Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل التاسع

رواية : الكائن الأفتراضي - الفصل التاسع
كانت المدينة قد ارتدت غلالتها الليلية المعتادة، الطريق بين جسر الشهداء والمتحف قد انتشرت عليه نقاط للشرطة، وكان هنالك بقايا زوار الليل من الغرباء الذين يجوسون في ليل المدينة الكابي ، كان هنالك تتابع معتاد لدكاكين داكنة الواجهات مقفلة واخرى قد انبعثت منها اصوات الغناء المعتاد ، الليلي ، كانت هنالك اصوات مختلطة من القبانجي والغزالي وغناء المقام العراقي التقليدي اصوات مصدرها المطاعم الرخيصة التي تفتح ابوابها حتى ساعة متأخرة من الليل ويرتادها رجال شرطة وجنود ذاهبون الى معسكراتهم وسكارى ومشردون , كان وجه المدينة الليلي يتكرر منذ عقود اذ الشارع نفسه قد حافظ على مكوناته وشخصياته ، وعجزت الاجهزة البلدية من ان تنتشله الى اي شكل اخر غير ماهو عليه ، كانت التغييرات واجهية بسيطة ، كاستبدال الصبغة الواجهية بصبغة اخرى ، طلاء رخيص من اجل ارضاء رغبات موظفي البلدية المأمورين بعبارة ليس لها وجود على ارض الواقع مفادها حافظوا على جمال بغداد ونظافتها.. واقعيا ، كان جمال المدن لا يقترن الا بذلك الاستذكار الموسمي المتكرر لتاريخ بغداد ، التغني المنتظم بأمجادها وما كانت عليه , كان هنالك طاقم من المؤرخين وعشاق التاريخ وتاريخ الوزارات يحتشدون في المقهى التقليدي العتيق نفسه وتحت رعاية رسمية ويعيدون ما قالوه في السنة الماضية، حديث عن امجاد المدينة ونشر العلم والحضارة والحاضر المزدهر الذي تعيشه المدينة وانها قبلة للأمجاد ولكن الاعداء حاصروا بغداد اليوم , الذين يخشون ان يبقى اسم بغداد علامة للتاريخ والذرى والمجد.
كانوا طاقما مألوفا عنده حتى انه حفظ وجوههم عن ظهر قلب ، لكن ميزتهم انهم وفروا له قاعدة معلومات وبيانات وتفاصيل وتخطيطات وصور لأشخاص واماكن صارت تتجمع لديه في كل عام لتنتظم الى ( المادة) الفيلمية للجريدة السينمائية، الوجوه المعروفة والمؤثرة في تاريخ بغداد، اناس يعتمرون ( السدارة ) و ( الجراوية) وسائر الازياء التقليدية التي عرفت بها المدينة، كان تاريخ بغداد في الجريدة السينمائية هو هذا التتابع التقليدي لوجوه المدينة الذين واكبوا عصرها الحديث.
الوجوه التي كونت فضاءً تعبيريا للمدينة.
لقطة / خليل باشا جاده سي
لقطة / اناس يركبون ( الكلك)
لقطة / موكب من الحمير يسوقه حفاة يرتدون ملابس رثة
لقطة / واجهة مدينة الكاظمية القديمة ويظهر باعة تقليديون
لقطة / عبور نهر دجلة بزوارق صغيرة
لقطة / اطلال ساحة الميدان
لقطة / وجوه من الشواكة
لقطة / واجهة مقبرة السهروردي
لقطة / شاهدة قبر الجنيد البغدادي
لقطة / شاهدة قبر الشيخ معروف
ومرت الصور في عارضة السلايدات وتكون معها ذلك العالم المتآكل المتداعي الذي ظل متذبذبا ممزقا يبحث عن ذاته وسط خريطة الحضارة , الناس والمجتمع الذي تتكامل فيه نزعة العيش البشري المكرر .. الذي لاعلاقة له بصنع نسيج اجتماعي اكثر حداثة واندماجا بالعصر .
فقر تفيض به سلسلة الصور ... وجوه مستسلمة لوجودها ودورتها اليومية المعتادة .. اناس من القرى والأرياف وجدوا ملاذهم في اية وسيلة للعيش في مسلسل الصراع من اجل البقاء .
كانت تلك السيرورة التقليدية قد افضت بالتدريج الى حقيقة ثراء مفاجئ , واموال طائلة غصت بها خزانات الدولة ثم انفجر الصمت ...
دوي مزق الزمان والمكان , تشظت المقهى وتناثر روادها , تناثرت الصور المزججة للأغوات والبيكات وصور المدينة التقليدية وتلوثت بمياه آسنة عمت دروب الكرخ , تناثرت بقايا ارجيلات وأزياء تقليدية واكواب شاي وقهوة وتناثرت جرائد الوقائع العراقية , وتشظى المكان وحفرت جدرانه الشظايا ومخالب الحرب , كان البخار يغلف المقهى المهجور الذي نزلت من سقفه مكونات معدنية , انابيب وأسلاك وقطع سعف نخيل , وانسكبت سوائل من اعلى ثم بدأت تنزل في قطرات كونت بقعا زيتية داكنة اللون امتزجت بتبوغ عتيقة وشاي مطبوخ وقطع دومينو ودفاتر ديون وحسابات ...
انفجر الصمت واضطربت الكائنات وتداخلت وتقاطعت السبل التي تأخذها كل الى ارض , قطع ممزقة من صحيفة تعود الى يوم 17/ 1/1991 ونثار كلمات , تتابعت صور الماكنة وانفلق الليل وتهشم المشهد وكانت الخطى تجوس في الظلام والزيت الذي غسل المكان وغطى الواجهات , خطى الحراس ورجال الشرطة والجنود والسكان المذعورون الذين اتخذوا سبلا شتى بحثا عن ملاذ , لم تعد الجدران ذات معنى واعتم الزمن بسجف من الدخان التي غلفت احلام صبية عابرين ومشردين وأطفال يرتجفون من البرد في ليل بغداد 1919/ 1991 وقائع تتبادل فيها الآحاد والتسعات والسلالة , الأرومة التقليدية تمتد مثل خرز المسبحة البغدادية , وانفجر الصمت واندمج المشهد بمشاهد ازمنة منسحقة عتيقة , كان الوطن يتباهى انه امسك بأهداب الآمال العظام , لكنه لاينسى احتفالية بغداد , كرنفال الذكرى والشجن ,المقهى المحطم الذي لم يبق منه الا ذاك النثار , بقايا الرواد وصوت قارئ المقام المبحوح الذي صار يغلف الشارع الطويل وتغطي اصداؤه الأماكن المتداعية من ليل المدينة ..
انفجر الصمت مع التدفق المتسارع لصور البورتريه لوجوه ليل بغداد بين جسر الشهداء والمتحف حيث للفقر شجرة تراثية تحظى بالأحترام ..
انفجر الصمت , وتدفقت صور الأولاد اليافعين في مشهد اجلاء الجنود , دارت الناقلة المحملة بالجند , ودار معها دورة عنيفة , وتفجر كل شيء , كان يتشبث بحطام الناقلة , بعجلتها المعطوبة , بكتلة المعدن المهشمة , كان هنالك دبيب وسيلان ساخن على معدن الأذن , حيث تستقبل فجيعة مغني المقام , الصوت المبحوح المتهالك القادم من المقهى المهشم الى تلك الدنيا الراعفة في الجنوب ...
انفجر الصمت وكانت وجوههم المدماة , وجوه الجنود اليافعين الذين توزعوا على ارض رخوة , بينما كان هنالك ( فوهرر ) نحيف يصرخ فيها ويندمج صراخه مع تدفق صوت قارئ المقام , والدنيا يمتزج فيها الدخان بالرعاف بالتيه , بالغربة , ودار المكان دورة عنيفة , ودار هو ممسكا اذنه المعدنية المتشظية التي تلفظ اغاني الحروب ممتزجة بالأستغاثة اليائسة بصوت المقام بأصوات بعيدة فيها نداءات ليلى ... ليلى ... ليلى ..
بالكاد يفتح عينين واهنتين .. فيجد ليلى , تشهد المشهد المتكرر للمواطن الذي اعطبت الحرب اذنه ومزقت اجزاء ميكانيكية مرتبطة بها وغرست فيها خلية سرية بين اعصاب الأذن والعقل , غرست مشهد المدينة يوم تفجر الصمت في ارجائها . تمسح ليلى الجبين المعروق وتحتضن الكيان الذي احبته بكل مافيها من امل .
عاد الكيان الآدمي الذي امامها سيرته الأولى , اعطى ظهره للجدار قبالة المفيولا والصور , جلست هي الى جانبه , احاطت ذراعه بكتفها , وامتدت نظرتهما الى النافذة حيث تسمع اصوات متظاهرين ينادون بأنهاء الحصار والعقوبات الأممية . اغلقت هي النافذة وجلبت الشاي , تراءت امامه بثوب بني بمربعات صفر شاحبة , الثوب الذي يغلفها ومن حولها ثم اشعاع جذاب , ظل يرافق وجودها , ذلك الأشعاع القوي الذي تكتنزه الأنثى الحالمة , الأنثى التي احتشدت حواسها في هذا الأندفاع نحوه . اما هو فقد ترك لحيته كما هي عادته لأسبوع او عشرة ايام دون حلاقة واعاد تصميم شعره حتى صار خفيفا , يرتدي بنطلونه الرمادي والقميص الأزرق المزخرف .
* هل انت على مايرام ؟
* اوكي ...
* اين كنت قبل يومين ؟
* الاحق طيفك كالعادة ..
* لست مازحة ...
اكيد كنا معا اثناء جراحة منال , انا وانت وسعيد ...
* انت و سعيد اين امضيتما ليلتكما ؟
* هاه ...زرنا موفق في حي الجامعة ..
* وامضيتم الليل في منزله اليس كذلك؟
* من قال لك ؟ ... سعيد؟
* ياالهي .. مازلت لاتدرك مايجري...
* ماذا يجري؟
* جنون كامل ..
* كيف ..؟
* موفق منهم ...
* منهم ؟....
* ماذا تعنين ..؟
* اعني مااعنيه.. ياالهي ... غير معقول هذا ...
ووضعت وجهها بين كفيها ... ومضى هو يحرك الشاي في الكأس الذي امامه ..
* من فضلك ليلى ماهي القصة بالضبط ؟
* القصة انه منهم .. منهم ... هل فهمت ؟ ..جاء نجمان هائجا واقتحم علي المكان ...وهذر وأزبد .. وهدد .. واخبرني انك على اتصال بموفق وجماعته ...
* مستحيل ... وماادراه ؟...
* قلت لك ان موفق يخصهم .. وقد ابلغهم بكل ماجرى بينكم من حديث انتم الثلاثة .
* لم يكن هنالك غير حديث معتاد ... ولعلمك انني لااقتنع به , موفق انسان طارئ وسعيد يزوره بسبب صلة القرابة ..
* هذا هراء .. النار مشتعلة .. والعسس من ورائك .. هل تدرك هذا ؟
* وماذا يريد نجمان .. لماذا يلاحقني , انا غير معني به ولا بعالمه , ولا بموفق ولا غيره .. انا معني بنا , نحن معا ...
* والكتلة ؟
* هذا شأن آخر ...
* نجمان حدد كل شيء ... الوقت يمضي , ويجب انهاء الأمر امام المحكمة ..
* ثم ....
* ثم ان ماجرى من حديث مع موفق كاف لأنهائك ...
* لأنهائي ...؟
* اجل , نجمان لايهمه شيء ... انا اعرفه , هل تدرك هذا ؟
زاغت نظرة حاتم , وكما هي عادته في مثل هذه المواقف , يحتقن وجهه وتتشنج قبضته ويتجه نحو النافذة بينما هي تخفي اصابع يديها بين خصلات شعرها التي تغطي صفحة وجهها .
* هل اتعهد له ... انني لست معنيا بما يجري , شرط ان يتركنا وشأننا ؟

( تراخت يداها وانحنت على الطاولة وبدت وكأنها غير معنية بالحديث ) .
· انا لاادري اي شقيق هذا ... وكيف انه ينتمي لك وتنحدران من صلب واحد ... اية عدوانية ...؟
· ............
· ثم اني ... اني ... مبتعد عنه منذ زمن ...
· ستظل تلوك الجملة ذاتها ...
· الوكها ... وهو ... اليس هو الذي يلوك الهراء والسفاهة ؟ هل نحن مجرد وغدين تافهين , لقيطين او عشيقين او ... اي شيء , كل تلك التكوينات يجلونها ويحترمونها , اما نحن ... فلا .. لأننا هكذا في النور ...
· انت تريد صياغة القصة على كيفك ...وارجوك كف عن قصة شقيقك ومن صلب واحد ... هذه مناكفة لاقيمة لها ...
· وماذا تريدين ... هل اشيد بأمجاده حتى ترضين ؟
· انا ... انا التي تنتظر هذا ... وانت تائه تتخبط وسط الفخاخ التي ينصبونها في كل مرة ...
· اسمعي ... انا لااتخبط .. وان لم اكن اعجبك في ماانا عليه فيمكنك المضي الى عالمه ... تذكري انه لن يبتلع الناس في هذا الكون مهما فعل ...
· لاانتظر النصح منك ... ما اريد ان افعله ... سأفعله ... اتفهم ؟
· اذا ... قولي بصراحةانك متأثرة بتحذيراته وانك جئت كي تنفذين مايريد .؟. ليرضي غريزته العدوانية ..
· هل تعلم ماذا اتمنى الآن .,..؟
· ..........
· اتمنى لو ادق رأسك على هذا الجدار , ان لا اراك الآن .. ان اقطع نفسك .. ان اتخلص منك ...
( بدت ليلى مثل فرس جامحة تدور بينما هو منقطع الى عالمه ...انتفض هو فجأة وذهب الى الخزانة وراح يبحث فيها عن شيء ما ... كان مشتتا , قلقا ومتوترا , لم تفهم هي مااصابه فجأة ... لكنه كان يردد :
· وسعيد سيذهب مجددا هذه الليلة الى موفق .. سيعود اليه وسيريه الأوراق , الأوراق المزيفة , يجب ان يحملها اليه , ان ارى سعيدا قبل ذهابه ...
استعد للخروج , التفت اليها , نظر في عينيها طويلا , اقترب منها , اغرورقت عيناها , ضمها اليه .
· هم لن يشوهوا احساسنا بالجمال .. من اجلك انت سأبقى ... ان كنت مؤمنة بي ... فأبقى .. اما انا ... فقد تخليت عن عشرات الأشياء , لكن لن اتخلى عن مساحة الجمال والأمل التي تتربعين عليها ... باختصار لااستطيع ان افكر مجرد تفكير ان اكون بدونك .... افهمت ايتها المجنونة ...؟
ضربته على صدره وبكت بحرقة وغابت في احضانه ...
نزل مسرعا عبر سلالم المبنى وغاب في فضاء المدينة , نظرت عبر النافذة ورأته مثل كائن يجوس في ضباب المكان , كائن يشق دروب المدينة وحيدا , يحمل في جيبه قصة مزيفة يجب ان يحملها موفق الى رؤسائه كي يرضي غرورهم .
اطلقت صور المفيولا وشهدت صور حاتم في طفولته وشبابه , الملامح التي حفظتها ... ايام الجامعة , لقاءهما الأول , شكله الذي كان يشبه الخنافس ... ملامحها الشابة وهما وسط جمع من طلاب الجامعة ... غادة المترفة التي كادت تخطفه منها ...
اطفأت مصباح المفيولا ونور المكان واغلقت الأبواب وذهبت باتجاه دجلة ...
كان منزل العمة هادئا كالعادة , ليس غير تكاثف الطير على السدرة الضخمة التي تحتل مدخل المنزل , واما الطريق اليه فتتوزع عليه بيوت واطئة عتيقة , وثمة دكاكين بقالة ونجارين وباعة سجائر وعربات خضار , كان حيا بلا مشكلات ولا تزاحم سيارات , فنهاية الطريق المؤدية الى منزل العمة اغلق نهائيا بسبب قربه من قصر منيف كان يجري تشييده على ضفة نهر دجلة .
ولم يكن احد من اولئك الأشخاص الذين تراهم كلما قصدت منزل العمة يعنى بالمارة , ولكنهم جميعا يسلمون بما شاع منذ عقود , ان هنالك سيدة صالحة تسكن المكان , وفي مناسبات دينية كانت تخرج من ذلك البيت الأطعمة والأشربة والصدقات وثياب الأيتام واما ماعدا هذا فأن ابواب المكان موصدة ولايرى غير اولاد الأسرتين اللتين تعيشان في كنف العمة من بقايا العهود الغابرة .
كانت الأسرتان تحفان منزل العمة من الجهتين وكان الأولاد الصغار من ابناء الفلاحين القدامى ينامون قريري العيون وسط تلك الأدعية والأذكار القادمة من مكان ما من غرف منزل العمة ... وكان الأولاد والبنات يكبرون بانتظام وقد خرجت من الأسرتين ثلاث فتيات تزوجن وجلبن معهن اولادا صغارا وبناتا وكان ذلك وحده مبعث سرور بالغ للعمة .
استرجعت ليلى ذلك العالم الذي ينشر السرور والأمل بين سكانه , العالم الصغير الذي صنعته العمة لأولئك الفلاحين القدامى وسلالاتهم . وشعرت ان الدنيا ستنعم بالخير لو تكاثرت تلك العوالم الطيبة .. طرقت الباب فتهلل السكان لمقدمها , ورافقتها حتى مدخل غرفة الصحة ثلة من الأولاد والبنات الصغار الذين بدوا بمظهر حسن وبدت على ملامحهم آثار راحة وهدوء وسلام , لكنها بوغتت بكلمة موجزة من الرجل الكهل :
· " انشاء الله تقوم العمة بالسلامة ".
طرقت الباب وانتظرت للحظات عندما قرقع صوت القفل الداخلي وكان معتادا ان يعلن ذلك الحارس عن غايته فناداها :
· " يمسيك الله بالخير ويديم عليك الأيمان والصحة هذه بنت اخوك ... " .
فتح الباب الضخم المرصع بالكرات النحاسية ولم يظهر شيء يدل على العمة غير اطراف اصابعها , مرت ليلى بهدوء , وفاحت روائح المكان المعتادة , ورائحة الأم . .. احتضنتها والقت برأسها على كتفها وقبلت مابين عينيها ثم عانقتها في شوق
· سلامات
لم تجب العمة الا بأيماءة من رأسها ثم اخذت ليلى باتجاه الغرفة الداخلية . كانت مثل ملاك عامر بالهيبة والوقار , يلف وجهها وجانبا من رأسها قماش ابيض محاط بأزار كحلي ينساب حتى الكاحل , وبرغم تقادم الزمن , فقد بدا وجه العمة وهو في كامل اشراقه , العينان اللوزيتان , البياض المشرب بحمرة , التجاعيد الناعمة التي طرزت الجبين وحول زاويتي الفم , ثم الأنف المستقيم , والشفتان الصغيرتان المزمومتان .
· سلامات ...
· الله يسلمك ...
· خير ياشابه ...؟
· شابة .. اكيد , تغارين مني ... ولو آني زعلانة .
· مني ؟
· اكيد , انانية ولا تحبين عمتك .
· انا .. لو كنت غير هذا لزرتني مرات ..
· امي ... قلبي منقبض , هل انت بخير تماما ؟
· بخير .. الحمد لله ... لكني قلقة عليك ..
· لاداعي للقلق ..
· وهل زارك الأخوة هذه الأيام .
· نجم كان هنا ..
· ياساتر .. القصة نفسها ياعمتي , انهم يلاحقونني , كل شيء يضيق , الكلام معه غير مجد ..
· لم يبق شيء , حطموا الصور , وصرخوا في المكان , وقالوا كلاما يغضب الله , ولاموني لأنني لاادفعك لما يريدون واشياء من هذا ...
كان المتحف الذي صنعته العمة قد تهشم تقريبا , الصور قد ازيحت من اماكنها , الصور الملكية القديمة وصور الحاشية والبلاط وكذلك الوثائق التي تركها الأب كلها اما مزقت او حطمت ...
كان هنالك ملف اصفر على تلك الطاولة .
وضعته العمة باتجاهها وهي تردد :
· مايشاؤون الا ان يشاء الله ...
( كان ملفا عجيبا فيه معلومات مفصلة عني , اوراق مطبوعة وتقارير سرية وصورتي في هيئة لم اكن عليها سابقا ابدا وصور متعددة بأعمار مختلفة لحاتم ... ثم في وسط الملف هنالك عبارة موجزة :
( ماهو مطلوب من ليلى ) :
· اسمها يجب ان يتغير وكذلك اسم العائلة لألتحق بالأسم الذي كونوه هم ..
· الصلة بشخص اسمه حاتم تخص امرأة اخرى .
· عملها في دار النساء سيتحول اما الى التعليم او اكمال الدراسة العليا او العمل في مكان خاص يختارونه هم ..
· صورة افتراضية لشكلي الجديد : قُُصّ شعري الى اسفل العنق بقليل , وصباغته بلون بني و صرت ارتدي نظارة طبية .
· صرت ارتدي قميصا طويلا حتى الركبة وبنطلون من نفس اللون .
مضى المساء بطيئا , وانا اقلب الملف الذي كان يضم كل صغيرة وكبيرة عني , تاريخ صلتي بحاتم , هجرة اسرته , تشردنا انا وهو بحثا عن منزل بأجرة مناسبة , تأسيس الدار , وهواياتي وأفكاري , وأحاديثي ... وحتى آخر واقعة ... واقعة هرب ( ريمة ) وعودتها وكلامي مع سعاد ...
كانت العمة منزعجة ممايجري وتشعر ان لم يعد لها من سيطرة عليهم وأنهم قد بلغوا مرحلة من جنون العظمة التي لاتستطيع هي بيقينها وفيوض الأيمان التي تملأ نفسها وعقلها ان تحد منها ...
وبعد صلواتها المتهجدة , استرخت في فراشها متطلعة للأفق ...
( اخذتني اغفاءة قصيرة , لأني شعرت نبضي يتصاعد , واحساس مربك يسيطر علي .. رأيت بين اليقظة والنوم صورتين لي .
امرأتان , واحدة بشعر اسود طويل وثانية بشعر بني قصير ,
الأولى : بلا نظارة والثانية : بنظارة
الأولى : بثياب كحلية تميزها والثانية : ببنطلون وقميص
الأولى : بوجه مورد بلاماكياج : والثانية : قد تغيرت ملامحها بالماكياج
الأولى : تشبه زوجة حاتم والثانية : لاتشبهها ابدا ..
استيقظت صارخة من الصورتين اللتين , انبثقتا في لاوعيي الآن .. ولم يبق في العقل غير النظرة الشرسة للمرأة الثانية , للكائن الأفتراضي , وهي تصرخ باسمها الجديد وانها لاتعرف كائنا مشردا اسمه حاتم ...........
.......
لم تبق الا اصداء اللقاء العابر مع سعيد :
· لاتذهب الى موفق واما أذا جاءك الى هنا فأعطه هذه الأوراق المزيفة ثم اقطع صلتك به..
· منال بحاجة اليكما , بحاجة الى ليلى , ارجوك , عودوا الينا قريبا .
في الطريق الى سعيد , التقط حاتم رسالة من مكتب سيارات الأجرة المتجهة الى الأردن , رسالة بأوراق متعددة .. عرف انها من الأسرة ومن هيثم .. لم يشأ قراءتها الا بعد العودة :
" حاتم .........
تهديك الأم محبتها , وهذه السطور عن لسانها : انا ام معذبة وحائرة , اشعر مع مرور كل يوم انني اخطأت اذ فارقتك , عذابي يزيد كلما اسمع اخبار بغداد العصيبة والقسوة التي تلاحق معيشة الناس , الصبر ياحاتم الصبر ... صلي الى الله ... ان تعود الينا , ان تلتحق بنا , اتمنى ان تترك عنادك واصرارك على البقاء , من اجل ليلى , وابنكما الذي سيأتي في يوم ما , انا مشتتة ولا أكاد الملم كلماتي من اجلك , ارسم صورة وليدك القادم , اشم فيه رائحتك , لايكفي ان ابكي من اجلك , الجنة بدونك ناقصة .. عليك بالصلاة " .
حاتم ........
كالعادة , امي لاتأكل طعامها ان حضرت سيرتك , وتردد القصة القديمة : أأكل وحاتم وليلى هناك , على كل حال الطابور يزداد طولا امام المفوضية في عمان , ومن يشهد اعداد الناس التي باعت املاكها وجاءت الى هنا يشعر ان لم يبق احد في البلاد , القصة تتعقد , والمفوضية لم تعد تتقبل الناس بسهولة , اضيف لطوابيرنا سودانيون وصوماليون وملل اخرى , كان المفترض ان تجري مقابلتنا الأسبوع الماضي , لكن قيل ان المعلومات عن المتقدمين قد تسربت , الوقت يمر بطيئا ومشاهدة الناس تودع بعضها عند جبل اللويبدة وفي قلب عمان يبعث على الأمل , ثمة اسبوعيا هجرة الى كندا واستراليا والمانيا , وكلام عن مهربين يتقاضون عشرة آلاف دولار للفرد الواحد مقابل التهجير الى تلك البلاد ... امي تخاف المجازفة .. لكننا سنضطر لذلك .. لهذا تطلب منك الأم ان تصفي موضوع بستان الدرويش بأقصى سرعة وكذلك انهاء موضوع السينما والأستفادة من المال لما هو آت فقد نضطر بعد ان تلتحقوا بنا الى اللجوء للمهربين وندفع المال الطائل من اجل ضمان حياتنا .
قصص كثيرة هنا , ويقال ان قصة الحصار ستتعقد وموضوع اتفاق النفط والغذاء مجرد تمثيلية لأنهم مصممون على تلقين العراق دروسا جديدة ... لكن لايهم ... اذا صمموا على اعادتنا الى عصر ماقبل الصناعة فسنعيدهم الى عصر ماقبل الزراعة ... ولايهمك ...
الى اللقاء ...
اسمع يافتى , هل ليلى زعلانة ؟ مااخبارها ؟ لم لاتكتب لنا ؟ لم لاتطمئننا عليها ؟ البنات يبكين وفي منتهى الشوق اليها ...
الى اللقاء .
هيثم

..........
عادت ليلى الى كوكب النساء , وسط اهازيج وأناشيد وشعراء يتسابقون في مباريات تلفزيونية يومية , القصيد ذاته الذي قد تحول الى خليط من اشعار البدو والمعلقات وتهويمات الصعاليك , وصعدت في سماء البلاد نجوم هي خليط من بطلات المسرحيات ومن المغنين الفتية ومن الشعراء المهومين ورسامي الشخصيات الحكومية ... هذا الخليط هو الذي كون ارضية المشهد المحتشد , ووجدت النسوة في المكان منهمكات في مشاهدة عرض مسرحي على الشاشة من تلك التي يختلط فيها القصيد البربري بحداء البدو , بالرقص الغجري , كان وجه ريمة هو اول من صادفها , جلست معها جانبا , وشعرت انها في تلك اللحظة قد تلبست تلك الشخصية الثانية التي عاشت فصولها في منزل العمة ,الكائن الأفتراضي , المرأة ذات الشعر القصير البني , وبدأت سؤالها عن ليلها , اين امضته ومن تعرف وبمن تلتقي .. كانت ريمة تشعر بحنين كبير نحو ليلى , ذلك التسليم العميق بأنها انقذتها في ساعة التشرد والخوف ..
· اعرف الجندي ... او هو الذي عرفني .. ووافق ان يأخذني الى بيتنا , الذي اخذوا منه امي واخفوا ابي , اشيائي العزيزة التي تركتها هناك , وهل من امل ان اعود لبيتي , كان هنالك حراس وخدم بجوار البيت هم الذين استقبلوني وابقوني معهم ليلتين , وأكدوا ان البيت صار في يد الحكومة وان سيارات فخمة معتمة الزجاج تدخل وتخرج منه , ولم تجد محاولتي الحديث الى مسؤول هناك بسبب الخوف , لكنني سأذهب مرة اخرى , سأستجمع ما في من ارادة وصبر لأطالب ببيتي وأمي وأبي .
· وماذا عن الجندي ؟ هل تخبرينه عن اشياء تدور هنا ؟
· لا انه مجرد جندي صغير ... كان يراني منذ سنوات , وكان هو صغيرا ايضا , انه يسكن في بيت بسيط مع اخواته وابيه الأعمى , انه مجرد كائن بسيط , .. خرج من الحروب وخربت هرموناته ولهذا ضمرت فيه اجزاء من جسده , وبدا نحيفا , وكأنه يصغر بالتدريج , اكاد ابكي عندما اراه , فأذا ماالتقيته فسرعان ما نبدأ في الضحك ... اسألك هل لي حق في بيتي .. او غرفتي .. ؟ هل لي حق ان اسأل عن حالة امي ؟ وهل سأمضي ماتبقى من زمن في هذا المكان ؟
كانت ريمة قد كبرت حواسها حقا , وبدأت تسأل عن اشياء تخص وجودها وصارت اكثر شفافية وبدأت تستقل في وعيها عن سعاد وعن الآخرين وفي الأقل صار هذا الجندي الصغير كائنا تتكئ اليه في السير نحو ماضيها وغدها ... وصارت تستأذن في غيابها لزيارة اولئك الناس الذين تثق بهم , الذين خدموا امها واغدقت عليهم العطاء .
ريمة .. بدت مثل بقعة نور واهن في مساحة الزمان والمكان , صورة اخرى لحقائق وقيم مقلوبة , كانت في لحظة ما مصدرا للشك وهاهي تنسلخ انسانيا ويصبح في مقدورها ان تمضي الى افق آخر ليس انسانيا ويصبح في مقدورها ان تمضي الى افق آخر ليست مقيدة فيه ... ولم يبق غير سعاد , عيونها تثقب الجدران , واذانها تصيخ للهمسات وتصنع تقارير وشاية وتعيش هي ذلك الأجترار القاسي للذات .
وبدأ الزمن يتقادم , وسعاد تزداد عزلة , بدأت تقطع علاقاتها بالأخريات وتنزوي بعيدا عنهن , وكانت تترنم بصوتها المنغم العذب في انزوائها , كانت بهجتها في تلك العزلة ... وكأنه قانون , فالبلاد هي الأخرى هاهي غارقة في عزلتها بسبب العقوبات الأممية ولكنها تصنع بهجة خاصة بها , عبر احتفالات بالنصر والشموخ ويتجلى ذلك في مسرحيات ورقص وغناء بالنصر والشموخ ويتجلى ذلك في مسرحيات ورقص وغناء ونواد ليلية وغجر وشعراء بلاط .
بهجة (الكائن الأفتراضي ) في عزلته, كان عنوانا كبيرا لذلك الأنصهار الأنساني تحت وطأة الصمت والشقاء , سعاد تنصهر انوثتها تحت فقدان الأنوثة وتآكلها بعد الغياب الكامل لرجل هو الوحيد الذي قرأ خريطة الجسد ولم تقبل لأنسان سواه ان يلمس ذلك الكيان المحصن وكذلك تفعل اخريات بأشكال شتى . عادت الى منال ... مرت عبر ازقة الكرخ وشاهدت ذلك التداخل العجيب للآمال العراض والأحساس بوطأة الشقاء , الآمال بانفتاح افق ما على ذلك العالم , امل يترتب على تفاهم الحكومة مع الجهات الأممية لأطعام الشعب وكان ذلك كافيا للأيحاء للناس بأن هذه ليست الا فاتحة للأمل في انتهاء العقوبات ... ولذا كانت معضلة صعود وهبوط الدينار هي عنوان القلق اليومي ..سمعت من هذا النثار اليومي الكثير:
· يقال ان الحكومة ستحذف صفرا من العملة ...
· لا... ستضيف صفرا ...
· الدينار الجديد عند جماعة التصنيع , دينار مدعوم
· حتى انه من ورق فريد من نوعه .
· وفيه صورة وفسفورة ونخلة ؟
· لا .. فيه صورة خيول وثور مجنح وأسد بابل ...
· خلاصة الموضوع , حديقة الحيوانات على الدينار ..
· وهل ستنتهي قصة التزوير ؟
· الحكومة مسكت العصابة ...
· التجار ...
· لا ... الطابور الخامس ...
· يقال سيضاف للطابور صفر ايضا ليصبح عدد الطوابير متصاعدا مع الأصفار ...
تكاثف الكلام ثم تحول الى همس ذكوري, لم يعد بالأمكان تبين ابعاده والى م يتجه عندما طرقت ليلى الباب , كان اولاد منال ... ثم تبعهم سعيد , تدفقت رائحة الطعام ... وتهلل وجه سعيد , وبدا وكأنه ينتزع ذلك التعبيربصعوبة , صرت قبالة منال , ازاحت ابنتها الصغيرة عنها وصوبت عينيها الصغيرتين نحوي مباشرة , ومالبثتا ان اغرورقتا , احتضنتها ومسدت على شعرها , وقبلت جبينها ..
· يامكروهة , يالئيمة ، تهربين من المستشفى وتتركينني , لماذا جئت اذا , ابقي بعيدا عني ...اسكت باقي كلامها عندما وضعت كفي على فمها ...
....................................
الناشر : دار دونكيشوت - اسبانيا ودار عين الزهور - دمشق 2006