروا بضائعهم على الارصفة ، شباب وكهول ونساء ملفعات بالسواد . جمعهم الدولار في هبوطه والدينار في صعوده... كلام خليط وتعليقات شتى خلاصته ( مشى النفط ) كان النفط محتبسا الا بقرار اممي , ولذا كان الناس اشبه بجوقة كبيرة تردد اخبار الليل ، وتتداول بلا انقطاع ما يطرأ على العملة من صعود وهبوط . كان هنالك باعة عملة يلوحون بأشارة من اصابعهم للدلالة على التصريف ، باعة حذرون ، مطوقون بعيون راصدة خوفا من مداهمة الأمن الاقتصادي .. الاخطبوط الهائل كان قد اطبق على الأسواق وتكاثر تجار مجهولون ، هم اقرب الى الاشباح يحتكرون الحقيقة وحدهم .. حقيقة العملة التي لا يقر لها قرار صعودا وهبوطا . كان هذا الشقاء قد تغلغل في اعصاب الناس ولا وعيهم وتحولت ملاحقة اطوار السوق والأسعار الى شقاء مرير بينما كان هنالك اناس يطاردون عصابات شابة تحتكر سرقة عجلات السيارات . كانت الحركة في المدينة مرتبطة بتجارة اطارات مستهلكة ، وبقلق مالكي السيارات ليس على سياراتهم المعرضة للنهب بل الى الاطارات التي تلتهمها الشوارع المحطمة.
مررنا انا وحاتم بمدينة خرج اهلوها الى الشوراع لبيع اي شيء وكل شيء فقد ( مشى النفط) ،ومع مشيه فقد مشى السوق ومشت احوال الناس .. كان مهرجانا للتصارخ والصياح والتعليقات الفجة والمجانية ... كان هنالك قلق مكبوت لما ستؤول اليه اوضاع الناس ..
اشترى حاتم قبعة ونظارة سوداء وتنكر تماما فيما اشتريت انا غطاء جديدا للرأس ..قطعة قماش جميلة موردة ثم اشتريت اخرى واخرى واشياء عديدة ونحن نمارس تلك الغواية .. في الباب الشرقي وزعوا البيان : انها الحكمة والشجاعة والبسالة وانتصار الحق على الباطل .. صعد الدينار وخسف الله الدولار... كان المذيع يحكي قصة موازية عن الفقرة 22 من القرار الأممي 687 وقصة الحصار وكلام الوزيرة مادلين اولبرايت ثم دقت ساعة بك بن وقال المذيع والسيارة في طريقها الى جسر ديالى : ( منذ استعادة القوة البوسنية المتحالفة مع الكرواتيين في بداية الشهر الماضي نحو 15 كيلو مترا من الصرب وسيطرت على طريقين لدخول العاصمة سراييفو المحاصرة منذ نيسان 1992 ظل السؤال يتردد ( متى يشن الصديق كراديتش هجومه المعاكس ؟ يذكر ان مصداقية الأمم المتحدة اصبحت على المحك لأنها وجدت نفسها في حرج امام اجتياح سربنيتشا من قبل الصرب حيث اخفقت في اجبارهم على الانسحاب من المنطقة الآمنة ورددت الاخبار قول زعيم صرب البوسنة و اصراره ( نحن لم نخطئ... انها ارضنا ولن ننسحب منها...وعاد الفرع للأصل .. وسيكتب التاريخ ما فعلناه بحروف من نور ) حارس سلاديتش رئيس وزراء البوسنة علق ( من الواضح ان ماقام به الصرب قد حظي برضا الأمم المتحدة ( ..
44 الف نزحوا الى توزلا بينما بقيت مدينة غورازدي المطلة على نهر درينا آمنة من الاجتياح .. و,, ساعتين من المرح المتواصل ..
توقفت السيارة عند اشارة ضوئية لاح خلفها ملصق ضخم حول المسرحية ( مدينة عجب ) ولاحت صور غجريات وراقصات ووجوه ممثلين باوضاع مزرية .. وتحدث الراكب الجالس ورائي عن سيرة الغجرية بطلة المسرحية وتحدث المذيع عن الغجر الذين هاجروا من توزلا بسبب الحرب وصرخ السائق : الحاصل هل نحن مع الصرب ام مع البوسنة ؟
فأجابه رجل كهل الأمة كلها مع البوسنة والحكومة مع الصرب ضد البوسنة هل فهمت ؟
مرت القافلة بحشد من باعة اللحوم ، كانت هنالك على امتداد الطريق اغنام معلقة والقصابون ينادون على المشترين : ( مشى النفط آن وقت التهام اللحوم) ...
هبط سعر الماشية ، وقال المذيع ان الاجتماعات متواصلة بين شيراك وهلموت كول وجون ميجر وانها مشكلة اوربية تسمى ( الالتهاب الدماغي الاسفنجي ) وينتقل الى الانسان عبر استهلاك لحوم الأبقار البريطانية ولأن حكومة ميجر مقبلة على انتخابات صعبة فأن اتخاذ اجراء صارم سيلحق ضررا بمصالح الفلاحين ولضعف فرصة ميجر بالفوز بعد ما اصيب حوالي 3 ملايين رأس بالجنون تفوق اعمارها 30 شهرا اي نحو ربع قطعان بريطانيا واتلفت بريطانيا 700 الف رأس سنويا بمعدل 15 الف رأس اسبوعيا .
* صاح السائق سلامة رؤسكم
فاجابه احدهم لا رأس بعد الآن معصوما من جنون الدولار يارجل .
جاء صوت الجوقة من الخلف : اذهبوا للمستشفيات فهناك الرؤس تذهب بلا سبب .. لا دواء .
همس اخر : الوجبة الاخيرة من سجن ابو غريب لا يعرف عدد رؤوسها...
كان الذي يجلس بجانبي قد منح صفة ( فائض ) عن حاجة مؤسسته قال ان معه ما يقرب من 200 رأس تم القوا الى الشارع ، وعليهم ان يعملوا في مؤسسات نائية . كان رجلا في منتصف الخمسينات وأكد انه مازال شابا لكنه عجز عن التوسط ولهذا ضاع , قال : ان رأسي يدور منذ الصباح , الشوارع مجنونة , النفط مشى , الدينار صاعد , ومع هذا يطيحون برؤوسنا , الدولة ليست في حاجة لنا انا عائد الى بيتي سأنام .. هذا افضل... ضغطي صاعد , انني حائر , القصة معروفة : الطعام اولا ، الراتب لا يكفي لربع الشهر ، وانا فائض , رقم زائد , كنت محاربا شجاعا في الحرب وسيرتي مكتوبة عندهم لم اتغيب يوما ومع هذا ركلوني مثل حاجة زائدة .
اقتربنا من حشد من الناس . كانت هنالك نساء تتصارخ ورجال يتراكضون وسيارات حديثة تملأ المكان .. وثمة هتاف وتصفيق وقال المذيع ان الرئيس يعاني اليوم سلسلة من الفضائح فبعد فضيحته مع المغنية ( جنيفر فلاورز ) قامت هذه بنشر وقائع علاقتها بالرئيس في كتاب بعنوان ( الشهوة والخيانة ) كشفت عن تعاطي الرئيس الحشيشة اثناء علاقتهما ثم اقامت ( بولا جونز ) دعوى قضائية ضد الرئيس بتهمة التحرش الجنسي ايام كان حاكما لولاية اركنساس .. اما قصة الاخير مع مونيكا ....
توقفت السيارة ونزلنا جميعا في شبه تظاهرة صغيرة وفوجئت بصوت الموظف الذي ادرج ضمن الفائضين ، كان مخنوقا ومعذبا : لا ادري ما افعل .. ارجوك ادع الله من اجلي .
الطريق ذاتها , عبور الجسر ، اشجار النخيل العطشى , البيوت الواطئة اكشاك باعة السجائر ثم عطفة دور العمال ويلوح البيت الجاثم في الصمت .. صمت الغرباء الذين يمثلهم .. ونعيش ايامهم ، عادت الى ذهني صور متلاحقة لعمتي ، وقبلة حاتم وعناقه الاخير ,منال ، زقاق الشواكة . وجوه الملوك والوزراء . ملامح أبي التي لم ارها , وجوه متراصة متداخلة يرافقها ضجيج الحيوانات المنحورة على الطرق بعدما مشى النفط ، ضجيج الانهيار الوشيك ، ضجيج العالم حول جنون البقر ، الفضائح ورائحة النفط .. ثم مروحيات الأنموفيك البيض وقد عادت لتحلق في سماء جسر ديالى . وجدت الطريق الى بيت النساء وقد توزع فيه المفتشون سحناتهم الأوربية وقبعاتهم والانزعاج من شمس العراق ، كانوا يحملون اجهزة ومجسات وثمة محطة بلواقط موجهة باتجاه القمر الصناعي ، بينما مجموعة تعمل على حواسيب ومكائن للبحث عن اسلحة التدمير الشامل ، كانوا يشكلون فرقا وخلايا ,تحفهم ثلة من الحراس الاشداء وطواقم الشرطة المحلية كان هنالك انهماك في عمل مهم
..................
الناشر : دار دونكيشوت - اسبانيا ودار عين الزهور -دمشق 2006 .