Sunday, August 26, 2007

شعرية القص في صعود القمر : بقلم الناقد عباس عبد جاسم


شعرية القص في صعود القمر

عباس عبد جاسم

في نصوص صعود القمر لطاهر عبد مسلم علوان تتفكك بنية القص ، وتتهشم مرآوية القصة ، وتتقاطع الأصوات وتنهار شفافية الأشارات .. بحيث يتحول النص القصصي الى سيل تعبيري يستحضر عدة احتمالات دلالية ، وكل ذلك ناجم عن انزياح متبادل بين حدود السرد والوصف .
ان مصدر حركية القص في نصوص صعود القمر لايكمن في ذلك الخط الفاصل بين ما هو منطقي ، وما هو زمني ، وما هو واقعي ، وانما في ذلك المزج الحاصل بين شاعرية السرد ودلالة الوصف ، وقد افضى هذا التمازج الوظيفي بينهما الى انتاج بنى قصصية ذات طبيعة مزدوجة ، تعبيرية من حيث الشكل الدال ودلالية من حيث المحتوى الدال .
ورغم ان قصص صعود القمر افق مفتوح على حالات قصصية مركبة تركيبة شعرية ، فأن شعرية القص الدالة فيها وعليها لاتخرج عن اطار الأنسلاب الذاتي لأنوات وذوات قصصية مرسومة بشاعرية مرهفة ، ولهذا جاءت النصوص اشبه بمرايا شفيفة عاكسة لوجوه تعبيرية متشابهة تضمر حالات مختلفة عند صعود القمر من الواقع الى الحلم .
في نص صعود القمر تصعيد لشعرية القص بأسلوب شاعري لايسعى الى التبئير بصيغة تضيق حقل الرؤية وانما يجعل منها بنية شعرية – لاشعورية ، تتشظى وتتفتت على مساحة واسعة من الدال ، ولكن غالبا ما يتم التصعيد الحركي لها من خلال مزج شاعرية السرد بدلالة الوصف ونتيجة ذلك تتخلخل وظيفة السرد القائمة على اطلاق حركة القص في الزمان ، وتتخلخل ايضا وظيفة الوصف القائمة على اطلاق المكان، غير ان التمازج الوظائفي بين السرد والوصف يخلق حركة داخلية خارجية متناغمة متنافرة تنطوي على امكانية تبئير وتفجير فاعلية القص باستدعاء الرموز الشاعرية الدالة عليها بلغة متوترة ومتواترة عبر سياق اسلوبي لا يقوم على الترابط والتتابع بين ماهو واقعي وما هو سردي ، لأنه لا يسعى الى بيان المعنى ، وانما يعنى بانتاجه الدلالي .
"حاولت ان تستذكر آخر مرة تأملت فيها صعود القمر ، شعرت ان كل شيء قد مر خاطفا كضوء البرق القاصف " .
" ونحن نتقدم ، الحصان يلهث ، ونحن نتقدم ، يزفر الحصان ، ابي يدفع ، وانا امسك رقبة الحصان ".
" تتداخل الصور في رأسها ، نساء ، رجال ، دوي ، درابك ، دفوف ، اضواء ، المروحة تخفق بسرعة ، دوي هائل ، وقع حوافر الحصان الجامح " .
وان كان صعود القمر هو المدخل الطبيعي الى كيفية تفتيت الحادث الى مجرى شعوري من خلل تصعيد شاعرية السرد وتكثيف دلالة الوصف ، وخلط ما هو منطقي وزمني في القص فأن نص " عذابات فرجينيا وولف " هو مدخل آ خر الى شعرية الدلالة في قص احتمالي ، فالسرد هنا لايثمر قصا ، والقص لايثمر سردا وانما تفضي شعرية القص الى مواضعة قصصية قابلة لعدة احتمالات دلالية ، وهي مواضعة تتشكل بأفعال قصصية محتملة الوقوع ، ليس بسبب غياب التبئير القصصي للرؤية ، وأنما لأن السردية فيها خاضعة لوصف دلالي ، فشعرية القص لاتجعل من الوصف خادما للسرد ، ولاتجعل من وظيفة السرد تشخيصية ، بل تقوم شعرية القص بتخليق حركية قص قائمة على المزاوجة بين واقعية السرد بخط افقي ، ودلالة الوصف بخط عمودي ، بحيث تتم عملية تصعيد فاعلية السرد بالوصف الدلالي ، خاصة وان الخط الأفقي للسرد لايمكن ان يكون فعالا مالم يتجه اتجاها عموديا بوصف مستوعب لسكونيته الكامنة في المكان ومتقدم عليها بسرد مستوعب ايضا لحركيته في الزمان ، ولكن الوصف الدال هنا غير معني بتقديم اعلى اخبار سردي ، بل معني بتقديم اعلى اخبار دلالي .
" ربما هطل المطر وهي نائمة ، وربما هو الندى يغسل الشارع " .
" ماذا دهاني ؟ في اية دائرة غامضة اندفع وفي اي ظلال " .
" احتملي كل شيء ، احتملي تلك السماء المقفلة بغيومها السود المسرعة المكتظة ، احتملي الصرخات المكتومة قربها " .
ويشكل نص (البحيرة ) مدخلا آخر الى كيفية خلخلة نظام السرد وتفكيك متوالياته السردية باللغة ، فاللغة هنا لاتمنح السرد نظامه الدقيق ، وانما تجعله جزءا لايتجزأ من وصف دلالي مشحون بشاعرية السرد ، غير ان شعرية القص لاتخلو من نسيج تعبيري يتصل فيه الزمان بانفصال مكاني ويتصل فيه المكان بانفصال زماني ، وتسعى هذه الحركة المتصلة المنفصلة بين الزمان والمكان الى تعويم ما هو واقعي على سطح مترجرج بخلخلة بنى السرد ، وتثبيت ما هو منطقي بدلالة الوصف ، ولكن هذه العملية المقصودة في اسلوبية اللغة لاتحتكم اليها شعرية القص كقاعدة نسبية ثابتة ، لآن شعرية القص لاتسعى الى اقرار رؤية نسبية للأشياء في واقع تطغى عليه التحولات ، وانما تجعل كل شيء في النص يتحرك ويتغير بحيث لايستقر له وفيه اي قرار .
ان نقطة المراقبة في نص ( البحيرة ) لاتجنح الى تقديم وجهة نظر او بؤرة سرد معينة في رؤية الناس والأشياء والبنى ، وانما تعمل على تكوين مستويات متداخلة لرؤية بانورامية لاتتحرك من اليسار الى اليمين حسب ، بل وتقوم هذه الكاميرا بتخليق وتنشئة مساحة يتمظهر فيها الماضي بالحاضر بصيغة العاكس الغائب بفعل اشتغال الوعي العاكس بطريقتي العرض والتصوير .
وفي نص (مدن نائية ) شعرية قص تتوهج فيها درجة عالية من شاعرية السرد والوصف الدلالي ، فالشيئية ،تتحرك فيها بسياق اسلوبي ذي بنية لغوية مقطوعة بعناصر غير متوقعة وكأنها منبهات اسلوبية ناجمة عن تداخل تصادفي بين المتوقع وغير المتوقع من الأشياء الظاهرة والكامنة في شعرية القص .
ان الوصف الدلالي في هذا النص ليس بالضرورة ان يحيل الى دلالات ، وانما يستحضر احتمالات عدة ، وان شاعرية السرد التي يقودها الوصف الدلالي ليست بالضرورة ايضا ان تتفوه شعريا ، وانما الأهم هو كيفية تكثيف الأشياء الموصوفة بالتعدد الدلالي في بنية ذات شكل قصيدي ، وهنا تكمن امكانية هذا النص في خلق فجوات فنية مشحونة بأبنية دلالية ناجمة عن حركة مزدوجة من السرد والوصف ، ولكن ليس بين هذه الفجوات وقفات سكونية – كمونية ، ناتجة عن وصف قائم بذاته ولذاته الوظائفية بل يدخل الوصف كفاعلية قصصية مشحونة بشاعرية السرد القصصي .
ويقوم نص (قطار المساء ) على كيفية توزيع شاعرية السرد وتقطيع دلالة الوصف وفق مساحات محددة ، وفراغات متقطعة وكل ذلك يؤدي الى تفكيك واقعية الحادث بتفكيك حركية السرد ، وتجزئة حالات الأشياء بتجزئة حركية الوصف ، وبالتالي يتحول النص الى وحدات مستقلة من مفردات وجمل غير مترابطة ومبتورة جمل قائمة بذاتها ولذاتها غير ان كل مفردة او جملة هي بمثابة لقطة وكأن النص نسق من صور توليفية .
انه نص مركب من شعرية القص وسردية السينما في كيفية تأثيث الصور والمشاهد وتقطيع الحركة الزمانية والمكانية بينهما وفق ابنية لغوية – صورية عاكسة ومعكوسة .
اما نص ( مهرجان البلور ) فأنه يسعى الى زحزحة المألوف باللامألوف والواقعية باليوتوبيا بصيغ بنائية قائمة على واقعية مبتكرة من اهم عناصرها الدهشة والسحر والأنبهار.
.......
ان هذه المجموعة القصصية لطاهر عبد مسلم علوان تنطوي على بنى قصصية تتجاوز واقعية السرد بشعرية قص جديدة قائمة على زحزحة الحدود القائمة بين السرد والوصف ، وبالمزج بين الترتيب الزماني والمكاني وبالتالي تخليق افق قصصي يمتلك شاعرية دالة .
بغداد في 6/ 9 / 1994