Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل الأول

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل الأول

" لكي تلمسهم السماء دون ان تتسخ..... تضع قفازات في يديها ..... "

كوكتو

# ينفتح المشهد على الناس في تلك الأرض , في تلك البقعة المجتزأة , من الحياة , الشارع بين المتحف والسينما هو شريحة صغيرة مما حل بالبلاد , دكاكين مهجورة وازقة مقفرة , وليس غير عابرين غرباء , وفلول من الحراس الذين يمرون في لمح البصر ويختفون , لم تكن الاطلالة على المكان لتوفر غير بقايا اصوات وليس غير خبراء المتحف والباحثين فيه وقد احكموا اغلاقه وانطلقوا مختبئين في بيوتهم او انهم نزحوا بعيدا عن بغداد .
تتابعت الواجهات المغلقة , واجهات المطاعم والدكاكين, المقاهي الصغيرة , محلات رتق الملابس وباعة الخردة وباعة الأواني المعدنية والسلاسل والعدد اليدوية وعدد الزراعة .... احتشدت كل هذه الصور في آخر سلسلة من اللقطات التي انجزها حاتم على سطح شاشة العرض في جهاز المفيولا , واغمض عينين حجريتين حيث لم يبق له الا المفيولا , اذ لم يعد يعلم شيئا عن الآخرين , ماذا حل بهم , هل نزحوا وتركوا ديارهم ؟ , هل هم مختفون في اماكن آمنة ؟
كان الناس هنا , مقيمون تحت حديد المفيولا , بين تروسها وعجلاتها , ينبضون بالحياة ويندمجون بالشخصيات الهزلية , كانت المفيولا امتدادا للمتحف العتيق , بل كانت ثمة وشيجة ما بين انتصابها بمحاذاة الجدار , وبين اطلال المتحف التي تلوح عبر النافذة ... وحيث ابواب السينما مغلقة .
لم يعد آ نذاك وعي بالزمن , في ليل او نهار , فالشارع مقفر كعادته الا من فلول بشرية متناثرة , غرباء , مقطوعون , مشردين , واما هو فلا ينتمي لذلك الحوار مع المفيولا واطلال المتحف وجهاز العرض والبستان .
كان الشارع قد عصفت به امواج من الرجال الغلاظ الذين قد ظمنوا الأمان في المكان وخبأوا فيه اشياء غير معروفة ثم اختفوا .
ولهذا بدأ ثقل الحالة يزداد شيئا فشيئا , ولابد من اخلاء هذا الكائن الحديدي . . سينقل في وضح النهار او حتى في ساعة من ليل .. وماذا عن الغرباء والتفتيش والرصد ؟
بالنسبة له كان في تلك الأزمنة منقطعا عن تاريخه الآني , كان العامل القصير البدين قد حضر فجأة وهو يقضم قطعة من الكعك , جلس صامتا قبالة حاتم منتظرا ان يأمره بشيء ما , كانت هنالك ساعات فاصلة , فراغ هائل ليس غير ساعات وينفذون تهديدهم . . كل شيء مهدد بالرد ... وثمة نزعة للأنتقام ..
دارت عجلات المفيولا وتروسها , وضخت صور عهود العراق وساسته , ولم يكن ذلك العامل الصغير الا شبيها بتلك الكائنات العتيقة التي تسخن تدريجيا , وكلما ضخت الشاشات صورا يبدأ هو بالأنين ثم الأنتحاب , وكلما ظهرت صورة ملك او وزير او صعلوك يشرع بالنحيب , كان كائنا معطلا مكلفا بتشغيل الآلة , كائنا قصيرا لايعرف عمره تحديدا ولا من اي جيل . يتذكر ماضي البلاد وصور الملك والوزراء والعهد الجمهوري فيما يبدو في بساطة مجرد كائن غر من تلك الكائنات المعزولة قليلة النمو , الكائنات التي شربت سموما من مخلفات الحروب وتلقت اشعاعات ما فتوقف نموها ولذا كان هو امتدادا لجيل من قصار القامة والأقزام الذين بدأوا يتكاثرون في سائر المدن .
كان هنالك ضجيج لأناشيد وقصص حماسية وخطب مدوية وقرارات اممية بينما كان حاتم وذلك الكائن الصغير يهيؤن المفيولا للسفر الى المجهول , خطاب الى الأمة , الدوتشي الكبير .. تم ..تتم ..تم تتم ...الطبول تقرع وابواق وحرس الشرف والموسيقى والأستعراض والتهديد.. وسفر المفيولا الى المجهول .
......

لأن القصة كانت افتراضا منا , ان هذا الفصامي , خلف وراءه ذكرى امرأة , ظلالا من مدينة تحفها الأشباح في هذه الساعة من الليل , قررنا الخروج عند الفجر , كانت خرافة هائلة ان نتخذ الطريق الى جسر ديالى وننعطف باتجاه دساكر قفر لنبحث عن دفاتر ارملة تشبه نساء القوقاز , امرأة ذابت وسط الحشد , وهي ليست غير زوجة حاتم ونحن كتلة الصحبة الأفتراضية التي تبحث عنه , عن حاتم .. لايمكن لذاكرتها ان تعبر على غيهب هذا الأستلاب ابدا , ستتذكرنا واحدا واحدا بالأخص في تلك الليلة التي اقمنا فيها اعراسا طائشة لزفاف حاتم وليلى , تهويمات ورقية , على دفاتر افلام كتبناها , وافترضنا ان العابرين السعيدين سيخلفان نسلا مشرقا وذرية مفعمة بالحياة .
اقامت ليلى فردوسا ارضيا لنساء خائفات , محفلاً للأرامل , ارامل الحروب وسائر اساليب قنص الأزواج في موازاة تلك الحملة التي خربت العائلات وقنصت الشباب .. هو دستور ضمني اكتشفته ليلى وطالما دافعت عن الفكرة بأختصار وحزم لكنها كانت تتقهقر في كل مرة وتنزوي الى فلاة غائمة ... اختفت آثار الرجال سوى حاتم زوج السيدة الذي كان يوصلها للمبنى ويعود معها ومع كل عودة كانت تتقدم سريعا للألتحام بذلك الكوكب الأنثوي البعيد تكرس نفسها لدراسة الحالات حتى تحول المكان الى صومعة مراجعات للكيفيات , كيفيات اختفاء الأزواج والذكور عموما في سياق القنص الثوري والمهام الوطنية للقضاء على الأنوثة بواسطة الأنقضاض على الذكورة لهذا كان حاتم عندها حالة تائهة لاتنتمي لتلك المهام الوطنية رغم انها غير عاجزة عن فهمها ..كان منشغلا بلصق اللقطات الأخيرة للفيلم فيما كانت ليلى تلصق المزيد من الصور النسائية على جدار محفل الأرامل .
على ان كلاما افتراضيا اكتشفناه وكان نوعا من القصيد البربري وقد اصبح لغة لتحاور الأمة عبر اذاعاتها ...افواج الحراسات .. البدو الذين يتكتلون خلف المتاريس يترنمون بالقصيد ويمزقون بقايا الكلمات .
كان القصيد البربري دساتير افتراضةً من المهم التصديق بها والتسليم بتهويماتها والرضا الصامت بفقراتها العاملة , كان قصيدا فريدا ظهر فجأة مثل نبات الفطر في برار موحشة , نوع من المقاطع المهجنة لأفكار اناس مجهولين ماانفكوا وهم يكتبون مزيدا ومزيدا , مطولات ساخنة وغرائبية مطولات جرى تلحينها وتلوينها واطلاقها بقوة وبثها بين سواد الناس , كان القصيد البربري ترنيمة بالغة الشيوع بدائل تقترب من الطلاسم الشافية لأوجاع السيدات اللائي يتكأكأن من حول ليلى ... طلاسم فريدة جرى طبعها بعناية من اجل مصلحة هؤلاء .. المطولات الحاسمة التي جرى دمجها بالذاكرة المنطفئة والذات الخاوية , كانت ملحا مرا اضيف الى طعام الصعاليك , ذلك الفصيل الضال الذي كانت نواته ( حاتم ) ثم امرأته , طعام اولئك الواقفين في اقصى التيه , بعيدا تماما عن ادراكنا الجامد للقصة كلها تلك الأسطورة , اسطورة التهميش وفتات الكلام .

.......


بالنسبة لحاتم كانت ( المفيولا ) العتيقة ماكنة انجليزية لمونتاج الأفلام , نوع ستنغر برنت ماكنة مجهولة عليها تواريخ وعلامات , اشكال نسور وغيلان مجنحة , كان هنالك ختم امبراطوري وعلمين متقاطعين وكان هنالك منشور يشرح الكيفية التي تشغل فيها الماكنة .
المشكلة الكامنة هنا هي في ظهور الوجوه في لقطات قريبة متتابعة تملأ الشاشة المفيولا وهذه مسألة استثنائية على الشاشة ان تظهر كل الصور مكبرة هكذا ... جرب حاتم اي ( نيجتيف ) , اية مسودة , لصورة من الصور التي اراد بها اختبار قدرتها على التمييز بين لقطات الوجوه ولقطات المجاميع والحشود , امتدت محاولته الظهيرة بطولها , بذلك الفضاء الحامي , الظهيرة القائظة من اصياف بغداد , اذ كان المكان محاذيا لمبنى يخفي الثراء خلف جدرانه , اخلي وحملت الذاكرة الكومبيوترية في صناديق وشحنت في ليل بينما كان حاتم منشغلا بالمفيولا وكانت دلال تشهد كيف انتهك دار الأرامل مرارا.
ليلى في زمن اخلاء المبنى ... بالذاكرة الكومبيوترية ونقل الصناديق الى جهة ما مجهولة ثم زمن ليلى وهي محاصرة في قبو خانق مليء بالأضابير والعفن , وهي تشهد كيف اعتصارت ولم تكن تشهد سوى بساطيل العسكر وفحيح القصيد البربري الذي عاد الى رأسها اناشيد حماسية ومارشات عسكرية و... نساء مستسلمات للقدر الساطع . في مرحلة حاتم والمفيولا كانت الأمة بالكاد تلتئم في المؤتمر , وكان هو يتابع النيجتيف عندما شتم الحكام بعضهم بعضا , وانتفض بعضهم للأنقضاض على بعض , وانتفخت اوداجهم على الشاشات واشبعوا بعضهم بعضا كلمات شتائمية رئاسية فريدة : انسحب من ال ( ك ...) ياصاح والا ...... انسحب .. انسحب ...
لم يضحك حاتم على ماصار وماكان , لكنه عاد الى صور الطبيعة , كان عابرا جسر ديالى , بلا هدف , سوى الخلاص من القلق , في عبور يومي تكرر سابقا , ما جرى , انه بعد الغيبوبة الأخيرة , نهب بستان العائلة واحتله اولاد يبتاعون الخردة ونساء قاسيات , الأولاد مسلحون بالمدى , والنساء مسلحات بالشعر الشعبي , والأهازيج , وكلما مر بهم اكدوا ان الحق قد عاد لأصحابه . كان مصادفة قد اصبح رجلا مسؤولا عن الموروث العائلي الممثل في بستان العائلة , ولكن حجته كانت تتبخر , وكلماته تتلجلج بلاشيء في ظل القصيد البربري الذي كان قد تحول الى لازمة مفحمة لاقبل له بها وفي وقت بدأت اسرة الأقزام بالتكون وما وجدت في غير بستان الدرويش ملاذا .

يذكر حاتم ان الجهاز اصبح محمولا على عربة , مرت على حجر الطريق المؤدي الى المتحف , كانت عربة تحمل توابيت وتنتقل بين مقبرة الشيخ معروف ومشرحةالطب العدلي , لكن المصادفة وحدها قادته في سياق بحثه عن واسطة نقل الى عربة التوابيت التي حمل على ظهرها شيوخ وأثرياء وأباطرة وصعاليك ,اذ تساوت في سورة الموت الفجائي قيمة القوم ومراتبهم , حيث كانت عربة التوابيت تنتظرهم , تحتكر نقلهم عبر جسر باب المعظم , راح الحوذي يردد نبذة من القصيد البربري الذي في الآونة الأخيرة , عدلت قوافيه , وكان الحوار يتقطع مع لقطات لخرائب تربط منطقة الميدان بباب المعظم لأن فيها دروبا غير خاضعة للدوريات في ذلك الوقت.. وفي ذلك الوقت كان الحوذي قد اطل بأسماله عبر باب خشبي متشقق مؤكدا انه منذ الواقعة وحتى الساعة نقل الف حالة .. هو لن يسميها جثثا ولا قتلى ولا اشخاصا بل حالات لأنه يحفظ قصص كل نقلة من النقلات ولا يتوانى عن شرحها وتدوينها في مقاطع مرتبطة تماما بقصيد البرابرة .
العابرون من امام وزارة الدفاع القديمة رأوه , بعربته القديمة , واسماله البالية ولحيته الكثة , والعابرون كلهم رأوا حاتم وهو يحاول اقناعه ان يتخلى عن نقل الحالات وينهمك في نقل المفيولا .. راح يسأل عنها , ماهي , ماتكون , ماكنة نجارة او خراطة او لحام , او ماكنة سيارة او ..., وراح يعد انواع المكائن التي تعامل بها طيلة حياته , واما قصة المفيولا فهي قصة مرتبطة بصور الحالات على الشاشة , روى له قصصا درامية خرجت من رحم المفيولا , لعبة الظل والضوء , الأرهاصات والشاعرية , وكلاما فارغا .. لكنه كان ساهما , عندما ردد بلا ترتيب كلمات مفادها ان الدراما التي نعيشها هي ابلغ من اية دراما .
( لم يكن يعنيني الخوض في تراجيديا القصيد البربري , الذي كنا على وشك السقوط في مشتقاته العاصفة , لكنني كنت اريد ان اقنعه بالمفيولا , وحاولت ترطيب ذاكرته ومحو آثار الحرب , بأن المفيولا ليست ماكنة حربية ولا جسما صاروخيا ولا ماكنة مسروقة , لا... لا ... صدقني هي امرأتي الثانية.

......

ربما كان حاتم شاهدا على النظام العروضي للقصيد البربري وهو في هذا لاينفي كون القصيد بري تماما , وهذا هو اول تخريج ساذج لقصة انشاء ذلك المد المتدفق الذي فرض على الملة , كتبت معلقاته على جدران المؤسسات , وردده الأولاد في المدارس صبحا وعصرا وذكرهم به التلفاز الحكومي ليلا , كان مثل تعويذة سحرية , اذا ما اجدت حفظه وترديده عن ظهر قلب فستظهر لك عجائب لاقبل لك بها , حتى شاع بين الناس وصار حلم ثلة من الفقراء والمعدمين , ان يتقنوه ويمتلكوا العجائب والسحر خلاصا من الفقر والأحزان لكن فئة فريدة في ذكائها كانت قد صارت هي روح القصيد ونافذته .

............


تأمل حاتم الوثيقة التي عثر عليها وفيها الوقائع... وقائع تسجيل البستان تسجيلا عقاريا ممهورا بأختام وامضاءات وشهادات شهود , كانت صحائف الملكية تحكي قصة ازمنة تقيس الأرض بمقاييس لاعلاقة لها بالمتر والكيلومتر ولا بالميل ولا اجزائهما , كان البستان هبة هبطت على السلالة الحاتمية في زمن اقفرت فيه الدنيا واجدبت . جلس هو بمحاذاة كهل , انشغل بأطلاق لسانه مرارا لترطيب ورقة التبغ استعدادا لتعميرها وتعفير المكان بعفونة الدخان , كهل بدا مثل سلطان قديم , لحيته مشذبة والخواتم تتوزع على اصابع يديه , شارباه صاعدان الى اعلى وعمامة بسيطة حسنة الترتيب تستقر على رأسه وحزام من القماش الأخضر يزنر وسطه , (واقعيا كنت ابحث في سحنته عن نفسي , واحاول ان اقترب من الشيخ , لا ادري كيف هو يشبه ابي , الأب الذي لم تبصره عيناي , تمنيت لو اصبح صديقا له , تمنيت لو صحبته في جولة , تمنيت لو جلست معه في ركن مقهى , تمنيت لو شرحت له قصة المفيولا , ووظائفها , وقدمت له عرضا فيلميا عليها , لكنني صحوت على زمجرة صوته , وهو يدمدم ويغمس اصابع كفه اليمنى في المرق والرز ,. وهو يمزق اللحم ويفتته ويشرب اللبن مرارا , كنت اسهر على خدمته ولهذا وجدت في هذه الوظيفة مساحة للخروج من الحالة , للخروج من عملية التهام الطعام وانا غير جائع .. كانت خريطة البستان مثل خريطة المدينة المدورة , ثمة رموز وارقام وثمة مربعات ودوائر وثمة اطار مستطيل وثمة نقوش زخرفية وثمة اسم دلالة وثم ختم لم اتبين منه الا ( اعتمادي على الله) ويبدو ان اسطورة البستان ستشبه الى حد ما اسطورة اولئك القوم الذين سادوا ثم بادوا , ففي الأقل كان البستان فيما هو عليه يحتل مساحة القلب من بيوت السادة الأكارم ابتداءً من قاضي القضاة وانتهاءً بالحاكم وبين ذلك ثلة من الشرطة والحراس ورجالات البلاط ومجموعة من ممتهني الطاعة المطلقة والولاء اللامحدود للباب العالي .
واقعيا ثبت ان تلك الأقطاعية مسجلة في اماكن اخرى بمعنى ان وثيقة التملك هي قاسم مشترك بين امم واقوام نجهلهم , لأن سقوط دويلات المدن والأقاليم تباعا قد رافقه ترحيل الوثائق كلها وبما فيها وثائق التملك وذلك في اطار حمل الصناديق الى ماوراء البحار حتى لوضمت الصناديق وثيقة او( حجة ) لذلك البستان . والقصة لاتتوقف عند حد التكهن في مسألة ذهاب الورقة , بل في ترجمتها الى التركية وغيرها , وحتى ان خروج الناس الى السفربرلك قد جلب معه امورا عجيبة حيث حمل ضباط الباب العالي وباشواته وصفا كاملا لأوضاع الناس حيث تقيم والعشائر وانتشارها وممتلكاتها وذلك من باب رسم صورة شاملة للواقع المعيش بما ينطوي عليه من تحشيد المزيد من شباب ذلك العصر الى الجهادية في السفر برلك .
وكان الخوض في المسألة قد اخذ مسارا جديدا لدى الشيخ الذي بدا اشبه بعراف صامت , يجلس على دكة مرتفعة قليلا ويروي تلك الوقائع المجهولة حول اوضاع هذه الأراضي وعائديتها وتاريخها , واقعيا كان البستان ملاذا عجيبا لمزارعين صغار ... هذا في الجزء الجنوبي منه الذي يقابل امتداد نهر دجلة , وكان هؤلاء المزارعون صغارا حقا , وحقيقة هم لم يكونوا على هذه الدرجة من قصر القامة ولكن موجة السأم والأذلال قد ضغطت على قاماتهم بالتدريج حتى وصلنا الى آخر السلالة من قصار القامة فهم اسرة من الأقزام الذين توارثوا هذه الأشكال والملامح كابرا عن كابر , ووجدوا في نوع الزراعة التي يمارسونها ملاذا آخر لهم , فهم يعنون بزراعة الخضار التي لاترتفع اكثر من شبر واحد عن الأرض , ووجدوا في هذه الزراعة بديلا لمهن لاتجلب لهم الا الشقاء .. كانوا يتوزعون في المكان , مثل اقطاب للسيطرة على المربع الذي لايخرجون عنه, والكوخ الصغير الذي صار ملاذهم , وكان احدهم يسهر على تعليم اقزام آخرين صغارا في سن المدرسة , لكن المشكلة كانت في كيفية ذهابهم الى المدرسة وعودتهم بسلام .. لذا وجد احد الأعمام بديلا مقترحا بتعليم الصغار في مدرسة في الهواء الطلق وهو ماكان .. وترتب على ذلك نجاحا ملحوظا لأولئك الصغار في القدرة على فك مغاليق اللغة وقراءة الحروف .
كان هذا كله سببا كافيا لهؤلاء القوم ان يعيشوا طقوسهم الخاصة .. كانوا يطلقون النذور والشموع وباقات ا لآس والبخور على سطح نهر دجلة المقابل ... وفي غروب خريفي من كل عام يحتفلون بذكرى مجهولة ترتبط بأرواح زارتهم في كوخهم الصغير ... شاهدوها جميعا ولكنهم اختلفوا في روايتها , فمنهم من قال انها كائنات نورانية قصيرة القامة مثلهم تماما , ومنهم من فند هذا وقال انهم بقايا سلالة العماليق الذين يسكنون قيعان الأنهار , وقيل ان اكثر من كائن زائر كانت له زعانف مثل سمكة النهر , ولأن الموضوع قد تشعب , ولأن كثيرا من الناس قد سخروا من رواية الأقزام , لهذا كله آثرت الأسرة التكتم على الواقعة , والتعبير عنها في تلك الطقوس التي يراد منها اتقاء خطر اولئك الزائرين او غضبهم والتماس رضاهم وقبولهم ودعائهم .. ولهذا كان يوم ( الوفادة ) وهو اسم اطلقوه على تلك المناسبة , كان يوما حافلا , يوسع فيه الأقزام على انفسهم ويتوقفون عن العمل , ويتركون الحمار الصغير الذي يمتلكونه يجول في الزرع ويلتهم مايشاء بحرية وكذلك الحال مع الدجاج والبط والجراء الصغيرة والأرانب والقطط ...كلها تلتقي في مكان واحد ومناسبة سعيدة واحدة ... تختلط تلك الكائنات ببعضها بسلام , بينما ينشغل الأقزام بأعداد النذور والمباخر وطهي الطعام , ثم يتسللون في طابور عبر الطريق الرئيس حيث ينحدرون من التلة المقابلة الى ضفاف دجلة وحيث يسلمون على الساكنين دجلة وعلى مائه وقاعه وضيوفه , ويرمون القلائد وباقات الآس والخضاب والشموع , كلها تطفو على صوان من خوص النخيل وتأخذ مسارها الى حيث تختفي عند انتصاف النهر وعندها يتأكد الأقزام ان نذورهم قد وصلت فيغسلون وجوههم بالماء ويقفلون عائدين وكأن شيئا لم يكن اذ اصبح بستان الدرويش ملاذهم الأخير , وصار حاتم مجرد زائر غريب ..).
.............

غواية قديمة لفت كيان سعاد , نزيلة محفل النساء , المحفل الجاثم بجوار المصحة القديمة , هي تعرف حاتم نوعا ما , وترتبط بليلى بصلة حميمة , وهاهو الشارع المؤدي لمحفل النساء مقفر وهي تطل بعينين زجاجيتين , وقد ابتلت النوافذ , او هو الضباب , لكنه هنا , ثم نبض ما في مكان ما من كيانها ، حملها الأزلي الذي بقي مثل نطفة ازلية موارة تشتعل في داخلها , نطفة كامنة , تريد او لاتريد ان تتحول الى مضغة فعلقة , لأن اسمه هناك , منقوش على تلكم النطفة الأفتراضية , تتجمع في فضائها في تلك اللحظة , تفاصيل رجل ما , وامرأة ما , كلاهما كان يقاسمها جزءا من لحظتها .
وجدت مصادفة فتاة صغيرة هاربة , مشردة وحيدة , حلت على عالمها في نهار بارد , كانت بغداد يومها تعيش فصلا آخر من فصول احتقاناتها , قصفت اماكن ما بصواريخ توماهوك وخرجت نسوة للتظاهر ضد الحصار وقوى العدوان او هكذا قيل , شاهدت ذلك وهي تقود الصبية هاربة من سوق الخضار بعد ان طوق المكان بجحافل المتظاهرين الغاضبين ومن خلفهم تتكدس القوات الخاصة والأستخبارات , وهي تجري في هباء شتائي , تقود كائنا متراخيا هزيلا , الفتاة الصغيرة التي تتبعها مثل نعجة مطيعة , تجري معها في ازقة ( الفضل ) وتتداخل حتى ( ابو سيفين ) , لتطلع الى فضاء فسيح خال من الأحتقان والحرب , اخرجت رغيفا وجبنة وتمرا , وافطرتا معا , التهمتا الطعام سريعا دون ان تتطلعا لوجهيهما , وبعدها تبولت الفتاة عند جدار قريب وكانت هي ترقب في البعيد سراب رجال يحملون مدافع رمادية , وبدوا مثل اسراب طيور ابتلعهم نهار بغداد الكابي في ذلك اليوم .

حثت الفتاة على السير سريعا , ولا تدري لم كبرت في رأسها فكرة خطفهما ...ولكنها برهة من زمن اذ لاح رجال يفترشون اشياء يبدو انهم يوزعونها فيما بينهم , ولهذا انحرفت بعيدا عندما جلجل صوت الشرطي طالبا منها ان تقف , اسرعت خطاها وحثت الفتاة , وتراكظتا وهما تسمعان خطوات الشرطي تتلاحق في اثرهما , تعثرتا بكتل حجارة وحصى ولاحت اذيال بغداد هامدة لاتلوي على شيء .. وفي خفقة سريعة وجدتا نفسيهما بمحاذاة طريق سريع يحميه سياج مشبك ..ولاذتا سريعا بمطعم شعبي ريثما مر موكب الشرطة ...كانت قلقة واما الفتاة فقد بكت في صمت . نظرت اليها لأول مرة , وحملقت في عينيها , احاطت الوجه بكفين راعشتين وأطبقت على الفم ... ومسحت العينين اللوزيتين , وبحركة من اصبعها اشرت للفتاة : بعد الآن لابكاء .. اش...اش...
واستسلمت الفتاة مع احساسها بهلع يجتاح روحها الصافية ..
شربتا الماء وخرجتا , طوابير طلاب جامعيين يهتفون وبعضهم يصرخ ويشتم وآخرون حملوا لافتات وصورا فوتوغرافية ومضت وسط الحشد...وشاركتهم في التصفيق دونما سبب , وانفرجت اسارير الفتاة الصغيرة , حتى اذا بلغ الحشد منعطف المستنصرية كان هنالك اناس بملابس بنية داكنة يدققون في بطاقات هوية الداخلين الى المهرجان ...

ياه .. تلك كانت لحظة ولادة الفتاة , ولادتها في عالمها ... نشوبها مثل نبات بري في حياة رتيبة ... الخلاصة انها ولدت في مهرجان , ومنذ ذاك اللقاء ... تتابعت صور الشرطة والمخبرين ... واسئلة المختارين وكتاب التقارير حول : من تكون تلك الفتاة , ما هويتها ...من هو ابوها ؟ من هي اسرتها ؟ وسعاد لما تتزوج بعد ولم يعرف لها بيت ولا اسرة .
شعرت يومها ان العالم يلاحقها هي وريمة .. ولذا كان محفل النساء ملاذا او منفى لتلك الأحاسيس القلقة , فوبيا الشرطة والقانون ..
تعرت الفتاة في مغطس الحمام ... وتأكدت سعدية من ان لريمة عشرة اعوام يوم ضرب منزل ليلى العطار ... سمعت ذلك في الأخبار ...
ووسعت سعاد من دائرة قلق ريمة .. ربما من حيث لاتدري .. تشاركتا حجرة ملساء الجدران , بنافذة زجاجية وموقد نار ... وتشاركتا في طعام يومي من الخضار تتقاسمانه وتشاركتا في عراك يومي على غسيل الصحون , وتشاركتا في العثور على مغطس مائي للحمام تلوذان فيه معا .
وتشاركتا في ازياء مستعملة غريبة الموديلات من موضة السبعينات وشاهدت سعاد نفسها وهي تعيش طقسا كوميديا بارتدائها اثوابا تعود لنساء مجهولات وربما ميتات وافترضت ذلك واكدته وهي تتشمم الرائحة الكامنة ...
ومنحت ريمة اثوابا اخرى .. وتبادلتا دروسا فطرية في التعبير عن الفرح بالرقص والغناء .. ثم الترانيم والأناشيد الدينية في ايام الأعياد وذكرى آل البيت ..
امتزج عالمها بهذا الخليط الفريد من الخوف من الخارج ... الخروج الى اماكن عامة .. ولذا توزعت عليهن ادارة منزل النساء ... ادارة مساعدة وحريصة ... تلقفتها ريمة ... وكبرت معها ومع مرور الوقت تغلغلت في نفسها بذرة النضج المبكر والوعي بكينونة المرأة وما هي عليه من اطوار ... وشاهدت عن قرب كل ماكانت تجهله من فصول الخلق والتكوين والأنجاب والألم والرغبة والوحشة والقلق والأنجذاب ...
وكبرت في عقلها فكرة انها هنا ... تتواجد في الزمن المجهول ... والمكان المجهول ... سعاد موسوعتها الغزيرة .. التي شربت كأس المدينة .
كانت قصة سعاد كأنها امتداد لتكوين ريمة مع فارق ان لسعاد اما وابا ولا يعرف لريمة اب ولا ام ولا اسرة حتى اللحظة . فسعاد عرفت كثيرا من علامات الوجاهة والترف ..وصندوقها يكتنز بأثواب سيدات عابرات .. كانت تخدم في مطابخهن وتتهجى الأبجدية , وتتعلم لاحقا كلمات انكليزية كثيرة ..ولما نضجت صارت لها ذخيرة طيبة من تلك اللغة .. وزاد هذا من ثقتها في نفسها وانها تستحق اكثر مما هي عليه الآن ... وهي التي تكتنز فتنة ملحوظة وترفا يفصح عنه جسد متناسق المكونات .
تمضي مع تلك السيرورة الصامتة , وما مطابخ القوم الا رجع صدى ما يدور حول موائد الطعام .. من اهواء وصراعات وعشق وكراهية ودسائس وافراح وامان في حقبة صعود( الثوار ) في سبعينيات البلاد.
ولذا شهدت سعاد اياما وليالي من ذلك الجنون الثوري .. جنون الأمتلاك والأستحواذ الذي عصف بآخر اسرة عاشت في كنفها تلك الأبجدية السرية الكامنة في مكان وزمان ما .. التي تربط العاشقة بالعاشق .. وراء مخابئ قصور مجهولة ... لاتلوح سوى نوافذها الذهبية والأضواء الباهتة التي تري اشباحا تتحرك جيئة وذهابا ... نساء ورجال يتعانقون... وهي ترمق ذلك الفصل الليلي المكرر من العري والأنصهار والريبة والصراع ...
كانت سعاد تكبر وهي ترمق وظائف جديدة للجسد غير الوظائف المطبخية .. وكذا تكبر ريمة وهي ترمق الوظائف ذاتها ... ولكنها هنا وظائف انفرادية تتعلق بنساء معزولات في قبو في مكان ما من جسر ديالى ...
شعرت سعاد ان من واجبها الآن ... ان تدخل ريمة مدرسة ... مدرسة تخصها هي وتخص افكارها ... الواقع الذي رأته كتلة جاثمة مثل جبل لاسبيل للخروج منه الا بتفجير الذات ... القيمة المجهولة لوجودنا الذي لايتحقق الا بصنع فراديسنا الدنيوية الصغيرة , كينونتنا الضعيفة في عالم الأقوياء ستشع اذا قرأنا ذاتنا بصدق وبراءة ... بتولتنا الطاهرة ... وطيف العذرية الذي تحفه يد الرحمة والهناء ونحن نمارس تلك الوظيفة المقدسة ... ان تتطلع في عيون الآخرين وتقرأ سورة احزانهم .
بدا عالم سعاد مع الكرامافون اشبه بسمفونية مجهولة يمتزج بها الحداء الأنثوي المجهول بموسيقى برية لانعلم من جمعها ولا كيف قام بتوليف الحانها ...
الرقصة البرية الهائلة التي تحشد ازمنة وتواريخ الملوك واباطرة ورجال عسس ونساء بائسات : ارامل وعوانس وفتيات مثل ريمة يبحثن الآن عن وجودهن في تاريخ لاينتمين اليه ولا يدركن كنه امجاده العظيمة التي يجري خط فصولها الآن خلل التظاهرات الحاشدة والبيانات الحماسية والقصيد البربري والمجاميع الهادرة ولافتاتها المتنافرة ... كانت سعاد هي رجع صدى وجود ليلى في المكان ... هي الأمتداد الأثيري المجهول ... الذي تتكئ اليه ... هي لحظة الصدق التي تختلج فيها الذات ...
وشهدت ريمة اول لقاء بين الأثنتين بعد يومين من دخولها ذلك العالم المجهول ... شهدت من بعيد ... سعاد وهي تضفر جديلة ليلى ... كانت عينا سعاد تدمعان وتنشج بصمت وهي المرة الأولى التي رأت فيها كيان ليلى وهي تحتضنها بقوة وتقبلها بود عميق ... تقبل عينيها وجبينها وتهزها كمن يوقظ انسانا من نومه ... ولم تكن ريمة لتعرف ما يجري الا على انه ود انساني , من نوع ما ... لكن وخزة غير مألوفة لسعتها في قرارة روحها ...وتمنت لو تكون هي من قبل عيني سعاد ...

وسرعان ماعادت سعاد سيرتها الأولى ,, وحكت فصولا من صباها واحلامها ..
اذ بدت امبراطورية نوفان اكثر تجسيما ... امبراطورية ولدت في رحم الثورات من قرويين طموحين , اقاموا حصونا وصروحا , ومتاحف وصنعوا بلاطا امبراطوريا حافلا , وحملوا صولجانا مهيبا , وبطشا وبأسا شديدا , ورثت سعاد عبر ذاك الصبا المجهول بقايا تلك الصور المخملية وطقوس الهيبة , ولذا سرعان ماوجدت نفسها وهي مندمجة في هذا الواقع الذي يتضخم في كل يوم .. ووجدت نفسها تخدم قرويين جددا يتميزون بالحزم والمضاء , ويحرصون على المضي في عالمهم الليلي المجهول حيث تدار خطط النهار على وقع ساعات الليل ... وسرعان ما وقعت تحت بصر حارس قروي في الخمسين من طاقم الحماية , اخترق ابوابا ومنافذ وحواجز عدة ليلوح امامها وحيدا وهي وحيدة ... لم تكن تجيد غير تلبية نداء الجوع ... تقدم الوجبات ساخنة وتجيد الطاعة ...
ان تدار هكذا فجأة وتجد نفسها مشرعة بلا ارادة على طاولة طالما شهدت ايامها ولياليها فذلك مالم يكن محسوبا ... كان قد تضخم كيانه قبالتها وشهدت اشياء لم ترها من قبل , واندلق امامها لحم بشري بشعر فاحم وبقع محترقة , وتوزعت من حولها اصابع ضخمة , وفم فاغر , لاح امامها ثقبين غائرين لعينين قاتمتين , ووخزها شعر ذكري في ظاهر يدها وذراعها فيما الرجل يتذوق ملح بشرتها ...
كان فعلا بسيطا اول الأمر قربها من افعال القطط والكلاب وهي تلعق اجساد ابنائها ... لكنها وهي تحاول لملمة المشهد والوصول الى نقطة الحذر ثم الخوف ثم الذعر ثم تكوير الجسد وابعاد الضرر عنه , كان الموقف قد تفاقم لمزيد من ملامح العري وتكون الأشياء التي لاتفهم لها وظيفة الآن في هذا المكان ...
كان انتزاع احمالها وكشف ظهرها يسيرا بالتمزيق والعض ... لكن دخول رئيس الحرس وجيش الطهاة ... كان كفيلا ان يوجد لها قوة سرعان ما ستركلها بلا رحمة وتلقي بها الى الشارع ... كلبة ... وسخة .
هاتين هما آخر كلمتين سمعتهما ...
وبعدها ... بحثت عن امها وعن ابيها فوجدت ليلى ..

.............

كورال طريف ظل يحرص على التدريب والغناء والحداء التقليدي , اشعار الغزل الأندلسي ومواويل الملا عبود الكرخي تمتزج مع زجل تقليدي والوان من العتابة والبستات الشعبية ... الكورال الطريف جمع سعاد بريمة كأجمل صوت طفولي الى جانب احلام ومنى ونجية وميقات وعفيفة ونصرة والأخريات .
في بيت النساء .. بدأ اول فصل من فصول حسن النية ان تحتشد النسوة لتقديم صورة مرضية لمستقبل مشرق يعبرن عنه بالتجويد والترتيل وكذلك على تقديم اطوار الفن والرسم والخياطة والحياكة .
وظيفة اخرى .. هكذا لنكن على سجيتنا .. كما نقرأ في الفواتح .. وكما نحتفي بالعرسان ... لااكثر ... وليرض الوزير او المدير او لايرضى ...
اقيم حفل السيدات بكل مافيه من زينة وبهجة ... وجاء وكيل الوزارة .. وكرم المشاركات ... وزاد من منحة الدار ... وغادر هو وحراسه ...وفرحنا نحن الثلاثة : انا وليلى وريمة .. احتفلنا وسهرنا معا ... ونامت ريمه في حجري ... ثم تأكد قرب وقوع حرب جديدة.
وجوه مطرودة من الزمن ...وجوه نساء هامشية متراعشة , خوفا , هن بقايا المعركة .. الأنوثة الطاوية .. الملقاة في قعر المكان ... في قعر الساحة ... ساحة المواجهة , هنالك كتلة آدمية عبرت عن نفسها عبر نظرة ليلى التي تصيب غالبا , بدت قلقة , وراحت تدخن وتحتسي مزيدا من القهوة , كانت تلك الليلة مشتتة وقلقة , وعندما تكون كذلك سيكون لها سحر خاص , بصبغة نحاسية مشرقة , يلوح وجهها وينساب شعرها بغير اهتمام على كتفها , تضع ساقا على اخرى ..( كانت ليلى عندي كائنا غامضا , سريا على بساطتها وعفويتها ورقتها وجمالها , لكنها كانت قد شكلت كوكبها الخاص , فهي ان تحدثت عن حياتها الخاصة فلاشيء سوى ان زوجها اسمه حاتم , وعن انجابها او عدم انجابها فثم من يقول انها ابعدت ابناءها عن المكان حفاظا عليهم ... اما اين هو حاتم ... فلا تريد ان تقول ... ربما هو جندي هارب من الجيش او مايسمى ( افرار ) وعقوبة الأفرار هي القتل من الحكومة والجهاز الحزبي ولهذا تتكتم عليه , تخبؤه في غابة نائية او قرية من قرى ديالى وتنفق عليه وترسل له رسائل عن حملات دهم الأفرارية وتنصحه بعدم العودة وكان هذا استنتاج بعض من النزيلات اللائي رحن يتهامسن به سرا فلما تحضر ليلى يبدين لها الود وكأن شيئا لم يكن ..واما انه سياسي مطارد فالأغلب انه يعيش في جبال كوردستان , مع افراد ( البيش مركه ) الذين يطالبون بحقوق الكورد , ويخوضون حرب عصابات ضد الجيش وانه يعيش في مناطق جبلية وعرة ضمن تنظيم سياسي مسلح .. وانه محكوم بالأعدام غيابيا ... ولهذا تتكتم دلال على السر ... واما انها تخرج متهللة سعيدة من غرفتها مع الصباح , ترتدي حلة زهرية ويضوع منها عطر ساحر , وتمضي بالمزاح , توقظني , تدغدغني , تلاعبني , تهمس في اذني كلمات مثيرة تتغنى بصفات تتداولها البنات سرا ...هي ليلى اخرى ليست رسمية ولا مقطبة الجبين ولا سارحة ولا مدمنة القهوة والدخان , تردد ببساطة : لقد امضيت مع حاتم الليل بطوله , لقد كان معي هنا , وخرج الآن , وسيعود عند الغداء , سيتغدى معنا , ...ياسعوده .. لكنه لن يأتي ... وهي ستنسى او تتناسى القصة بعد سويعات ... وتعود سيرتها الأولى .. وياليتني اخرج من سذاجتي وما انا فيه لأكون مثلها ... هكذا , مكتملة , تحمل عقلا يغص بالأسرار العجيبة
.....................................
* الناشر : دار دونكيشوت - اسبانيا ودار عين الزهور - دمشق -2006
جميع الحقوق محفوظة