Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل الثاني

رواية : الكائن الأفتراضي - الفصل الثاني

لم يكن معهودا في ساعات الأزمة غير انتظار المجهول .. اما نهال فستكون الآن في فضاء آخر , السيدة الخمسينية , المدرسة السابقة للفيولا والكمان في مدرسة الموسيقى والباليه , ستصدح الحانها في الغرفة العلوية وسيشرق المكان على اشعاع الفوانيس والشموع الصغيرة التي تملأ غرفتها , كانت وهي تستعد لحفل موسيقي لنفسها ولمن يرغب الأنضمام اليها , ترتدي ثوبا ابيض فضفاضا وتلوح خصلات بيضاء من شعرها وتغمض عينيها وهي تحقق الملامسة الأولى بين قوس الكمان والأوتار التي تنتظر لحظة الألتحام وانطلاق الألحان ...
على تلك الأصداء التي تتدفق من الغرف العلوية وقع حادث اختفاء كميله , فجأة هكذا , مع انطلاق الحرب , كانت نهال تعزف مقطوعة غربية , وقد كتبت شروحات لما تقوم به في لوحة اعلانات خاصة بها ... واندفعت تعزف والمطر ينهمر في ليل كانون ... فيما كميلة يجري اختطافها الآن ... تكميم فمها وعصب عينيها والأنطلاق بها الى المجهول .
لم يكن المكان معرضا لأعمال كهذه , فهو محاط بالحراسة , والسكان يرأفون بأحوال النساء , نساء الحروب ... هكذا ينظرون لنساء المكان على انهن ارامل رجال قضوا في الحروب ... ولهذا كان اختطاف كميلة ذا دوي هائل في المكان , ضربت دلال كفها على الجدار مرات عدة وصاحت بغضب ... لقد اخذوها .. ولن تعود .. لن تعود ..جاء المحقق ومعه عقيد الشرطة الأصلع الذي تتكرر زيارته في الأزمات .... وعندما يشعر ان الموضوع مرتبط بسلطة اخرى اكبر منه ... وبعد ان تتكون لديه معلومات عن طريقة الأختطاف يردد : يصير خير .... الله كريم .

..............

كانت هنالك لحظات احتقان تعيشها ليلى ... فعند نهاية كل شهر يأتي اشخاص غرباء للتدقيق في اسماء النزيلات ...التأكد من هوياتهن .. من ملامحهن .. من اوراقهن .. من تاريخهن العائلي ... من ماضيهن ...
وكانت ليلى مخرجة بارعة لتلك المسرحية : النزيلات ايها السادة مدمرات نفسيا نحن نبذل جهدا لمعالجتهن .. انهن كائنات ميئوس من شفائهن .. على م تتطلعون ولمن تنظرون , انهن نصف عاقلات ونصف مجنونات ...
عندها يتصاعد الأشمئزاز في نفوس الزوار الغرباء ويتطلع بعضهم الى وجوه بعض , ويحتسون الشاي على عجل ويلتقطون اكرامية الزيارة من ليلى و ينظرون من الفتحات الزجاجية الى اولئك النسوة فيشهدونهن وهن هائمات ... شاردات ... منفوشات الشعر ...بشعات الملامح .. فيمضون سريعا الى الأرشيف , يلتقطون قائمة بالأسماء وينصرفون ... وما ان يبتلع الطريق الرئيس سياراتهم حتى تدوي في المكان ضحكات مجلجلة ويعلو الصفير والغناء ويتجمع الكل من حول ليلى ويضرب بعض على اكف بعضهم الآخر دلالة على النجاح وبعضهن من فرط حماستهن يندفعن لعناق ليلى على حسن ادائها لدورها ...فيما هي تبدأ بالعودة لشخصيتها الأولى : تخلع نظارتها الطبية السميكة , الباروكة , الشحوب , كي ينفر المخبرون منها .

.........

كان المكان يتسع باتساع الفكرة التي التأمت النساء من حولها ... وكانت ريمه تعيش دهشتها من هذا العالم الذي بدأت تنتمي اليه بالتدريج وتدافع عنه بجرأة ... اجل فقد نطقت ريمه كلماتها الأولى في عيد ميلادها الخامس عشر , كانت تسمع اصداء ما يجري ... البلاد مقسمة الى خطوط طول وعرض وقصة المساس بالسيادة على كل لسان والناس في قلق مما هو آت , هل سيضربوننا ام لا ...؟ هل سنوافق على القرار 687 ... والسوق في صعود وهبوط , الدولار يعصف بالعملة المتهالكة و ( الصمود كبير والعبور قادم )... كل هذه الأحاجي رددتها ريمة ... وتأكدت انها تعيش في كوكب ناء .. وانها والمحيط الخارجي عالمان منفصلان , وان القوم خارج المكان يتحدثون لغة اخرى زاد من رطانتها انها ظلت تشاهد التظاهرات العاصفة التي ولدت في اجوائها يوم عثرت عليها وهربتها الى المحفل ...
لم يكن يروق ليلى الا ان تجتمع في منتصف الأسبوع , تقيم احتفالا افتراضيا , يكون قد بدأ اعداده منذ الظهيرة , تذهب سعاد وريمه الى اقفاص الدجاج وتنتقيان دجاجتين يذبحهما الحارس وتعدانهما لعشاء على الفحم ... كانت ليلى تتلذذ بجلسة الشواء هذه وهي وسط هذا الجو , تعتصرها فجأة نوبة حزن ... مرددة ... وماذا عن الآخرين ؟ ويمضي الوقت على شرفة المبنى في المساء الخريفي , الحرس يتبادلون نوبات الحراسة عند الباب والنجوم ساطعة في كبد السماء .
وليلى تسامر ريمه .. وحيث اعتادت ان تقبلها بين عينيها وهي تردد : ياالله ...مااعذب الرائحة البرية التي تنبعث منك ياريمه ..
_ لا ..رائحتك اطيب ست ..
_ كانت هنالك بنت جميلة تشبهك .. هي جزء مني ثم غابت ..

_ اين تراها غابت ؟
- في المجهول ..
- وهل هي صغيرة ام في مثل سني ؟
- لايهم .. لكنها تشبهك كثيرا ..
- اني اتوق لرؤيتها ..
... وتصمت ليلى وتعود قصة المجهول الذي يغلف ذلك الكيان , فعن اي اولاد تتحدث وهي العزباء المتوحدة .. لكنها في اللحظة ذاتها زوجة حاتم ... زائر الشتاء ... الذي سيحل في المكان ويخلف وراءه امرأة تشع بالسعادة .
قالت سعاد : هم هكذا .. ضيوف , عابرون سرعان ما يتخففون راحلين .

( مر وليد في سمائي مثل طير جذل غرد , جذبني تغريده , وطربت طويلا لقصصه واحلامه .. كنت اريد رجلا مثله اصنعه لنفسي , نسخة منه تماما , غلام يملأ حجري تغريدا وعذوبة , وعدني بغلام لايشبهه احد ... ورحنا نرسم ملامحه في خيالنا , كان ذلك في عيد من الأعياد .. في متنزه الزوراء .. كنا طارئين على ذلك الود ... وكنا زوجين حديثي العهد بالزواج ... مجرد صبي وصبية او شاب وشابة , لانملك سوى غرفة واحدة نعيش فيها وبيادر شاسعة من الأحلام البنفسجية , اما هو ... فقد كان وديعا مسالما .. حتى ايقظوه ... عنوة ... وما عرف النوم بعدها ... كان يفكر بتغيير عشرات الأشياء من حوله وكنت خائفة عليه من نفسه , كان يشعر بالشقاء ... بعد دوامة حرب خرج منها معطوبا في قرارة روحه , لم تفارقه كوابيس عبد الجليل ومحمود وعباس وعبد الخالق ونوري وسجاد وسالم وراضي وكامل والآخرين .. تركهم هناك في مكان ما ... وخاطب الأرض .. توسل اليها ... ان ترأف بأجسادهم وابتهل للسماء ان ترأف بأرواحهم ... ولم يكونوا موتى ... بل كانوا شخوص اشعاره ... التي ينشد ها لهم وقد اقام لهم نصبا تذكاريا ... احتفاء بهم , بالورد والآس والشموع والحناء ...
احسست ان تلك النطفة الطاهرة المفترضة قد شوهتها الأيام ... ولم يعد هو يمنح ذاته كما كان يمنحها في الماضي .. كان هو قد صار ابي وامي بعدما رحلا تباعا وبعدما شهدا زواجنا .. وكأن رحيلهما كان توقيتا بهذا التغيير ..... وبعد ان انتهت الحرب خرجنا الى اقارب في اماكن عدة ... عشنا مع الفلاحين ... امضينا ليالي واياما كطائرين بريين ... وبدأت احاسيسه بالتفتح تدريجيا وشعرت انها نقاهة لابد منها ... وهذه المرة فقط .. عادت ترنيمته : سعاد .. لما اشم ثناياك امتلئ بعبق الأرض ولما اكون معك التحم برحم الأرض تماما ..كانت كلماته كبيرة ... لكنني كنت ابادله كلمات تعلمتها ايام الأسر السعيدة التي خدمت ابناءها وبناتها ... ولما استرجعْ صورة القروي ... فكأن كابوسا رهيبا يتلبسه ويصرخ في البرية : لابد من نهاية ومع تلك الأيام , احسست ان ولادة وشيكة تنتظرني ... وانتظرت ... حتى وقعت الحرب .. وذهب هو .. وغاب .. وجاءت ريمه..).

...........

غابت ليلى فجأة عن المكان ... وبدا المكان بغيابها و كأنه فقد اشراقته وبهاءه .. فقد نصف مكوناته ... الحركة بدت رتيبة , الطاهيات في المطبخ وعاملات الخياطة في دورتهن اليومية وقسم الحياكة والتريكو ونهال عادت لتدريب ريمه على العزف وناديه منغمرة في الرسم ... هكذا تكونت صورة المكان وانا ادور لأطمئن ان كل شيء على حاله .
كان ذلك في مطلع نهار خريفي , عندما توقفت عدة ناقلات بضائع عند واجهة المكان , وجاء الحراس معلنين انها مواد من الوزارة , وجاء مندوب الوزارة معلنا انه وبعد زيارة الوكيل , تقرر تخزين وثائق الوزارة واجهزة حساسة ومعلومات في غرف المكان خوفا عليها من التلف من جراء بدء العمليات الحريبة .

..........

يوم اشتعلت نار الحرب كان حاتم يعرض فيلم سرقة القطار الكبرى , وهو فيلم بالأبيض والأسود ويعد من اوائل الأفلام قبل دخول الصوت ... شهد مرارا قدوم اقوام الكانكستر , والتئام المافيا ..
وتابع فيلما آخر حمل عنوان لعنة الفراعنة حيث ينسل الباحث الأشقر البشرة في اقبية المتاحف الفرعونية , ويبحث في اسرارها وخباياها وكنوزها ليلاحق بلعنة فرعونية رهيبة يقتل فيها الناس .
ايقن حاتم ان السينما تعكس حقائق من الحياة , وكانت قناعته قديمة , ولهذا قبل مشاهدة افلام الحروب على انها الحقيقة او انها جزء من الحقيقة , كان اجتياح باريس من قبل الجيوش الهتلرية وسقوط خط ماجينو , دافعا لحاتم ان يرى الحرب بعيون الحاضر , وتكاثفت صور العدوانية والوحشية منذ سرقة القطار الى انتقام الفراعنة الى سقوط ماجينو , ودار المكان بحاتم ... وضغط على زرالمفيولا ضغطة اوقفت حركة الشريط وشلت الصورة.... كانت البيانات تترى والناقلات تحمل وثائق الحكومة لأخفائها في اماكن امينة ...
عاد حاتم عند الغروب ، وحيدا متقهقرا ، الشوارع خاوية ، دكاكين معدودة في علاوي الحلة هي التي بقيت فاتحة ابوابها , لم يكن له غير بقايا شذى ليلى , عبقها الذي يهجم دفعة واحدة حال فتح باب الغرفة حيث استأجراها في الصالحية .. القى نفسه على السرير , احس بدوار , فيما المروحة السقفية الكسول تدور , فتح عينيه بلا جدوى , ازداد الدوار , كان الليل قد هبط ومرت قوات مسلحة , ثم احتشدت امام المتحف , بالقرب من صالة ساطع الحصري , ربما كانوا مفتشين آثاريين , ربما كانت ادارة المتحف , وسرعان ما تتابعت شاحنات عدة دفعة واحدة ... ولم يعد يتضح ماكان يجري تحت جنح الظلام الدامس . حاول حاتم استرجاع شريط قطعه شرائح وجلب ماكنة عرض السلايدات وتتابعت مع بساطيل العسكر صور اشياء كان يجري اخفاؤها .. فتح الضوء باتجاه الجدار وبدأ بأدخال الشرائح :
لقطة 1 طقوس تنصيب الكهنة في بابل القديمة

لقطة 2 غيلان شارع الموكب في بابل
لقطة 3 صورة افتراضية تخيلية للجنائن المعلقة

لقطة 4 برج بابل

لقطة …………. 5
لقطة 6 كاهنات المعبد

لقطة 7 المكتبة الملكية

لقطة 8 التاج والصولجان

لقطة 9 قانون حمورابي ومسلته

لقطة 10 وصايا المعبد

لقطة 11 اسطورة الموت والنزول الى العالم السفلي

لقطة 12 نقوش وفسيفساء من شارع الموكب
لقطة 13 طلاب المعبد
لقطة 14 طقوس ولادة السنة البابلية

لقطة 15 طقوس السحر البابلي

لقطة 16 كاهنة بابلية

لقطة 17 صيد الأسود في بابل
لقطة 18 السبي البابلي
لقطة 19 نبوخذ نصر على عرشه
لقطة 20 شكل يرمز للنهرين العظيمين

اللقطة الأخيرة : صور اختام اسطوانية لملامح نساء عظيمات الأوراك , دلالة على الخصب والنماء ... بينما دلال في عمق الصورة .
دارت ماكنة الصور على رجال يمتطون جيادا مطهمة , ويحفون خطا للسكة الحديد , ويلاحقون عربات القطار ويطلقون النار في الهواء ... وحيث بدت الفلاة قاحلة في العمق وغروب الفيافي يزداد احمرارا , اقتربت الفئة من رجال يسوقون جيادهم باتجاه عربات القطار ويسوطون تلك الحيوانات النحيلة , ويتسلقون تباعا فيما يسمع تصارخ النساء واصوات العيارات النارية والقصف العشوائي الذي لاتعرف الى اين سيفضي . كانت هي ثلة من الملثمين من القرويين رعاة البقر , الذين اجتاحوا العربات , وراحوا يطلقون نيرانهم يمنة ويسرة ويبحثون بلا هوادة عن صناديق محروسة بعناية بعضها يحمل لقى اثرية والآخر كنوزا من الذهب والأموال .
انقطع الشريط ... وتراخت تروس عجلة آلة العرض وترنح الشريط وكذلك صور الفرسان على الشاشة ولم تبق غير صورة فارس يمتطي صهوة جواد على الشاشة .
دوى في سماء بغداد قصف بعيد مالبث صفيره ان اقترب تدريجيا حتى اطبق على شطآن الكرخ ولاحت على امواج دجلة انعكاسات الكتل النارية وتساقطت على صفحة النهر تباعا كتل معدنية هي شظايا ضخمة ما انفكت تقذف من مكان ما . لم يكن ثمة احد في الشوارع , ومع هذا كان هنالك تيار كهربائي وخط هاتف ...نظرت عبر المرقاب .. وشاهدت المتحف كما كان مسورا حصينا , الملك السومري الحجري ماثل في الواجهة ونسخة باب عشتار احاط بها ظلام المكان , بينما لاحت مكونات شارع الموكب في بابل القديمة مثل اشباح باهتة ماانفكت تملأ شارع الصالحية .
لم اكن اسمع ساعتها غير نواح وحداء و تهويمات سكارى عابرين , يرتجلون كلاما متشابكا مايلبث ان يتلاشى مع كل نوبة قصف واطلاق نار .
اطلق الحارس النار في الهواء .. وحاول جاهدا بث الخوف في نفوس هؤلاء الغرباء الذين اجتازوا القطار ... كان الشريط قد عاد للحركة مجددا , مع تحليق طائرات بعيدة ... كانت صالة السينما خالية الا من جرذان وفئران وسحال صغيرة تبحث عن بقايا طعام تحت الكراسي ...
اندفع حشد الغزاة الجدد الى عربة الباص الرئيسة وخاضوا صراعا داميا ضد الحرس من اجل انتزاع الصناديق الموصدة . كان ذلك المشهد يتكرر مثل كابوس ليلي ... يلاحقني مرارا وكنت ارى تكملة للمشهد في اللاشعور , انها تلك الثلة التي غزت المدينة كما هي العادة بعد ان فرغت من محتويات القطار وهاهي تجد ليلى .. نائمة .. في مخدعها , وسينتزعونها وهي في ثياب نومها .. وسيصلبونها هكذا تقف وسط ساحة عامة ... هذا من اجل ان اسلم نفسي صاغرا , حاتم ( الأفرار ) سلم نفسك ياخائن ... يقتربون منها بوجوه مطلية بالزيت , وجوه غريبة , شرهة وشريرة .. الكل مسلحون ويتقدمون تباعا باتجاهها .. وهي تصرخ فيهم وهم يرددون : فليسلم نفسه صاغرا .
يتقدم رئيسهم , يمزق استار ليلى , وينتهك حرمتها .... وما ان يمد كفا بشعة نحوجيدها .. حتى استيقظ انا لاهثا مضطربا مرعوبا...
كانت الناس ساعتها قد بدأت بالنزوح تحسبا لأنقطاع المؤن وامدادات الماء وخوفا من المحق الجماعي , فيما توزع رجال مسلحون على اسطح المباني .
كنت ساعتها في حاجة لأن ارى ليلى .. ان نعود للقصة ذاتها ..ولذا خرجت لاالوي على شيء .. الشواكة تنفث زفرة السمك المعهودة والزوارق المحطمة الراسية منذ سنوات كما هي .. اما باعة السمك امام دائرة التقاعد فقد اختفوا ولم يبق غير مشردين يلوذون بجدران مؤسسة الرقابة المالية ..
كانت المقاهي موصدة وهي المكان الذي يمكن ان الوذ به الساعة ... ولأنها ميدان رحيب لأهدار الزمن دون ان تشعر , كما ان الحواس الأخرى البشرية ستتفق على وظائف محددة ... العيون تراقب الدومينو واحجار الطاولي او التلفاز وصور الرئيس وخطاباته , الأذان تسمع همهمات الناس والتذمر والشكوى وشتيمة الحكومة التي بدأت منذ تأسيس العراق الحديث ... الأنوف لا تستنشق غير روائح الأركيلة وعفن السكائر .. تلك هي الخلاصة الحواسية التي تجعلك تتقهقر متحدا بشيوخ وصعاليك ومدمني كحول وسراق وفاشلين ومشردين وانفتح افق المساء كحليا رطبا على الطريق بين جسر الشهداء وشارع الشواكة القديم ... ولاح بائع فواكه ذابلة , كان اشبه بشبح يعتمر قبعة حمراء ... تعجبت من وجوده في تلك الساعة ... ولم اكد اسأله عن الزمن حتى فلسف لي المواجهة القادمة ... ورحنا نقطع الطريق باتجاه الصالحية ونحن ندفع عربة الفاكهة الذابلة معا ... ونصيح كما يصيح الباعة في شوارع بغداد القاحلة حيث لاناس ولا سيارات في تلك الساعة ..
واقعيا كونت فكرة عن طريق الهرب اذا تفاقمت الأمور بعيدا عن اعين الحراس ونقاط السيطرة ... الطريق الى ليلى وحدها .؟. ان اكون معها الآن ..... الى جانبها ... وطمأنني بائع الفاكهة الذابلة انه سيكون معي ... وسيسهل امر تهريبي وهمس ان لديه وسائل سحرية للتنكر وانه سيخترق الحواجز والبوابات وصولا الى موقف سيارات باب المعظم كي اكون بعدها متجها الى جسر ديالى ... شجعني ذلك ان اسأل عنهم : اين هم ؟...لماذا اختفوا ؟ هم هناك في الكريمات والرحمانية وليس بعيدا .. فلم اختفوا ...ربما هم يبحثون عني في مكان آخر ... بينما انا افتقدهم هنا ...
مسوح الرهبان ومواكب الكهان كانت تلوح من مداخل المتحف وانا اقطع الطريق بالقرب منه باتجاه السينما ...كان ذلك اليوم هو يوم تنصيب الملك البابلي وكنت تسمع انشاد الكهان , كنت تسمع انشاد التلاميذ الصغار , ورجع صدى المحاربين , كان هنالك عبق نسائي , نساء قديمات ... مطوقات بالورد , ينضح عبقهن ويملأ الآفاق , نساء اعجز عن الألمام بكينونتهن , اهن من العماليق ام انهن هكذا مثل نسائنا ...
ورحت اتهجى الكتابة البابلية كما جاءت في القاموس الذي عثرت عليه في مزبلة المتحف ... وقرأت بصوت عال كلمات تخص النزول الى العالم السفلي ... ولاح لي وجه عشتار وشبعاد ونساء تابعات لحاشية الملوك .. ولاح لي وجه ليلى ....
كان ذلك صراعا جنونيا , اني اشم فيها رائحة نساء عتيقات .. وانا اراهن في اثواب الكاهنات ... وياما عشنا ذلك الطقس الأفتراضي ونحن نشهد فيلم (ذهب مع الريح )...ياالهي .. كم تماهت ملامحها مع ملامح ( فيفيان لي ) لحظتها , لاادري ما سر فتنتها وهي تتحول الى افا غاردنر وتتمايل تائهة في خيلاء الزمن .
تأكد ان بغداد قد شطرت الى قواطع .. درت في شوارع المدينة في امان لأن الشوارع الخلفية قد غصت بالحرس والسلاح والقوات من كل صنف ... ويالبساطتي .. فقد حسبت المدينة مقفرة والحكومة رفعت يدها عنها ... لكنني تأكدت ان حركتي كاملة قد سجلت ... وسأنتظر ساعة تجري مداهمة الحجرة في جهة ما من الصالحية كي يحملونني الى هناك الى حين يجري اعتصار الطيور كي تتكلم مفصحة عن أسرارها .

............

كانت المدينة سابحة في فضائها الخاص , اجواؤها المغلقة وقوانينها التي تخصها لوحدها , اناسها يتلقون ظواهر تتداخل مع حياتهم بالتدريج ويقبلونها على انها امر واقع ومحتم , ولهذا خاضت الناس مع الخائضين في مضاربات مجنونة في كل شيء , بالغذاء والدواء والمركبات والحديد والأصواف والأقمشة والملابس والأراضي والبيوت وحتى المضاربة بالناس ... وكان هذا مشهدا فريدا , ان تتوزع الناس على وظائف تتعلق بالصراع من اجل البقاء بكل مااوتي المرء من قوة ورغائب ..
ووسط تراجيديا السمسرة الضاربة جذورها في هذه الحياة الرخوة , كان هنالك عالم مستقل , ينبغي عدم الأقتراب منه , او المساس به يتعلق في من يصنع القرار كي تتشكل هذه الظواهر وغيرها جميعا .
وبدت القصة ابسط مما نتصور , اذ شاع في العديد من الأماكن مفهوم مغاير للتجارة , حمله تجار فتية , طلعوا الى الدنيا هكذا , غير معنيين بسيرة آ بائهم ولا وصاياهم ولا من هم ومن يكونون وكانوا لايصغون الا لتعليمات واخبار الراديو المفضل , فتية حلقوا رؤوسهم بحسب موضة حلاقة ( المارينز ) وكانت خليلاتهم يستمتعن بشعورهم القصيرة , وضخامة جماجمهم ,. ووصولهم السريع الى الهدف , اي هدف مباشرة ودون لف ولا دوران , ولذا طغت على ظاهر الحياة علاقات جسدية لاتقبل اللبس قوامها اولئك الفتية وسراريهم من الصبيات الضائعات الباحثات عن الذات وسط تلك التراجيديا الضاربة جذورها في تلك الحياة الرخوة .
وهكذا ظهرت بؤر في اصقاع المدينة , بؤر سادها اولئك الفتية وصارت لهم نواديهم الخاصة وملتقياتهم وخدمهم وحراسهم , ولم يكن من اليسير الوصول الى حيث تنتهي الشبكة او من اين تبدأ.
وسط هذا غاصت ام ريمة في المعمعة , كانت سيدة وديعة دخلت عالم السمسرة من ابوابه الواسعة وضاربت في العقارات هي ونخبة من الضليعين بهذا الضرب من التجارة , اذ ورثت الأسرة ولعا بهذه المهمة وكان لها ماكان من مغامرات , ولما تضخم دور الأسرة واتسع , صار لكل منهم مصالحه الخاصة وهكذا ظهرت سمار الى السطح بقوة مسندة برجال اشداء .. وعلاقات وطيدة مع اطراف شتى ... ولم تكن تتردد في الدفع بسخاء لجهات لها مكانتها في سيرورة الحياة في البلد .
كانت الأمة يومها ملاحقة بقرارات اممية لاحصر لها اسموها ( التنكيل بالعراق ) وكانت السيدة تدعم ماعرف يومها بالعائلات المتعففة وسيناريو التكافل الأجتماعي ولهذا دخل اسمها في سجلات المنظمات الحزبية ودوائر الأمن على انها مواطنة صالحة .
كان طموح تلك المواطنة قد اتسع بعيدا الى نوع من التملك الذي تفتقده في عالمها ..كانت هذه النزعة هي مصدر شقائها ولذتها في آن معا... كانت شراهة التملك تستحوذ على كل نوازعها ... ولم تكن تتوانى في تقليب الأمور والأشخاص والأماكن على كل وجه من اجل التملك ولهذا تسلقت الى مكاتب مسؤولين تحت هذه الرغبة المتصاعدة .
كانت رغبة تسري في دمها وتغلي في عروقها ... وكانت تقض مضجعها ولم يكن يعوقها وجود الكائن الأعزل المسمى ( زوجا ) , في حياتها , هذا الذي قد تسلل الى عالمها في صمت وانزوى بعيدا عنها بالتدريج بعد ان اودع فيها نطفة في غفلة من الزمن فكانت ريمه .. كان شاهدا اخرس على تلك الأجتماعات السرية من اجل تعزيز نزعة التملك ... مرت يوما بشارع الأميرات وتنبهت الى حصن او قلعة ... وسرعان ما تبدد قلقها من شخص صاحب المكان لعدم وجود حراسات على مداخله وهذا يعني ان المالك يمكن ان يكون سمسارا مثلها ... كما نبتت هي في ذلك الفضاء المائع المجهول الذي اسمه الواقع الراهن ...
ولهذا حركت عيونها وآذانها وايديها من عمالها وخدمها للتحري عن المالك ... ومارست كل مااوتيت من وسائل للأيقاع به كي يتنازل ويبيع او يضارب بأراض زراعية وبيوت على سبيل المقايضة وذلك ماكان ...
وهكذا درجت على تلك السيرة التي لاتكل ولاتعرف المهادنة , ولم تكن ثمة قوانين او سلطات تحول دون خططها واحلامها فلكل شيء ثمنه ...
مضت هي في تلك السيرة فيما البلاد تسمسر احلامها , تبيع احلاما وتصنع خبزا مرا ... تنام على امل وتصحو على قرارات مصيرية مفاجئة , تودع قلقا وتستقبل مجهولا مخيفا ...
وهكذا جبلت البلاد على اناس يحسنون المغامرة مثلها تماما وبمواصفاتها ... وكانت المغامرة هنا ابعد ماتكون عن عوالم متكلسة روتينية , بائدة , تتعلق بالمبدأ والقيمة وماالى ذلك ...
كانت البراغماتية الجديدة واقعا ينطبق عليها ... ولهذا كانت معبرا لرغبة التملك التي تجتاح ذاتها ... وكانت قد صنعت لنفسها مفردات وقاموسا خاصا ... متى ترخي ومتى تشد ومتى تغضب ومتى تحابي وتكذب وتنافق ومتى ترفع ومتى تحط من قدر من يحيطون بها ... ولهذا شاركت ثلة من الموسرين حياتهم السرية وسافرت معهم في رحلات لايعرف الكثيرون نتائجها وكيف جرت فصولها ...
تجلجل ضحكتها الساحرة في لحظة صفاء .. وتشعر بخدر لذيذ ينتابها وامنيات شتى ترفرف من حولها وهي تصف اطقم المجوهرات وتتأمل تلك الزينة الملوكية التي استحوذت عليها بلا هوادة ... تصنع لنفسها مهرجانا خاصا من الأضواء والمفاتن والزينة والأزياء الأمبراطورية وعلى وقع موسيقاها التي تعزفها وحدها وبأيقاعها الخاص تدور على نفسها وفي افلاك امانيها .
كانت الوحدة عندها امرا يجب ان لا يوجد ولا ان يقترب من عالمها وحتى اشد لحظات عزلتها كانت تفكيرا بالآخر , بكيفية احتوائه وتملكه , كان البومها يغص بصور كائنات احتوتها نزعة التملك , لم يكونوا ضحاياها , وكانت تضحك من قلبها عندما تهمس تلك السيدة البدينة في اذنها اسم واحد قد تشرد وكان من حطام معاركها ... وتمعن في الضحك وهي تضيف اسم قادم آخر قد ابتلع الطعم ... وصار يقدم شيكات من الأماني على بياض ذلك الكيان الساحر الذي تمثله هي في اشد ساعات تجليها .
كانت في وقت اشتداد الأزمات والعواصف تظهر سيدة مخلصة للقيم تلوذ بالوطن وشعارات الحكومة وتنضم الى طوابير المؤمنين بالقضية , كائنا فردا من سائر العامة ... وكانت تلك التوصيفة العجيبة تثير اعجاب الناس وتعجبهم ...
وهكذا تنسحب فجأة الى عالمها , تعود سيرتها الأولى , وتمضي بلا هوادة نحو اهدافها الأكبر و الأهم ... السؤال عن نتائج المرحلة وما يمكن ان تخرج هي من كل هذا بحصيلة ما ... ومضى شقاؤها الجميل مع ذلك العالم الصاخب والمجنون ...
ولم تكن تشترك في جوقة اجتماعية , في مناسبة للعلاقات العامة والمجاملات الا اذا كانت هنالك ضرورة قصوى , لابد منها ... لأنها لاتريد ان يظهر معها ... ذلك الكائن الكامن وسط الموسوعة الكونية , يقرؤها وينقب كينونتها جيدا , اللحظة الدرامية التي تقدم الأزواج على اطباق المجاملات ... كانت تمقتها , لأنها لن تكون ملكا لأحد : ملكا حريميا خالصا ...
تنتفض تلك الفرس البرية وتندفع , ويندفع وعيها المتمرد ... وتعيش فصول الدراما ... يدخل صاحب الحفل شاقا طريقه عبر حدائق الآس والزهور الخريفية و النوافير, ويتخذ جلسته قبالتها تماما ..هو وثلة من تابعيه ... تجلس هي جلستها المناسبة وتلوح في بهائها ..المثير ... يخرج صاحب الحفل غدارته , يطلق الرصاص على الثريات العملاقة في قاعة الرقص , ويأمر الراقصين والمغني المواصلة بينما الرصاص يهمي على الثريات , وينفلق الزجاج البلوري شظايا كثيفة تمزق الأكتاف العارية , وتحتمي الناس من الغضب الساطع , الزجاجات تفور والخدم يتراكضون , وشيوخ يختبئون تحت الموائد , والغلام ضاحك , ضاحك , يطلق المزيد والمزيد فيما هي تطلق العنان لأحلامها بعيدا في سيارتها وخادمتها , تدخل بتلذذ وتعيش مع نفسها فرادة الجنون الذي شهدته ... كيف يتملك ذاك الفرد كل هذه البشر ويلهو بهم كل هذا اللهو , هي لم تكن خائفة ولا مضطربة ولا غاضبة , بل كانت مسلمة بالتألق , تألق اللحظة , لحظة التملك , التي تسبق الفحولة المفروضة , الفحولة المبثوثة على سواد الناس سلعة مباحة حتى هذا الخادم بمستطاعه ان يغدو فحلا كامل الأهلية .. اما نزعة التملك .. تملك اللحظة وحواس الناس , وخزهم بأظافر شرسة ترويع ذاكرتهم بالتملك فذلك هو ...
مضت هي على تلك السيرورة وسط جدل الثلة ذاتها ... حول افول الأمبراطورية وصعود نجمها حول السياسة والرئيس والبلاد ... الحاشية والقبيلة , وكانت تختصر صعود الأمبراطورية والرئيس والبلاد والحضارة بأنها نزعات التملك وحدها هي المحرك الأم لكل هذا وذاك ...
لم تكن تميل الى استعراض ماكونته من مبررات وتخريجات لفكرتها لكنها كانت متسلحة بأسباب قوية للدفاع عن الفكرة وليس الدفاع عنها بل تحولها عندها الى بدهية سائدة .. وراسخة وعلى هذا مضت ... وتأكد انها لم تكن جاهلة , ولم تكن امرأة شرهة او شهوانية , بل كانت امرأة مختلفة .
امرأة مختلفة ... على مفترق طريق .. طريقه المجهول ...الذي لم تكن علامته الدالة غير ريمة ... القاسم المشترك بينها وبينه ذاك القابع على كرسيه وطاولته وموسوعته مستوحدا فريدا يصنع يوتوبيا .. من كل هذا التذبذب واللاجدوى والخيلاء والدسيسة والشهوة المحرمة ولذة الأبوة ومتعة المشاركة والأمل والخسارة والرجولة المهانة والأحتقار على طاولة الواجب الزوجي ....

.............................
الناشر :دار دونكيشوت - اسبانيا ودار عين الزهور -دمشق 2006