Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل الثالث

رواية :الكائن الأفتراضي - الفصل الثالث


يمضي حاتم الليل وهو يخطط للذهاب الى هناك ... للقاء ليلى في موعد اسبوعي محسوب ... يفترض ان تحضر عدة التنكر , والبطاقة الشخصية المزيفة ويجب عليه ان يتقمص شخصية اخرى , عليه من الآن ان يعيش على صورة انسان افتراضي من لحم ودم واب وام واسرة ومحل سكنى ... اذ من المتوقع ان يقع بين يدي احدى الدوريات ويجري التحقيق معه والتحري عن هويته وعمن يعرف ومن هم جيرانه ومااسم عشيرته وشيخ عشيرته واسم مختار المحلة ومن هم وجهاؤها ... واذا دار في خاطر الدورية ان تتصل بشخص يكفله ويؤيد معرفته به ويزكيه فمن يكون ذاك الشخص وماهو رقم هاتفه ؟
هذه الجدلية كانت قد اسست نصا جديدا وشخصية عليها ان تحفظ النص عن ظهر قلب وعلى هذا سيتأمل وجهه في المرآة ... غضون وتجاعيد تكبر تحت العتمة , يد اخرى تمتد في ساعة الليل هذه , يدها , اصابعها , تلامس ذقنك وانفاسها تتدفق على بشرتك ونبضها يسمع وحرارتها تتسرب وتتكامل اشراقتها ويكمل موسم البهجة الأفتراضي , لتنفض انت في نزوعك الجنوني ... في تلك الأردية التي يتداخل جسدك في ثناياها , نحيفا , شقيا , ملاحقا , مطرودا من دائرة الناس الذين تركوك هكذا ... بل انت الذي تركتهم .. انت الذي قصرت , انت الذي وجدت في السينما العتيقة والرحلة بينها واطلال الصالحية والقصة تتكامل بديلا عن كل شيء .. اتنكر هذا ... هل تنكره حقا ؟ والقصة تتكامل مجددا وسريعا فقد حضر هيثم للمرة الأخيرة : كان الشقيق الأخير , آخر العنقود واكثرهم الفة مع حاتم .. الشقيق الأروع الذي كان قطعة من كبد حاتم ذاته ... ياالهي مااروع هيثم ومااطيبه , ومااجمله ...
حاتم ... الاتشعر ان الزمن قد طوق وجودنا .
حاتم ... الا تشعر ان العجلة قد دارت والشاطر من يركب آخر العربات .
حاتم ... الا تشعر ان الآخرين هناك غير معنيين بنا ولا بأحزاننا .
حاتم ... الا تشعر ان ليلى ذاتها تتعذب من ايقاع هذه الحياة .
حاتم ... الا تشعر ان الظلم ظلمات وان لاوقت لتجميل البشاعة والوحشية بأي فيلم او مسرحية .
حاتم .... حاتم ..... حاتم ....
( صرخ في وجهي ... وبكى على صدري وكان في يده جواز السفر .. مختوما وجاهزا , وحقيبته عند باب السينما .. وليلى ملتصقة بالحائط الخشبي , قرب جهاز العرض , فتحت كفيها والتصقت بالجدار وهي تصغي لآخر الكلمات ..
سأهاجر ياحاتم ... زمن الهجرة ... اللاعودة ... سأترك عندك اقراص الكومبيوتر والبرامج واوراق الجامعة اذ قد احتاجها يوما فترسلها لي ... اما الآن فلا اريد سوى عمري .. هل تدرك هذا ؟ لاشيء .. انا في الثانية والعشرين لكنني قلق ومرعوب ياحاتم .. خائف من اصدقائي .. وشبح فاضل حسون يلاحقني .. امامي ركلوه وكسروا فكه وذراعه .. لأنه القى نكتة عابرة ... ثم عدلت وسوقت وكتب تقرير بها وتحطم فاضل حسون .. ولذا صرت اهرب من النكات ولا اريد ان اضحك ابدا ... قررت الصوم وفاء لفاضل حسون ولم املك يومها الا ان اجري الى منزله فتحتضني امه .. شممت في حضنها رائحة امي وامهات كثيرات ...
هل تدرك هذا ؟
التفت الى الوراء ولاح ظل ليلى في العتمة , جرى نحوها مثل طفل عثر على امه ... كما هي سيرته الطفولية وبساطته .. القى وجهه بين كفيها ... وقبلهما ... وانهار الأثنان ونزلا ببطء الى الأرض يحتضن كل منهما الآخر , كانت ليلى تتطلع للأفق بعينين شاخصتين بينما يواصل هيثم نشيجه وتختلط كلماته فلا يبين منها : كلميه ... اقنعيه ... لاحياة هانئة لي بدونكما .
ونهض فجأة , وكأنه لم ينشج , قبل رأس ليلى وجبينها , وقبل يدي ... وحمل حقيبته وغاب ...وأضاف نفسه الى منتهى وسرور والأم ... ملوا مراسلتي ومعاتبتي وكثيرا ما تركت التلفون وعبره نداءاتهم الملتاعة .. ومضيت اما الى السينما او الى ليلى ...
كان المشروع اكبر منهم .. اكبر بكثير...

دوى في الأفق ضجيج العربات التي تجرها الجياد في موكب هاملت المعذب ... من تراه خان القضية ؟ ومن خان المبادئ ؟ من الذي اختطف الصولجان واعطاه للأقزام ... من ؟
كان حاتم منجذبا لذلك العالم الجذل ... محملا بقضيتين : حصة العائلة او ملكيتها لمزرعة الدرويش , وحصة العائلة او ملكيتها للأرض التي تقف عليها السينما ...
مزرعة الدرويش تكاثر فيها الأقزام بانتظام , والسينما ليست فيها سوى حجرتين , تزوجنا وتشردنا وهما على حالهما .. مزرعة الدرويش كانت بقايا ازمنة الوهم واللاجدوى ... انغمر الأب الشجاع في المعمعة , انهمك في اطوار حياة عجيبة لا يقر لها قرار ..

..........

وقف هيثم في ذلك المدار المجهول , مدار الحدود البرية الطويلة بين العراق والأردن , لاحت الصحراء مترامية وكثبان رملية تجمعت بالقرب منها حطام سيارات وبقايا انقاض , لاشيء على امتداد ذلك المجهول غير رعاة يلوحون في عمق الصحراء , شعر بانقباض فاقمه ذلك الأحساس غير المسبوق بالأنفصال عن حاتم , عن التوأم , هكذا دفعة واحدة .. بدا متوترا , غير قادر على الأسترخاء ومشاركة ركاب الحافلة هذا النوم الأضطراري حيث لاشيء يفعلونه بعدما استنفدوا الحديث عن الحصار وصعود وهبوط الدولار واللجنة الأولمبية وتلفزيون الشباب وشركة لحوم الدورة ومنتجع الثرثار ... و .. و ..
وتذبذب الكلام التقليدي المكرر , ولم يبق غير انتظار الحدود ومحنة الحدود , مرت خاطفة اللافتات مجهولة الدلالة مع حركة الحافلة ولم يتبينها هيثم ولا غيره ... كم بقي للوصول الى الحدود ... ومع الأقتراب تفاقم الأحساس بالخوف من تشابه الأسماء ومن المنع ومن اخطاء الحاسبة وامتدت يده الى جواز السفر وصار يشك تدريجيا في كل ورقة وامضاء وختم , تسرب الى نفسه احساس بعدم الثقة بأي شيء , وصار امرا حتميا القاء النفس في المجهول ... عادت صورة حاتم مجددا , وشعر بحاجة اكبر لوجوده , اختلجت انفاسه وانقبض صدره وكره كل الأحاسيس التي في داخله في تلك اللحظة وشعر ان الدنيا قد تكاتفت بكل ثقلها خلف واجهة زجاجية واحدة تخفي وراءها الروادع والخوف والممنوع والسلطات والتاريخ والمبادئ وقرارات الحكومة والقيم الوطنية والتقارير السرية والأحزاب الممنوعة ..
وشعر ان ذاته تتكاثف وتتحول بالتدريج الى وجود محكوم بختم ( المغادرة ...طريبيل .... الساعة ...اليوم ... الشهر ...السنة ) الختم هو خلاصه من هذا الرعب .. تجمعت الناس في صالة باردة في ذلك الشتاء ... ودخلت ثلة من الراقصات والممثلين الذين تكررت وجوههم على المسارح , كانوا وفدا على مايبدو متجها لأحياء مهرجان فني في عمان ... كانوا مسترخين الى حد ما يتبادلون النكات , يتداولونها في شكل جمل مقطعة وكلمات سرية , تمنى لو امتلك ولو جزءا من احساسهم بالأسترخاء والمرح ... لو كان واحدا منهم ... من هذه العائلة الفنية الراقصة , تمنى لو تحررت روحه من هذا القلق , هذا الرعب , تكاثفت الوجوه من حوله , لم يعد يرى الا الوجوه المتجهمة الخائفة ... فكر كيف مرت امه واختاه عبر هذه البوابة .. كيف تهاوت قواه مع اختفاء القسم الأكبر من المسافرين بعد المناداة عليهم لتسلم جوازاتهم ... شعر انه بتقادم الزمن سيبقى وحيدا .. وسينفردون به ... شعر بالغثيان وهو يتطلع الى صورة مكبرة للشخصية ومن حولها تعليمات السفر والكمارك ووصايا حكومية للمسافرين ... تمزقت الكلمات والوصايا واجزاء من الصورة وتبعثرت في عقله , ولم يعد يرى غير الكف المكدودة الخشنة التي تلوح من خلف الزجاج , مرت عيناه سريعا باتجاه النافذة عندما لاحت سيارة بصندوق احمر كتب عليها ( أ . ع ) , الأنضباط العسكري , وشعر ان الصندوق قد اعد من اجله لألقائه في ذلك الجب المجهول ...
صاح الضابط باسمه فجأة , تقدم سريعا باتجاه النافذة ..
- انت هيثم ؟
- نعم ... سيدي
- انت طالب لو خريج ؟
- لا .. طالب سيدي
- من سمح لك بالسفر قبل اكمال الخدمة العسكرية ؟
- ت...ت .. تقرير طبي سيدي
- ما ينفع .. ماينفع .. كيف استطعت استخراج الجواز , من الذي صرفه لك ؟ هل قمت بالتزوير في الوثائق ؟
- لا ... لا .. سيدي ابدا
- اهلك وين ؟
- بعمان سيدي
- ماذا يفعلون ؟
- يزورون اقرباء لنا سيدي
- معك عملة صعبة ؟
- 50 دولار بس .. سيدي
- وبعد ...؟
- و 10 دولارات خردة سيدي .
- ممنوع .. هل تعرف ماعقوبة هذا ؟ واوراقك المزورة ؟
- ..............
- امشي الى نهاية الممر وانتظر تسفيرك لبغداد .. مفهوم .
- س...س .... بس ... سيدي....
- امشي بلا كلام ...
شعرت ليلى بانقباض وغم وهي تقرأ سطور هيثم ... المظروف الممزق امامها وصورة هيثم وامه واختيه في متنزه اللويبدة بعمان ...

" عزيزتي ليلى ...
لم اكن اتخيل انني سأكون هنا ... فعندما حللت بعد منتصف الليل امام باب الشقة في جبل اللويبدة لم اكن اتخيل ابدا صورة امي وهي تفتح الباب مغالبة النعاس , ثم القي نفسي في اطياب روحها والعبق القادم من ثيابها , هذا ماحصل .. وقعت المعجزة بعد احتجاز ساعات مت خلالها الف مرة , وشاهدت اناسا معصوبي العيون ومكبلي الأيدي وهم يمرون من امامي ليساقوا الى التحقيق في بغداد بسبب تهم التزوير او الخروج من العراق بصفة غير قانونية او اسباب امنية وماشابه .. كنت انتظر دوري كي اسلمهم حطام حياتي وكنت اقرأ آيات ربي , وتتردد في رأسي كل الصلوات المقدسة التي صليتها وكل الأوراد وخطابات زيارة آل البيت والصحابة والصالحين ...وعشت اجواء يونس وهو في جوف الحوت ... تنشقت ذلك العبق الرباني وتساءلت : هل هذا الشرطي هو اكبر من قدرة الله .. هل سيسوقني الى الموت في خارج ارادة الله ؟ , وهل بأمكانه ان يميتني قبل لحظة موتي المقررة من السماء ؟
وشعرت ان كل شيء سائر الى طريقه , وفجأة تبدد كل شيء , اخذوا الدولارات وبضع مقتنيات في شكل هدايا بحجة ان خروجها ممنوع , والقى الشرطي جواز سفري بعجرفة امامي وهو يغمغم : هاك .. اطلع ..ولي ..
قذف كلماته بكل مااوتي من كراهية واشمئزاز ولما حاول الحارس في الخارج ايقافي ثانية , صرخ فيه " خليه ينقلع ... زمال ".


.............
لاحت امام المحمية النسائية قوافل سيارات واصطخب الحرس فجأة وتراكضوا ... علمت ليلى ان ضيوفا كثرا قادمون , سارعت للغرفة الداخلية على عجل , ارتدت اطقم التنكر المعتادة , ومرت جحافل سيارات ذات دفع رباعي وزجاج معتم , سيارات كثيرة توزعت في المكان وسارع رجال شرطة مدججون بالأسلحة الرشاشة بالأنتشار على السطوح وفي الزوايا , نزل اناس اجانب بنصف بنطلونات او بسراويل جينز ونظارا ت سود , والسماعات في آذانهم واجهزة الأتصال في ايديهم , اخرجوا صناديق معدنية كبيرة . ونصبوا اجهزة ارسال للأقمار الصناعية.. اجروا اتصالات سريعة وجاء ممثل الحكومة .
ساعة بك بن :" لجنة انموفيك التابعة للأمم المتحدة في مهمة روتينية ".
داروا في الأرجاء , تحسسوا الأرض والجدران والسطوح بأجهزة لاقطة , نبشوا المطابخ وغرف النوم , قلبوا غرفة الحراس رأسا على عقب وكذلك فعلوا بالمخزن الكبير واخذوا عينات من تربة الحدائق وسط دهشة النزيلات اللائي طلبت اليهن ليلى العودة الى عملهن , وكأن شيئا لم يكن ...
خرجت الزفة مخلفة وراءها لمسات ملحوظة على المكان , اعتذر الوفد واهدى صناديق من الحليب المجفف والأجبان المعلبة واطعمة اخرى محفوظة ... لم يكن بالأمكان قبولها الا بعد ان وافق المسؤول المرافق لفريق التفتيش واوعز بتسلمها وتتابعت تعليقاتهن , ياليت يأتون كل يوم ويجلبون هذه الصناديق .
كانت الأجواء مضطربة وعادت مجددا المظاهرات المحتقنة والناس المتحيرين في مستقبلهم , الأسواق تبتلع مرتبات صغار الموظفين ومحن الوطن ترميهم على رصيف المجهول , انتشرت في ظاهر البلاد مظاهر غريبة سميت فسادا وسميت سرقات , مرت كل هذه الخواطر في عقل سعاد وهي ترمق عبر النافذة العلوية حوامة بيضاء كتب على جوانبها بحروف كبيرة وبارزة ( UN ) وظلت الحوامة تمسح المكان وربما تصوره او توفر حماية للوفود الأجنبية التي اجتاحت المكان . وظهر في الأخبار ان فرق المفتشين قد اجتاحت مصحة نفسية ودارا للعجزة .
ومر ليل المفتشين كالمعتاد , ولم نكن انا وريمة قد نمنا بعد عندما طرق بابنا طرقا خفيفا , كانت ليلى في حلتها البنية المشرقة والروب الكحلي , وقد سرحت شعرها وبدت اكثر سحرا وجمالا , استغربت مظهرها , توقفت عند الباب ثم مشت في هدوء الى كرسيها الهزاز الذي تركته في الغرفة , كانت هيأتها التي تداخل فيها قلق هذا الزمن بالترقب بسحر الأنوثة وقوة الشخصية وكونت كلها مزيجا فريدا , كانت لحظتها مثل اية قيمة نبيلة في البلاد يجري قضم مكوناتها بالتدريج بسبب الخوف من المستقبل المجهول : خوف من الوشايات والأعتقال المفضي الى نهاية قاتمة والخوف من كوارث جديدة تتبع هذا التناطح مع القوى الخارجية .
ومع هذا حافظت هي على هذا الأمتزاج العجيب والأيمان بالمستقبل ... جرنا حديث معتاد الى تجربة فساتين ومآزر قديمة مخزونة , وجربنا ان نغير اشكالنا تباعا باستخدام انواع متعددة من الماكياج , استخدمنا اضاءة المكان , وارتدينا اثوابا كحلية فضفاضة وشفافة , اطلقنا شعرنا منسابا واكتحلنا بكحل ازرق , ووجدنا صبغة زرقاء لشفاهنا , ارتدينا قفازات زرقا وبدونا كائنين غريبين , وقد عقدت الدهشة لسان ريمة , كنا نجرب درس اليوغا التقليدي , وندور في فلك ايقاعات عراقية تقليدية , كنا نشهد صورا متلاحقة : صورة حاتم المطارد الفريد , وصورة وليد الغائب في المجهول , استحضرنا صوتيهما ونبوغهما وعشنا لحظة اندماجنا بهما , وقربهما منا , ونحن ندور في حركات اليوغا والصور تتكاثف على شاشة سيطرت عليها ريمة , وراحت تحرك اللقطات تباعا من الشريط , كان حاتم قد ارسله توا , صورا التقطها من مكان سري لأجتياح الحراس , قبالة المتحف , واستحواذهم على المكان , ثم ما جرى من وقائع بسبب باب عشتار المزيف الذي يحتل واجهة المتحف ..
كان ذلك نوعا من الجلد المزدوج بالرغبة في الأمتلاك , جلد العائلات, كانت تصطف في مشهد كأنه تمثيلي , كان الليل قد خيم على المكان , والحراس مقنعون لاتبدو الا عيونهم وفي ايديهم هراوات يجلدون الحشد بها ... وعادت صورة وليد هذه المرة ايضا , ووجدت سعاد بين الناس ظلا لوليد , كيانا مشابها له او هو نفسه , اجل هو نفسه .. وصرخت ونشجت , وابتسمت وهي تهز ليلى , انه هو .. هو , وجلست بالقرب من الشاشة وقد جاءت سيارات لشحن الخارجين على القانون وحشرت اولئك الناس دفعة واحدة واختفت في الأفق البعيد.. وسادت الشاشة عتمة كاملة ثم نمش اشبه بأسراب من الذباب المتراعش حيث تدفق الأحساس الى وجه سعاد فشعرت بوخزات شديدة على وجهها وذراعها وساقيها ... وسقطت مغشيا عليها كما في كل مرة تعصف بها اطياف وليد ..
انقطعت ريمة عن المكان , ونزلت سلم المبنى , لسعها برد قادم من الحدائق , ومضت الى حيث صارت في مواجهة قمر ذهبي مكتمل تمر من امامه بقع واهنة من الغيم , نظرت بعيدا , ورأت السلم البلوري المؤدي الى الغرفتين المنفصلتين : غرفة الأم وغرفة الأب , فيما تزدحم غرفتها الوردية بدمى وفيلة وقرود وكلاب وطيور وارانب وزرافات ونمور وغزلان , كانت هي حديقة حيوان من كائنات سالبة , صامتة , مسلوبة الحياة والأرادة , كانت حيوانات انيقة حقا , ترتدي جلودا او وبرا او اصوافا او مخملا نظيفا مشرقا , وبعضها يرتدي قبعات واحذية لكنها كائنات بلا حياة , كائنات منتزعة من بيئتها , تلوح مثل هياكل بلا روح ...حفظت ريمة اماكنها وعقدت صداقات مع كل كائن وروت لكل واحد اسرارها , وما كانت تشاهده في الغرفتين المجاورتين , وما كان يتناهى لها من اصوات , وماكانت تحمله المكالمات التلفونية للأم من قصص وانفعالات .
كانت الحيوانات عندها صندوقا ضخما للسر , تمر الأم الصلبة المتمكنة مختالة كالطاووس , تمر بأثواب الحرير واطقم القلائد والخواتم ومقتنيات الترف , وبسحابة العطر التي تسبقها وتحوم من حولها , لتتفقد البنت الصغيرة الوحيدة .. فتجد ان كل شيء على مايرام : البنت مندمجة مع الحيوانات ومنقطعة عن العالم .. انها تلهو ... انها تعيش حياتها ... انها تكبر , ومع تقادم اعياد ميلاد الطفلة كانت الكائنات الحيوانية تكبر في حجمها ويسرع الفراشون والخدم في نقل صناديق جديدة من الحيوانات والتخلص من الحيوانات الصغيرة ..سمعت قصة الأم تماما , وادركت في عقلها كيف يمارس الكبار غواياتهم وخبثهم , وكيف يلهون , ويخادعون , كيف يسرقون سعادات الآخرين , كيف يكونون انانيين , كل هذا تفصح عنه همساتهم وضحكاتهم ومواعيدهم ولقاءاتهم وصفقاتهم , كانت تدابير الأم وخططها للتملك قد دخلت دائرة مهمة من المضاربين المهمين , الذين يرتدون في النهار الثياب الرسمية ويدافعون عن الوطن ويبحثون عن اعداء الوطن بلا هوادة , ويرتدون في الليل الثياب التي تفصلها هي , كانت تدرك ان من يمسكها من اليد التي توجعها لن يتركها هكذا وسيلتهمها لحما ويرميها عظما , ولهذا شعرت انها لم توجد لوظائف مباشرة تنبئ عنها النظرة القروية الماجنة المشتعلة بالرغبة , حفظت وجوه اولئك الذين يصبغون شعرههم بالأسود الفاحم الكريه ويتركون قليلا من الشيب في الشارب , حفظت ظاهر اكفهم المجعدة المكدودة التي لم تفلح النعمة التي يرفلون بها ان تنتشلها من ذاك الترهل واالبقع الداكنة والأوردة النافرة .. حفظت وجوه فتيان ادمنوا مجالس الغجر ورقصات الغجر واغانيهم , وصورة فتياتهم وطقوسهم وماكياج نسائهم البدائي وأزيائهم اللماعة وطريقة الأغواء البدائية وحتى الرائحة الخانقة المنبعثة من المكان ... كونت اسطورتها الخاصة من تلك الأحداث والأشكال .. وكانت تلك المفردات والجمل المتناثرة ثم الصورة التي تختزنها الأم في مكان ما من جناحها العامر , كل تلك الأشياء رأتها ريمة او عاشتها او سمعت عنها او لامستها وصار من همومها ان تروي كل يوم قصة لحيوان من الحيوانات حول ماشهدته او عثرت عليه , كانت تنام باكرا كما تأمرها الأم .. تطفئ الأضواء ويلوح القمر الذهبي شاهدا في الأعالي عليها وعلى كينونتها الصامتة المتوحدة ... وما ان يطل على غرفتها ويمسح نوره وجهها وسريرها وحيواناتها حتى تدب دبيبا واهنا وتجلس جلستها الأثيرة في حجرة ضيوف ملاصقة لحجرة الأم ...لتبدأ فصول جديدة ... من تلك الحياة المجهولة .
كانت مملكة الأم تمتد على غرف عديدة تزهو بأثاث فخم وملامح ترف , كانت هنالك اقسام للضيوف ومغاطس وحمامات غربية وشرفات متعددة , كان هنالك تأثيث متنوع بحسب الألوان وانواع الأطقم التي تؤثث كل غرفة , وواقعيا لم يكن هنالك من ضيوف , سوى ان الأم قد تمضي ليلة او ليلتين في غرفة ثم تعود الى مكانها المفضل حيث اتصالاتها وشاشات العرض الفيلمي ومتطلبات الرفاهية وفي وسط هذا العالم البهيج من الثراء , كان هنالك في مكان ما خدم وحراس ومحاسبون , كانت مستودعات وتجارة وكان هنالك سماسرة ووسطاء , واحيانا كانت هنالك سكرتيرات نشيطات وانيقات يجري استئجارهن لمهمة من مهام اتمام العقود والأتفاقيات .
ولم تكن الأم لتتيح لأحد ان يخترق عالمها الأحادي هذا , ولم يحصل ان مر به كائن غريب , وفي وسط نبوغها ونجاحها لم تقف يوما ضعيفة , او خائفة , ولم تفقد تماسكها وقوتها , لم يقع ذلك حقا غير مرة .. وسرعان مااوقفت انسكاب دمعتها ... ودخلت مجددا في حلبة الحياة .
كانت الصورة ذاتها المخزونة في عقلها , قد بدأت تتشظى في اماكن اخرى في الأعلام وعلى المسارح وفي الحفلات واحتفالات الحكومة .. صورة الغجر وعشاقهم الذين صبغوا شعرهم باللون الفاحم ولم يفلحوا في الحد من الترهل والتجاعيد والذقن البيضاء والأكف المجعدة .
كان الغجر قد دخلوا الى الثقافة من اوسع الأبواب : حيث غصت المسارح بهم , هي غير معنية بهذا لكنها حضرت يوما بالمصادفة حفلا ترددت فيه كلمات مفادها ان المسارح ادوات للثقافة ومقولات مفادها : اعطني مسرحا اعطيك شعبا واعيا ... وتذكرت تلك العبارات وهي تحضر عرضا قد غص بمشاهد الغجريات وهن يمارسن وظائفهن المعتادة في التعبير الجسدي عن انفسهن , وبدأت الكائنات الغجرية الجديدة تكتسب بعض صفات وازياء وملامح مهجنة هي خليط من صور ممثلات بائدات وصور غجريات قرويات تلتصق بهن روائح ومكونات تميزهن عن غيرهن , وشاهدت بأم عينها طوابير طويلة من الناس , من العائلات والأطفال والرجال المهابين وهم يتدفقون على المسارح كي ينهلوا من الثقافة التي تقدمها الغجريات الجديدات اللائي صرن يتمتعن بحظوة وحماية واهتمام غير مسبوق .
كانت دنيا الغجر قد احتلت قلب المدينة فجأة , وصارت اسماء غجريات يحيين الليالي المسرحية ويعتلين خشبات اهم مسارح العاصمة صارت اسماؤهن لازمة تتردد في الشوارع والأسواق والمقاهي , وصارت صورهن تباع وتشترى , كانت حظوة عجيبة ماانفكت تتسع دائرتها ويكثر مريدوها ... وكلما اتسعت الظاهرة وكبرت , كانت كلمة اعطني مسرحا اعطيك غجرا بديلة لذلك القول الشائع .


.........

مر ليل طويل على حاتم .. وكان عليه ان يجد سبيلا ما للوفاء بأمانة استرجاع بستان الدرويش ... كان الأقزام قد نبغوا اكثر ... وعرف بعضهم اللعبة السائدة في البلاد ... ولأن لهم حرية الحركة في اي مكان فلا هم مطالبون بالألتحاق بالجيش ولا الدخول في الحرب وهم مهمشون , فلا يخاف من ارتكابهم حماقات سياسية ولأن لااحد يمكن ان يشي بهم لدى السلطات ... لهذا كله تحرك بعضهم دون تردد وسأل العارفين بأمور العقارات وتسجيل الأراضي وحقوق التملك وبدأوا يعثرون على مداخل مفيدة , وهم خلال هذا يستندون الى كونهم اناسا معوقين , ومشردين , احيوا ارضا للحكومة كانت بالأمس بورا , وساحة للنفايات ووكرا للحرامية والخارجين على القانون , وقد حرسوا الأرض وبحسب مااوصت به الحكومة ... ووصلت القصة الى مسامع المحافظ الذي دهش اول الأمر ولم يصدق , ولكن عندما جلبت له الوثائق وصور الأقزام وهم يشمرون عن سواعدهم ويمسكون عدد الزراعة ويفتحون السواقي ويعتنون بالأرض تأكد ان تلك القصة حقيقية تماما , ولهذا نقلها لمن يطربه سماع القصص الطريفة من المسؤولين الأعلى وعلى انها خرق للحصار وعبور فريد من نوعه .. وزاد على ذلك ان منح الأقزام فرصة اخرى للبقاء حيث هم والأمتناع عن سماع اية دعاوى يجري تحريكها لأخراجهم من الأرض ..
سمع حاتم القصة كاملة .. وهو في السينما , نقلها له احد الأوفياء لأبيه , ممن كان هو القائم على بستان الدرويش قبل ان يذهب الى مصلحة اخرى ... وبدا متحيرا في الخطوة التي عليه اتخاذها ... الذهاب للأقزام , الذهاب للمحافظ , اللجوء للمحاكم , البحث عن وسطاء لأقناع الأقزام ..
كانت العريضة التي كتبها محام تطوع لخدمة الأقزام مدعمة بقوانين وقرارات قام بأدراجها تباعا , تنظم عمليات تملك الأراضي وتعطي حقوقا لمن يستصلح الأرض , ويتيح استئجارها , في اقل تقدير , وكانت العريضة مدعمة ايضا بلمسات استعطاف من سلسلة المراجع للنظر انسانيا لمحنة هؤلاء القوم رجالا ونساءً واطفالا , الذين سيتشردون وليس ذلك فقط , بل انهم سيلقون من المجتمع اسوأ معاملة من السخرية والأهانة والأيذاء ... واما اولادهم فأنى لهم الذهاب الى المدارس وقد اوجدوا هم مدرستهم الخاصة ...
وترددت في رأس حاتم كلمة الرجل " انت ما مشارك ...." و " انا خائف عليك من الظهور العلني " ...كانت كلمة ( غير مشارك ) معضلة جديدة , فالمشاركون هم الذين صاروا يحظون بالرضا لمشاركتهم في مهام الحكومة وتطوعهم في حملاتها ضد الأعداء . والمشكلة الأخرى التي تضاف لهذا هو فقدان " الشهادة " . الشهادة التي تحمل الرموز الكبيرة التي تكشف انحدار السلالة والأرومة النقية التي ينتمي حاتم اليها ... من هو ...ومن اية نطفة جاء ؟ وتحت اي احتلال او غزو التحم اجداده كي يصل التناسل اليه .
عاد حاتم اليهم هذه المرة في خلسة من نهار جمعة من الجمعات , لأن الدوريات والسيطرات والمتلصصين والرقباء يقلون نوعا ما , في هذا النهار قطع الطريق اليهم مشيا , مر بالشواكة وجسر الشهداء وسار بمحاذاة دجلة والرحمانية , وانحدر نحو العطيفية ودخل بساتين النخيل الممتدة نحو الكاظمية ولاحت اطلال بستان الدرويش في خياله ... لكنها كانت هذه المرة في تكوين آخر اقترن بالناس في جسر ديالى ... بطيف ليلى وشذاها , مر به هذا الخاطر وهو يعبر الجسر , كان مثل هائم على وجهه, لحيته لم يحلقها منذ ايام وشعره كما هو , اختلط سواده بشعيرات بيض , سروال القديفة الأسود والكنزة الزرقاء .
لاح بستان الدرويش مسبوقا بعمود دخان من مكان ما في داخل البستان , اقترب من السياج وعبر منافذه شهد الأقزام منتشرين في المكان , ونزلت المروحية من عليائها فانتشر الذعر في اسراب العصافير والفواخت , ولاح من جانب الطائرة اناس يستخدمون النواظير والكاميرات ويتابعون تفاصيل المكان , كانت البيانات الحماسية قد استحوذت على الأذاعة , وكانت هنالك طائرات غير مرئية قد مست السيادة وصار للبلاد خطوط طول وعرض وتقسيمات لم يعد حاتم يعرف ما موقعه في وسطها , ولا كيف يكون " مشاركا " في مقولات الحكومة حول تنظيف السيادة مما علق بها ... كانت السيادة في المكان غير معلومة لأي من الأقزام فهم متشاركون متضامنون في وظائفهم وقراراتهم .. يتأملهم فلا يرى الا بضعة نفر لايلوون على شيء لكنه ما ان يختلط بهم حتى يبدأون بالخروج من جحور ومخابئ واكواخ عديدة منتشرة في بستان الدرويش , وتلوح سحنات غريبة , فمنهم كهول بذقون وشوارب وشعر ابيض كث ومنهم اولاد حمر البشرة , بعيون ملونة , ورؤوس كبيرة , لاعلاقة لها في ضخامتها بقصر القامة , وآخرون بوجوه وملامح الهنود , السمرة المحروقة , الشعر الأسود الداكن , ونوع آخر من ضخام الأنوف ومجعدي الشعر , وشعر حاتم انه امام انسال بشرية خليطة اعادته الى قصة ( الشهادة ) التي تثبت الأرومة والأنتماء... وتفكر في اوراق هؤلاء القوم وسلالتهم وتاريخهم , وثناء المحافظ عليهم : " كلنا عراقيون .. لايوجد فرق " ... بهذه الكلمات بادره واحد منهم , ومضى يردد مصطلحات كثيرة اخرى التقطها من المذياع مثل المنعطف الخطير , والعبور المحقق , واندحار الأعداء , وشعب الذرى , والشهداء في عليين , والماجدات المجاهدات , والذي ينتخي ولا ينتخي , والأستحقاق ... حتى صدعني وسألته عن اي شيء لأخرسه , عن الطقس والسماء , عن الزرع والدخان , عن الرقص والغناء , عن التعاويذ والأساطير , وتدريجيا بدأت اشعر بالرضا والأطمئنان , ان القوم لايستحقون كل ذلك القلق ... فقد وجدتني العب الكرة مع الصغار , ونضحك كثيرا من اخطاء بعضنا وشهدت قزمات صغيرات يحتمين وراء الأشجار ويرمقنني باستغراب لأنني الزائر الطويل الوحيد الذي حل بأرضهم او قبل ان يشاركهم اللعب بعد ان كرهوا انفسهم من جراء السخرية التي تلاحقهم .
ووجدتني امضي الليل معهم , واجد في الخروج في تلك الساعة مخاطرة ولا جدوى , ولهذا قررت ان اترك لنفسي متسعا ان اقرأ هؤلاء القوم واتفاهم معهم , لكن وبالتدريج تجسمت امامي معضلة حقيقية , فهؤلاء قد اصبحوا بالتدريج جزءا من بستان الدرويش ولايمكن فصلهم عن ارض البستان ولا عن شجره وزرعه وترابه وسواقيه ... وكانوا يتصرفون وكأنهم في ديارهم , وبيوتهم وارضهم التي يملكونها , ووجدت انهم فهموا جيدا اصول اللعبة وعرفوا منافذ الدخول الى دوائر الحكومة لغرض التشكي اوالمطالبة, كما ان لهم صلة طيبة برجالات الشرطة في المركز القريب من بستان الدرويش , وانهم قد اهدوا مسؤولين حكوميين شيئا من غلة البستان , من تمره وفاكهته وبهذا مدوا جسورا معهم .
تأملت في الأفق البعيد متسائلا عني وعن هذه الوصية بالحفاظ على سيادة البستان ثم الأستعداد لتقاسمه بين الورثة , بيع البستان والأستعداد للهجرة , هذا هو الأفتراض , ان تبيع البستان وترحل , لكنني لااريد ان ارحل الآن .
تكونت في رأسي فكرة اخرى , ان هنالك آثارا مؤكدة من اناس يدخلون البستان ليلا , اناس بسيارات فارهة وسلطات غير معلومة , وقد اسسوا لهم جناحا يمضون فيه سهرات بصحبة فتيات فيما الأقزام منزوين داخل جحورهم , وربما اسهم بعضهم في الخدمة او اظهار الرضا والطاعة لعلية القوم وقبول مشاكساتهم وسخريتهم . كان المشهد الذي لم اكن اتوقعه قد تحقق امامي دفعة واحدة وانا اغادر البستان , فجأة قطع الشارع الرئيس واتجهت سيارة فيها حرس اشداء صوب الطريق الفرعي المؤدي للبستان , وماهي الا دقائق حتى لاحت سيارات دفع رباعي ضخمة زجاجها معتم واندفعت في ا قصى سرعة وسيطرت على المكان ... وتأكدت عندها ان بستان الدرويش قد اصبح تحت السيطرة ولاسبيل قريبا لأنتشاله مما هو فيه , وتأكدت ان الأقزام قد اكتفوا بوجودهم و كونهم خدما لسلطات اقوى منهم , وانهم ماانفكوا يؤدون فروض الطاعة لقوة متمكنة احتوت كل شيء , ولم يكن يدور في خلدي وانا المنقطع عن البستان ان بحثا قد تم في ملكية المكان وعائديته وانه تم التأكد من موضوع الشهادة وكونها غير مستخرجة من دوائر احصاء النفوس وتسجيل الأنحدار السلالي للأسرة ... وكل هذا ادخل المكان في دائرة الأماكن الخاضعة للسيادة واعادة الحق الى نصابه الصحيح وعودة الأرض , ارض البستان الى احضان الوطن .
كانت الأمة يومها تنتظر خروجا من الموقف , تنتظر نتيجة ما , رأيا واضحا حول مصير الأرض وما طرأ على السيادة المكانية وسيادة العملة والأقتصاد وماالى ذلك ... كانت هنالك اكداس من القرارات التي اتخذت غيابيا في الخارج , وحولت الموقف الى جري متلاحق حول قبول او عدم قبول اتفاق الحكومة بمقايضة النفط بالطعام .كانت تلك المقايضة وحدها عصية على الفهم , كنا نتخيلها قبيلة تقايض قبيلة , كما كانت قبائل العرب تقايض الشعير بالملابس او الحنطة بالجلود او الحيوانات بالطعام , وهكذا , شعرت ان عودة البستان الى تلك المساومة المجهولة وكتاب التقارير الذين وثقوا عائدية المكان يضاف اليها مساومة الحكومة من اجل المقايضة وما كتبه المخبرون السريون من المفتشين وطائرات الأواكس , كل هذا يلتقي على صعيد واحد عندي , يشكل دائرة مكتملة واسعة تحيط زماني ومكاني .
كانت التقارير عن بستان الدرويش قد اكدت وقائع اخرى غير ما كنت انتظر , نزلت في الصباح التالي بالقرب من منعطف السنك , سرت باتجاه المباني القديمة المقابلة لباب الشيخ , كان هنالك باعة طيور , وافاع , ومتسولون كثر ... شعرت بجوع مفاجئ . جلست على دكة الرصيف اقضم قطعة كعك و أتأمل في وجوه المارة , كان احدهم قد توقف بالقرب مني وقد الصق مذياعا صغيرا على اذنه , كان يردد مغتما : الحكومة مجتمعة , والناس دايخة والحداد يحد السكين , يضربون لو ما يضربون ؟ , البزون لن يلقى الفتات اذا لم تنفض على خير ." .
كان هنالك رجال كثر قد مروا وقد تطوعوا فدائيين في سجلات الحزب , وانتشرت لافتات : عاش الفدائيون , فدائيو اليوم بناة المستقبل الواعد للأجيال .
واتسعت الدائرة من خلال مكبرات صوت مرت وهي تعلن عن مسيرة راجلة لأشبال الفدائيين , وهم صبية صغار زجو في معسكرات لتعليمهم اصول فداء الوطن , والصبر واستخدام الرشاش.
كان العنف قد شاع في الأرجاء , كان هنالك احتقان , ونزعة متصاعدة لفرض الذات في معركة لي الأذرع .كان العالم قد انشغل بالمواجهة المقبلة , مرت جحافل المرددين للأناشيد ولم يقطع سيرورتهم الا موكب تشييع اراد اختراق الحشود باتجاه المقبرة القديمة , لكن فرق الموسيقى الحماسية كانت قد استحوذت على المكان وملأت الفضاء القريب اناشيد واهازيج بينما في البعيد كان هنالك اناس يتجمعون في مقابل السوق المركزي , موظفون صغارا , يحملون اطعمة جافة وبقولا مما جادت به الحكومة في اكرامهم حتى بدا منظرهم دالا على تلك الأكراميات , يتأبطون الرز والشاي , وانتشرت نسوة ملفعات بالسواد وهن يسمسرن بمكارم اولئك الموظفين .
كان الطابور امام السوق قد امتد طويلا , وبدا رجال متذمرون وآخرون يقرأون صحفا تحكي قصة العبور والنخوة , وامتد هذا العنوان وغيره بعيدا في الذاكرة البشرية , وتحول الى قصيد يومي يجري حفظه عن ظهر قلب , واحتشدت ثلة من الشعراء بالفطرة , من الذين وجدوا في هذا النثار مصدرا لأعجاز شعري خارق :السيادة والطائرات , الأقزام وسيارات الدفع الرباعي , الشحاذون والفدائيون , الموظفون وباعة الأرصفة وهكذا مضى القصيد في مسابقاته وجوائزه وعطاياه , وغطت الدنيا سحابة ولاء وطاعة ولغة للسوق فريدة من نوعها .. كنت بالقرب من واجهة سينما عتيقة في شارع الرشيد , عندما مرت ثلة من الموظفين الذين لفظتهم الحافلات وراحوا فجأة يهتفون ... ويرددون الأهازيج , لم اكن اعرف سر هذا الأحتشاد الغريب للناس ونزول الفدائيين والأشبال والموظفين الى الشارع , حتى توقفت عند دائرة التسجيل العقاري امتدادا لقصة بستان الدرويش , دفعت رسما نقديا بأيصال رسمي من اجل اعمار ملوية سامراء ورسما آخر اسمه دفع الأذى عن العراق وضد الحصار ... ولما هممت بالدخول , قيل ان الموظفين جميعا قد نزلوا الى شارع الرشيد للهتاف والنشيد والأستعراض ... عادت الأهازيج وكان هنالك من يوجه خطابا وسط عربات لبيع اسمال قديمة في الباب الشرقي , وكان هنالك مخمورون وحفاة وباعة سكاكين , و نساء مجنونات ومنغوليات , وقد تجمعن قرب احد المباني المتهالكة بانتظار منحة العوائل المتعففة , والمعاقين وزوجات المعاقين في الحرب , الذين يتراوح عوقهم بين 50% الى 100% , وظهرشيوخ محمولون على عربات وعجائز يتكئن على صبية مشعثين , وباعة شاي وسندويتشات فلافل واطعمة رخيصة , كانت الريح تضرب وجوه الجالسين وتعفر المكان وتلقي مزيدا من الأزبال والبقايا .. كان الألم قد بدأ ينبض تدريجيا .. لم يباغتني منذ شهور طوال بل كنت قد نسيته , لم اعد احمل الدواء المهدئ... اطمأننت ان الأمور قد تحسنت او في طريقها الى التحسن ... لكن الألم بدأ ينبض عندما لاح من بعيد , بوجهه المحتقن ولحيته التي اختلط سوادها ببياضها , يجلس على كرسي متحرك وثمة صبي يدفعه باتجاه اولئك المتضررين والمشردين ... كانت صورته قد تغيرت تماما , لكن ملامحه الأساسية قد عادت الى رأسي , وامتزج ذلك التشكيل الصوري للملامح بنبضات الألم , بالضربات المتصاعدة لدفوف وطبول احتفالية بعيدة , بضجيج الخطاب الذي تبثه الأذاعات , كان الألم يسري حلقات متتابعة مع دوران عجلة الناقلة الضخمة عندما نزلنا مذعورين , كنا شبابا يافعين قد تخرجنا توا من الجامعات , عندما اندلعت الحرب , كان هو نفسه : نعيم عبد الله , الذي وقف ومن خلفه سجف الدخان والنار والقصف والمذابح المتبادلة , عندما سرنا في فلاة لانعرف اين حقول الألغام فيها , الا نعيم عبد الله الذي تكاثف من حوله القصف بلا هوادة , كنا مختبئين في شبه كهف او حفرة , كنا نعالج الوجود بطريقة الموت المتقطر البطيء , كانت سنوات الوجود الأنساني تتناثر شظايا وخمائر متعفنة من البارود , والوانا قانية تصبغ صفحة الغروب , عندما احاطت المعاول بجسد نعيم عبد الله , كنا قد خبأنا رؤوسنا في الحفرة المهولة التي تهيأنا للموت فيها , صممت اذني وفتحت فمي وصرخت فيه صرخة قوية دوت في ارجاء المكان , عندما رفعته قوة عارمة الى الفضاء والقته في مساحات السبخة وبقايا المستنقعات والطين والضفادع والدم والشظايا والرصاص والبارود وبقايا الكائنات الحية والميتة , ودوى من حولنا عصف مجنون , وشعرت ان نصف وجهي قد فقدت السيطرة عليه تماما .
دارت الدنيا دورانا سريعا وهو يمسك اذنه والألم يعصف والفتى يدفع عربة نعيم عبد الله , يدفع كرسيه سريعا , فقد حلت في المكان افواج الطوارئ وبدأت بملاحقة المشعوذين في الباب الشرقي بالهراوات والرصاص الطائش ... دار المكان دورة عنيفة وكرسي نعيم عبد الله الدوار , يدور , يدور ... اصرخ فيه بقوة والألم يعصف بشدة عندما اضيء المصباح ... وقال الطبيب طبلة الأذن مثقوبة وعاد الألتهاب ذاته ودوى من حولي ضجيج الحرب واصوات الموتى , تدفقت من مكان بعيد من ارض سبخة غرسنا فيها اجسادهم المقطعة اوصالا وهاهو نعيم عبد الله يهرب مني في الأزقة المتهالكة ويخلف وراءه ذاك الوجود القاني

الناشر :دار دونكيشوت - اسبانيا ودار عين الزهور -دمشق -2006 .