Sunday, August 26, 2007

جدلية الصراع الأجتماعي في قصص صعود القمر



جدلية الصراع الأجتماعي في صعود القمر
سليمان البكري

تنتمي هذه المجموعة القصصية الى واقع اجتماعي في ازمنة مختلفة تأخذ اشكالا فنية تكون اللغة فيها المعبر الأساس والدور المؤثر لأقامة علاقات انسانية تحاول ربط السلوك الأجتماعي بالوضعية النفسية لأبطال القصص فالمجموعة تعالج ظاهرة التهميش السلبي المتعمد الذي تتعرض له بعض الشخصيات كتعبير سلوكي وطبقي ، من هنا لا يمكن طرح اشكالية قصصية في المجموعة او الحديث عن البطل الأشكالي فيها او حتى البطل المحوري بمفهومه الكلاسيكي ، فالمجموعة القصصية تحتوي حالة من التشظي الكياني في فضاء اجتماعي تتعدد فيه مصادر النفوذ والتأثير : " المرأة ، الحرب ، المستقبل – البحث عن منقذ " ، هذه المحاور المألوفة تختلف النظرة اليها مما يعطي القصص ديناميكية متميزة لمواقف مختلفة من حيث الوجود الأجتماعي والمركزية التي تملك منطلقها الداخلي الخاص وتركيبتها الطبقية والثقافية ، جراء هذا تعيش شخصياات القصص حالات مختلفة لكنها واعية لدورها في مواجهة المعطيات الحضارية والأشكالات الأجتماعية .
لقد أثار العامل الجماعي في اغلب القصص نوعا من اضمحلال البطولة الفردية وتحقيق رؤى ذات هموم اجتماعية مشتركة برغم تمتع النماذج القصصية باستقلالية مرجعية تجاه الهموم العامة والكونية مما جعل ابطال القصص ينغلقون على همومهم الذاتية وينتقلون الى قيم جماعية ذات هموم انسانية اوسع .
هذا الطقس الجماعي في توجهه العام ينطلق من الذات العامة ان جاز التعبير وليست الذات الخاصة مما يقود الى تفجير اشكال التعبير التي تكبتها العلاقات الأجتماعية .
في قصة "صعود القمر" التي تحمل عنوان المجموعة يحاول القاص على لسان الراوي اقامة شكل من اشكال العلاقة الأنسانية بين بطلة القصة ووالدها . التأكيد الذي تنبض به القصة في اجتماعية الحدث وماتتسم به شفراتها من تخبط فردي يظل الأنسان من خلاله في حاجة الى الآخرين فالتوتر الذي لازم البطلة في كثافة شديدة يتملكها لأنها تتمثل الحدث الذي تمثل في علاقة روحية معتمة الأبعاد " عشاء .. وشراب .. وجسد امرأة ونوم " ، هي ترفض هذه العلاقة بحثا عن وضع انساني اكثر تفردا تتجاوز به ازمتها فهي تبحث عن المنقذ الغائب ، عن ابيهاا من اجل ( ان تكمل صنع عالمها القائم على غيابه )كما في القصة .
حضور المنقذ يجسد خلاصها في صورة تختلط فيها الرؤيا بين ماهو حلمي وما هو واقعي ليتحقق الخلاص في صورة رمزية بالغة الجمال تحقق مناخا اجتماعيا كاملا كما يرى الناقد الياس حنا الياس .
وتبدو قصة "عذابات فرجينيا وولف" الوجه الآخر لقصة " صعود القمر" ، فالبطلة تعيش ازمتها على اكثر من مستوى تأخذ المعاصرة فيه بعدها السوسيولوجي بفضاء بالغ التعقيد يهب المرأة فيه دينامية داخلية بحثا عن خلاصها في عملية مونولوج داخلي وفي مكان مغلق حيث تنتظر خلاصها ، هكذا نلاحظ البحث عن منقذ يتحقق في القصتين – الأب الفارس القادم على صهوة جواد جامح – قصة " صعود القمر " والرجل المنتظر خلف الأبواب المغلقة في قصة " عذابات فرجينيا وولف " وما على المرأتين سوى الأنتظار والتمسك بمن ينقذهما ، تحديد المسار بهذا الشكل وبناء القصتين بمستوى فني يولد في اعماق النموذجين دينامية تبرز من خلالها طبيعة التعامل بين الذات والآخر في عملية تكامل في صعود القمر وعذابات فرجينيا وولف بين بطلتي القصتين والمحيط الخارجي .
في قصة " رجل وأمرأة " رؤيا فنية يتعامل من خلالها القاص في توظيف تخصصه السينمائي بكتابة قصة تطرح هما انسانيا ازليا عبر علاقة حب يتداخل فيها الزمن العاطفي الذي يمر سريعا مع الزمن العادي بوطأته وثقله وبأعداد سينمائي تكون فيه القصة سيناريو مكتمل الملامح تتداخل فيه الأزمنة بين الماضي والحاضر موازاة الحدث الذي يؤدي دوره في اقامة علاقة داخلية لبطلي القصة تتضح من خلالها رؤيا القاص في اختزال الزمن وتكشف براعة عن هم انساني كوني يتجاوز الحالة الفردية الى حالة عامة .
في قصة " البكري " بكسر الباء التي تعني المولود الأول اختزال لمناخ اجتماعي كامل يمتد من الولادة الى الطفولة فالشباب يتجسد في تلك العلاقة الحميمة بين الأم العاملة الكادحة وابنها الذي ترعاه وتضمن مستقبله . هذه العلاقة تنجح في ربط جدلي بين حاضر وماضي الشخصيتين وما يحيطهما ولعل السياج الذي يؤكد عليه القاص يجسد حاجزا رمزيا يكشف عن فهمه للعمل القصصي في تناوله لظرف اجتماعي خاص يتعرض للعدوان وقصف الطائرات فلا يكون حاجزا بين عالمين مختلفين بل بين عالم واحد متماسك يراد تدميره والقضاء عليه – القصة تطرح رؤيا صراع اجتماعي طبقي مأساوي لكنه رغم مأساته يؤسس لكيان حضاري ويحدد هوية بناء مستقبلي .
في قصة " الأسماء كلها " يوظف القاص تخصصه السينمائي مرة ثانية فيكتب قصة قصيرة تختزل احداثها ووقائع احداثها جانبا من الحرب الأخيرة عبر ستة مشاهد متقنة الحرفة القصصية والتقطيع السينمائي لينتهي الحدث بضرب الملجأ . اختزل القاص هذه الأحداث بسيناريو محكم البناء اتخذ من الجماعة بطلا لقصته في حركة زاخرة بالمشاهد مؤثرة في العالم الخارجي ومتجاوزة الشكل الكلاسيكي المباشر لقصة الحرب حيث تلمسنا بوضوح حركة اضافية ودينامية تتعامل مع المكان والمحيط الأجتماعي .
في جانب آخر ثمة فضاءات للعلاقة الأجتماعية نسيجها المعاناة والطموح والنضال من اجل تحقيق الأحلام الذاتية على مستويات عدة تاريخية وزمنية واجتماعية فبعض العلاقات تحكم على العناصر المؤثرة فيها بالتهميش والأندثار والضياع كما في قصة مدن نائية والعلاقة المنسية بين الطالبة ومدرستها وهذا يؤدي احيانا الى فكرة التحدي المضاد والأقتناع بأهمية النضال في تجاوز حالة الغياب والضياع وفقد الأحبة وتعويض غيابهم .
وتحقق قصة " هذا مصباحك ياعبد الله " رؤيا متقدمة في هذا الصدد بعيدا عن المباشرة فالشهداء يعوضون غيابهم برموز حية فاعلة ولعل المصباح في القصة يكشف هذه الحالة بابعاد فنية تحمل معنى تعويض غياب الشهداء بلمسات تعانق ذات الأنسان فتهبها القناعة والسكون والرحمة .وفي موقف مضاد تقدم قصة " البحيرة " ممارسة تخترق قدسية العلاقة الأجتماعية الا انها في محصلتها النهائية ترفد رؤيا المجموعة في الكشف القصصي لتحوله الى شاهد حضاري يلقي الضوء على طبيعة العلاقات والبناء السوسيولوجي الثقافي القائم وتهبها توجيها انسانيا معاصرا لأن العلاقات كما هو شأنها تتلون محتوياتها ودلالاتها لتصبح كما في القصص التي اشرنا اليها رمزا من رموز التحضر والتقاليد الراقية لذلك تختفي العلاقات الضاغطة المهيمنة لتحل محلها فضاءات تتعايش داخلها كيانات متنافرة في جوهرها ومتواصلة في ظاهرها .
....
ان امتياز قصص صعود القمر يكمن في عملية الغوص في الذات الجماعية عبر مرورها بالذات الفردية بتقنيات بارعة يكون للغة فيها اثرها البارز في الكشف عن ملامح اسلوب القاص وتؤكد حقيقة مفادها ان الهموم الأنسانية باتساعها الجماعي والذاتي يمكن تناولها بأكثر الأساليب حداثة في الفن القصصي بتقنية جمالية ومضمونية حددت ملامح هوية التجربة القصصة للقاص طاهر عبد مسلم ومقدار اضافته للمنجز القصصي العراقي المعاصر .
26-6-1994