Monday, August 27, 2007

ميدان القرن THE CENTURY SQUARE


ميدان القرن

العودة
عاد إلى الحياة ..حياة الألوان ..ولوحات الغاب والمدن ..والناس ..غاب زمنا ..وعاد متوجا بالذكريات ..هو رجل التكوين وجماليات الخط والملمس بلا منازع ..مر بالتكعيبيين والواقعيين وخرج بالحروفيات وكان حرف( الصاد ) عنوانه ومثار تجليات أفكاره ’كان لذلك الحرف سحره الخاص ..وكذا اشتق علاقات لونية وتعبيرية للحرف ..كلنا نتحد بالحرف ..ولكل منا لون روحي قابل للاشتقاق ..هكذا كان يردد بعدما شاخ وبعدما انقطع عن الحياة ..وغاب في نزعة اختطاف صادرت لوحاته وحر وفياته ..وحفرياته على بورتريه (منصور) شخصيته الأثيرة ..هو والمرأة ذات الشال .
منصور

كانت المرحلة التعبيرية عنده مربكة في زمن غير الزمن والناس غير الناس ..المدينة غارقة في الصمت ’ في فجر شتائي بعيد ’وهو هناك يتأمل تلك الرحلة المجهولة التي قرر خوضها إلى آخرها ..أبواب غاليري الفنون مغلقة منذ مدة بسبب ظروف حظر التجوال ..وهو يقيم على مقربة من المكان..حائر ..قلق روحه لائبة ..اخترق حاجز الفجر ’وغبش المجهول ..وأطل عبر نافذة مضببة إلى الأزمة والدروب الساكنة ..تتابعت صور الآخرين في ذاكرته وهو يجمع المراحل كلها في لوحاته ..فقراء وعابري سبيل وظل وجه الحاج منصور يلاحقه رغم كثرة البورتريهات التي رسمها ..وظل يؤكد في معارضه أنّ بورتريه الحاج منصور ليس للبيع والشراء ..رسمه بتنويعات شتى ’تداخلت في تكوين لوحاته آثار عصر النهضة والمدارس المعاصرة واندمج عنده بالتواريخ وتمثلت في أعماله ملامح سومرية وبابلية وآشورية وبدوية.
إشراق
مرت في الطريق المغسول بالمطر والرذاذ سيارات الدوريات الحكومية ورجالها المخلصين وهم يضيؤون الأركان المعتمة بمصابيح ضخمة للتأكد من أن كل شيء على ما يرام.
عادت إلى وعيه لوحة غويا والسلاح موجه لحشد الفقراء وتأمل طويلا صمته ومكابداته ..تسلل بصمت حاملا لوحاته ..
كانت المرأة في أعماله كائن اكثر إشراقا ..واكبر من حدود الجسد ..ورغم لمسته السحرية في تتبع لمسات الأنثى إلا انه أبى دائما أن يجسدها إلا وهي محاطة بنور ..وتحتل مساحة اكبر من اللوحة.
سار بخطى ثابتة عبر الطريق الحجري فيما كانت الشعارات تنتشر على الجدران ..اليسار واليمين..والوسط والائتلاف والتأصيل .
ميدان القرن
تسلل عبر دروب وممرات متعرجة و أدرك ميدان القرن ..ليجد شاشات تنقل خطبا وتعليقات وبيانات ..شاشات في ميدان مقفر تمتد مساحاته وإضاءاته لتغمر المكان بالأمان ..تسلل إلى نفسه شيء من الدفء والتوازن ومد لوحاته وأطوارها ..مدها طويلا طويلا على امتداد ميدان القرن في ظل حضر التجوال ’وكانت في لوحتها تبدو مترفة بفستانها البيض وحيائها النبيل ’ والشال الذي غطت به شعرها ..كانت ملهمته وتتابعت بورتريهات الحاج منصور بينما الخطابات تعلو والأناشيد تتصاعد وهو متوحد ..يطلق ألوانا طيفية في ليل الوطن الثقيل ..عادت إلى ذهنه صور الحروب والثورات واندفاع الحشود الهادرة ..وراح يوزع لوحاته على جدران غطتها الشعارات والصور..
وبدا له ذلك الريف الوديع المسالم اكثر إشراقا في لوحاته ..هناك كان الحاج منصور ..عندما عادت صورة فيلم الأرض وشاهد العم أبو سويلم يتحد بصورة الحاج منصور وهو ينتصب شاخصا كنخيل البلاد الجريحة ..جسّده مرارا ..وكذلك كانت صورتها.
المقنعون
كانت صورة الحاج منصور قد دخلت دائرة المتابعات الخاصة ..ولوحق ولوحقت ذريته واصحابه ومحبيه ..إذ جاب المكان فتية مقنعون وسرعان ما توارى في سياراتهم أولاد ورجال وغابوا تماما وانطمس تاريخهم ولم يكن الحاج منصور إلا رجلا يرتدي ثوبا كالكفن ويعلن انه مستعد ..فقد قال كلمته مع حظر التجوال ..وغاب تماما وبقيت أشعاره وحكاياته ورؤاه في صدور الناس.

سيدي ..أيها الراحل الجليل ..هكذا ردد الرسام ..وهو يتتبع سيرة الحاج واصحابه ..استذكر (أيامنا..ذاكرتنا ..أحلامنا..فكرنا) وكل دفاتر الفكر التي طافت مدوية في مديات الدنيا والناس ..منقوش أنت في مآقي العيون وفي سويداء القلوب.."..أن يتغير سلوك الإنسان يجب أن يتغير مفهوم اللذة والمنفعة عنده."
صاد الكلام
صاد الكلام ..سحر التو’اريخ ..كان ذلك الحرف يلاحقه وينثال في ذاكرته في مثل صدى وصرخات ’كان يتمثل في هيئات وتشكلات صهرت تواريخ شتى كان الصاد يحيط باللون والفكرة ..كان يمتلك شفافية عجيبة ’ وقد عرض فكرته في تمثل تجليات الصاد في اكثر من ندوة وملتقى ..وقيل لأنه الحرف الأول من اسمه (صادق)..أو الحرف الأول من ملاذه ’فتاته وسيدة الرحلة..(صدى)أو وليدته (صحراء)أو نجله(صافي)وظل حرف الصاد يحف به في الزمن والتاريخ لكنه كان يقترب من صاد الصوفية في الإبداع ’تلك الدوال الأثيرة التي ارتبطت ( بالميم ) و(العين) و(السين) .تلك التي شكلت مدار الفكرة ومؤداها وإطارها المعرفي.
فوهرر
شاهد تلك الصورة بدا الإنزال الجوي في ساحة القرن ..واستشاطت القوات وهي تشهد عشرات اللوحات العملاقة التي ملأت المكان والتي لا يعرف متى علقت وكيف تسلل صاحبها وراح الفنان يدور في مدى ساحة القرن ..فيما كانت صورة الفوهرر والرايخ الرابع هناك هناك تكرر المأساة..الموسيقى العسكرية تتصاعد وأصوات التعبئة في كل مكان .
كانت صورة الفوهرر قد ضاعت وسط لوحاته ..وبسبب جهل القوات فقد بدءوا بتمزيق صورة الفوهرر واحرقوها ..تتآكل الصورة ولم تبق إلا العينان والشنب الصغير
أما هو فقد كان هناك مطوقا بالقوات وبينما هو في العتمة ’كان بورتريه الحاج منصور في ساحة القرن وقد طارت به بالونات ضخمة إلى الأعالي وكانت القوات بحاجة إلى مزيد من التكنولوجيا للإمساك بها ..لكنها كانت هناك في الأفق البعيد تجوب المدن السجينة والأرياف الحزينة.
# فبراير2002
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة