Sunday, August 26, 2007

رواية الكائن الأفتراضي - الفصل الخامس

رواية : الكائن الأفتراضي - الفصل الخامس
كان مفهوم الحرب المقدسة قد دنس وخلف كراهية ومقتا ما انفك يتفاعل في حواس الناس ومشاعرهم المكبوتة والمختومة بالشمع الاحمر منذ زمن .
وتتابعت الخطوط العريضة والملامح العامة لهيكل العمل ، لمكونات الجريدة السينمائية في عددها الاول .. كان كل شيء يتسع ويكبر على الورق وكنا نمضي الليل معا في بناء الحلقات وجمع المعلومات عن كل فكرة لحلقة ثم البدء برسم مكونات السيناريو والبناء الصوري والصوتي .. وشعرت ان هذا الكائن الابداعي على الشاشة يتخلق هكذا تباعا على الورق ، وانا اتأمل حاتم بنظارته الطبية وشعره الكثيف القصير ، انهماكه المدهش في العمل ، جاذبيته الفريدة التي تجرفني اليه ، كان يثير اعجابي اكثر ذلك الاخلاص للانسان الذي يعرفه هو ، ويسميه الانسان الذي في داخله ، الانسان الذي اوجده الله كي احافظ عليه ..الانسان الذي يطالبني ان اصغي اليه واطلق صوته ، ان ابين للناس ملامحه وانه موجود .. وانه ليس رقما تافها لمعادلة ولا جنديا مدرجا ضمن قائمة الخسائر على رقعة الشطرنج .. ليس هكذا . ليس لطخة عابرة يجب محوها كي يكتب اي كائن اخر اسمه بدلا منه .. هو هذا الذي تنطوي فيه كينونة الدنيا وتكاثف الازمنة ، وانه كان ظل الله على الأرض وما نفخ فيه من روحه فهذا هو مسك الختام والقول الفصل في هذا الارتفاع والرقي العجيب لهذا الانسان .. كان ذلك الخيال الجامح يمضي به بعيدا ، نحو تدفق اقرب الى التجريد الى استفهام الدادائية والطبيعية في ما يكتب ويفكر ، ورغم رومانسيته الشفافة الا انه كان اقرب الى عوالم ذلك الانسان , كان على يقين من مساحة النور التي في داخله والتي ستتشكل منها تباعا مكونات عالم تجريدي ساحر ، عالم يفترض ان ينتقل الى الشاشة لكنه في الغالب يبقى على الورق . رغم ذلك كان مصمما على المضي في التجريب .. دخلت المفيولا المكان في ظهيرة عاصفة ، التراب والغبار يغمر المدينة والمفيولا مثل جسم البيانو مغلفة بغطاء سميك , حضر بضعة عمال يتقدمهم حاتم ورفعوا تلك الكتلة الحديدية العجيبة دخلوا بها من الباب الخلفي للسينما كي لا تلفت نظر احد ، وبدت مجرد اثاث تحتاجه السينما , حملوها عبر الممر الرطب والمعتم المؤدي الى صالة العرض ثم صعدوا بها سلمين متعامدين ، وكانت مهمة شاقة ان يرتقوا بالماكنة عبر تلك السلالم الضيقة .
انهمك حاتم في وضعها في المكان الصحيح . كان وجود ذلك الكائن مبعث اطمئنان له، لأن لديه ( خام ) كثير من الافلام لم يدخل مرحلة المونتاج ، ولا اعرف حتى اللحظة ما مصدر تلك المشاهد المصورة ولماذا , لكن ما هو مهم المضي في تجربة الآلة ، ولذا انهمك بالبحث عن علب افلام قديمة بدأ يقتطع منها عدة اقدام ويبدأ بصنع تسلسل منطقي منها ، وكان بهذا يمارس تدريبا خاصا وهواية لا ترتوي الا برؤية الاشياء الجميلة والعوالم المجهولة وهي تحيا على الشاشة . ووجدت في تلك اللعبة المدهشة ما دفعني انا الاخرى ان اجد سلسلة مترابطة بين صور غير مترابطة , وسط فلسفة حاتم ، الفلسفة التي ما انفك يطورها : المبدع الحق هو الذي يخرج بافكار مترابطة ورفيعة من بين ركام الحياة واحداثها وقيمها ومتغيراتها غير المترابطة .
الاساس اننا نحيا حياة مسالمة .. هذا ترابط منطقي ، لكن العدوانية والكراهية والانانية والظلم والجشع تصنع من كل الاشياء والقوانين مفاهيم غير مترابطة وغير منطقية .
وغص المكان بعلب الافلام القديمة ، شاهدت كائنات بالأبيض والاسود مغامرون وقطاع طرق , عاشقات وعشاق ، بحارة وموسيقيون ، فقراء واباطرة ، ملوكا وصعاليك ، كل الثنائيات التي توحد حركة الكون والانسان كانت تحتشد في تلك العلب الصدئة المخفية التي صارت مثل ابجدية ، علينا انا وهو ان نصنع منها لغة مفهومة اولا ومؤثرة ولو في ادنى مستوى ثانيا .
شعرت بالسعادة تفيض من عينيه اللوزيتين وهو يدمجني بعالمه بالتدريج ويجد في نفسه شغفا بي ونحن وسط الدراما نمارس الدراما الخاصة بنا بين حين واخر .
كانت ثمة حياة سرية وغير مرئية تكمن على تلك الاشرطة الصقيلة ، تلوح ظلال كائنات متجمدة في المربعات البنية والبرتقالية والرمادية المثقبة .. وكان دوران تلك الاشرطة والصرير الذي تطلقه التروس والاحزمة الرقيقة الناقلة ايذانا بولادة حياة متجددة على الشاشة .. كنا نترقب العد التنازلي الذي يظهر في الصورة ارقام لاتينية سرعان ما تنطمس مع اطلاق صوت (بب) حتى تطلق الابواق نغماتها وتتدفق الحياة.
كانت هنالك تخطيطات لعمالقة في فن الفلم , الذين كانوا يرسمون الشخصيات التي يريدون تقديمها للناس , يحددون ملامحها وادوارها , وهكذا انبرى حاتم في صنع عالم من الخواص الانسانية ، ان يبني ذلك التسلسل الهرمي للفكرة والعد التنازلي الذي يسبق الولادة المرتقبة .
كان انغماس حاتم في تلك الحياة الوديعة المسالمة انغماسا خارجا عن السياق المعهود .. لا احد مثله مكتف بهذا العالم ومتصل به .لا احد يجد ذاته في حياة الناس , في المقاهي واسواق الفقراء , الشحاذين ، البيوت المتهالكة في الازقة الخلفية للشواكة والكاظمية وباب الشيخ .. لا احد كان قد نذرنفسه ووقته لتلك العدسة الصافية ، آلة التصوير وما ستجلب من ذخيرة، كان يراكم تلك الشرائح الفيلمية ويجد فيها بدائل لفن الفلم شرائح متتالية تقدم كوكبا من الوجوه المتغضنة المطحونة بالحصار من جهة والخوف من المجهول من جهه اخرى ، اجل كان ينبثق في المجهول المخيف الذي يلاحقه ويلاحق الناس في كل حين .. كان مجهولا معمرا لا يكاد يذوي و يضعف ويتقهقر ويهان ويحتقر حتى ينمو طالعا من جديد من عذابات الناس وجراحاتهم .. دخل المجهول شبحا في غرفاتهم ، وتسلل الى دفاترهم واقترب من همسهم واصغى لتنهداتهم وآهاتهم وتذمرهم وسأمهم وسقمهم .. المجهول الذي تغذى من قوة السلطات ومن ردع القوانين التي لا تعرف متى تهبط دفعة واحدة فتطبق بحذافيرها و تنهي وجود انسان فيغدو نسيا منسيا .
لم يكن هذا الاستغراق وحده كافيا لحاتم ، ولم اشأ يوما ان اسأله: وماذا عن الغد؟ وماذا لو انجبنا ابننا الاول؟ وماذا عن العمل ؟ وماذا عن المستقبل؟ وماذا عن البيت والملاذ الدافئ والآمن؟ وماذا عن لوازم العيش؟.....
الاسئلة التقليدية التي سمعتها مرارا من بشرى وآمال وهدى وسراب، كلهن كن يدفعنني ان اسأله.. حتى عمته الطيبة الرقيقة سحابة النور والرحمة كانت تحثني ان امارس دور الزوجة معه .. فأضع النقاط على الحروف بأنني اريد .. واريد .. واريد..
كلام فارغ لا معنى له في القاموس ولم اجد له مكانا في سطورعقلي ، جمعنا صورا عن المتحف وصور حركة الغيلان على جدران باب عشتار . ذلك التتابع الحركي الكافي وحده لتقديم صوره ما لحياة سينمائية .
كنا نتكئ الى ذلك الوجود الكامن عند البوابة الساحرة لبابل ، هناك في المساحة بين سينما بغداد والصالحية ، كان هنالك عالم من الكهنة والحراس والشعراء والمهرجين والفلاسفة والحكماء والاطباء والمهندسين والعمال والنساء الجميلات ، كانت هنالك اصوات تراتيل بابلية تنطلق كشعاع ليزري في كل ليل ، وكان مصمما على انه امتداد لبقايا عصر السلالات البابلية الخالصة ، مادامت انفاسهم في لقاهم وتماثيلهم واشيائهم فهم متحدون بها روحيا ولذا ما ان يدلهم ليل الحصار والخوف من المجهول حتى تنطلق العربات البابلية وهي تسبق مواكب الكرنفال ومهرجانات الجمال والحكمة .
ربما هو جنون ولكن بعد اتمام مراسيم الزواج راح يقرأ بنود عقد الزواج البابلي .......
ويطلب مني ان اردد من بعده تلك المفردات البابلية وتأكدت بعد ان تشبعت بالحقيقة التي تمثلها بابل وتكمن هناك خلف مسكننا الصغير وتلوح مواكب في كل ليل .. بعد ان تأكدت من دستور الحكمة وحقائق التكوين واسطورة الخلق اقتنعت انه قد انتظم في ( الكتلة ) ولم يعد مهما ان كان هو مؤسسها او مجرد عضو فيها المهم انه هو هناك قد استند الى ثقل المتحف واصوات الكهنة والنساك من خلفه وتلك التواشيح والتراتيل المنبعثة من زاوية ما من زوايا المكان وانه قد اتسع في رؤيته حتى رأى الزمان والمكان من زاوية لم يرها الاخرون ، ولهذا كرس ذاته بهذه المغامرة غير قلق من النتائج والنهايات , المهم انه هناك يرتكز على الكتلة يتغذى منها ويغذيها برؤاه .
ساد الجدل فيما بيننا وهو يمضي في جمع المادة الفيلمية من اجل تكوين الجريدة السينمائية الافتراضية التي يريد ان تبقى وثيقة دامغة على هذا الزمن بكل ما فيه .
كانت الكتلة جمعا من الصعاليك والمشردين والهائمين في فضاء الفلسفة والفكر وكان هنالك دراويش ومتدينون ، وكان هنالك نساك ومتصوفة او سالكون ، وكان هنالك موسيقيون ورسامون ، ولكن اينهم ، وماهي ملامحهم واين يكونون ، فذلك مالم استطع له جوابا ، كان مجرد التفكير في الخروج على الخطاب السائد او الاختلاف كارثة كبرى ، مثل قنبلة لن تكتفي بالاقتصاص من الشخص بل تتسع الى اخوانه واخواته واقاربه حتى الدرجة السادسة وحتى الدرجة العاشرة احيانا، كان الاجتثاث الذي لا يرحم يلاحق من تثبت ادانته بالاختلاف او المخالفة او التكتل في مجموعة كما هو متكتل الان. خفق قلبي بشدة واقتربت منه كنت كمن ينادي في فلاة او برية من اجل الانقاذ ، كان قد وزع على الجدران صورا فوتوغرافية سيطورها الى شرائح و سيعرضها تباعا بعد ان كتب الحوار لها ، كنت ادرك تلك الذات المستنده الى الفطرة , تلك التي يمثلها هو , شعرت انني الامس المنطقة الاكثر قلقا ورهبة في ثنيّات ذاته ساعة ان رحت اهذي بخصوص هذا الذي يجري في العراق، كانت محكمة الثورة قد بدأت بنشر قرارات جديدة شملت اعدادا من الخارجين عن القانون , كنت كمن يلقي الاخبار على مسامعه وكان قد انقطع كليا عني بحجة الانشغال بالفوتوغراف ، عندما توقف فجأة , كان متكئا بيديه الى الطاولة واضواء الشرائح المتغيرة تسقط على الجدار وعلى جانب من وجهه , رفع يديه فبانت كتلة ضخمة سوداء على الجدار , استدار فجأة رفع يديه الى اذنه كان العصف قد بدأ , شيء ما صار يعتصره ثم يتعرق بالتدريج ثم يختض كمن هو مصاب بالصرع ثم يعرض على شاشة ذاكرته شريط الحرب الدامية ولحظة سقوط افراد من الكتلة واحدا بعد الاخر مع سقوط القنابل التي اجتاح انفلاقها سمعه كاملا وخرق طبلة الاذن وتركه هكذا يسمع الاستغاثات بين جبهة الحرب وبين مقصلة محكمة الثورة، ارتعاد يرافق صاعقة الابادة , الارتعاد الذي يرافق صور الشرائح المتتالية للوجوه المحتقنة الخائفة للصراخ, لصورة الصرخة للرسام مونش, الصراخ الطويل في ليل , في عتمة , لصبية ينهمر من حولهم الرصاص ومن خلفهم القصف , لرجال مكبلين ونساء معصوبات العيون فوهرر، فوهرر، فوهرر، دوتشي موسليني، دوتشي، دوتشي، يتصاعد عزف المارش العسكري ، وهو يصرخ في ليل والشظايا والشرائح تترى ، اشخاص هزيلون ببزات عسكرية ، تلال ترابية وحولها اثار بشرية ، دمددم ، دمددم ، دمددم، دوت طبول وانشد الشعراء لمجد الزعامة ومقولة الذرى والوطن , انشدوا وبدوا بصورهم الجذلة مجللين بالنياشين , مرت وجوههم ، وقد كتب في التعليق ، شركة الشعراء الوطنية المساهمة المحدودة : الاستثمار بالشعر العمودي، ومستعدون لتجهيزكم بالقصائد العمودية، وقصائد المديح والهجاء والرثاء و ... ووقف الشاعر امام الة الصوير وفي جيبه الايسر قصيدة عمودية مديحا للزعامة لانها وافقت على القرار واما في جيبه الأيمن فهنالك قصيدة عمودية اخرى تمتدح الزعامة لانها رفضت القرار . تتابعت القصائد المبتهجة بالمقصلة والذبائح ، قرابين القيادة وفدوة لعيونها ، وخراف تحت اقدامها .. دوتشي، الاذن تدوي فيها الرصاصات ، الجنون ,الصراخ ، ينقطع التيار.. ليس الا ضوء القمر .. وهو بين يدي خائرا معذبا ، العرق يغزو جسده ويدب دبيبا بطيئا على بشرتي ، لينهض من جديد.

*********
منزل العمة الكبرى ، كان ارضا لكل تجليات الناس والزمن ، كان ارضا للسادة والصعاليك على السواء ، الاب العصامي شقيقها الذي ماان قامت الثورة حتى انضمّ الى قائمة مؤازريها في ايامها الاولى ولم يكن يتوقع ان يطرق بابه وتسحب ملكية الاراضي الشاسعة التي ورثها ، الاصلاح الزراعي ، انصاف الفلاحين ، ثورة الكادحين وهكذا جاء في ديباجات الكلام الطويل ... كان قد وجد نفسه هكذا متيقنا ان الملك لله لا للناس وان من انتزع ملكيته سيخرج من الدنيا صفر اليدين .
ولهذا لم يجد في مقاومة السلطة جدوى، نظر في قائمة الاحزاب السرية والعلنية فلم يجد في اي منها ما يشجعه على المضي في مشاريعها الملتبسة ، وبقى كما هو كائن رباني فريد تحولت خساراته الى فلسفة فريدة ، وانغمار فذ في دنيا الله ، في الروح النابضة وسط الشرور والاثام والنفاق , حتى صرخ : السياسة هي فن الكذب .
دلفت ليلى ذلك النزل الاثري ، كان يحمل تنوعا مبهجا ، اقواس من الآجر ، سقوف حمر ، شرفات امام كل حجرة , فناء داخلي شاسع تزينه نافورة صغيرة , عوالم كانت منفصلة عن بعضها ، فغرف الضيوف منفصلة عن سائر غرف المنزل الاخرى ، والبئر القديمة بقيت جزءا من المشهد الذي لاح لها من الاعلى حيث تلوح غرفة سلمان الحارس واسرته . كان على داخل ذلك المكان ان يرتقي عبر سلم حجري واطىء ثم ينعطف باتجاه رواق يؤدي الى تلك الحجرات المتداخلة . تنشقت في المكان عبقا مختلطا برائحة الشط والزفر , السمك المحتمي بالشطآن , رائحة المباخر واروقة الاولياء حتى قيل ان تحت القبو هنالك مرقد سيد صالح ولذا كانت العمة تنزل باتجاه القبو ليلة كل جمعة ، توقد الشموع وتنشر البخور في المكان وتوزع الصدقات ، كانت غرفتها مستطيلة تمتد باتجاه القبلة وكانت الشمس تدخلها من جهتيها ,ستائرها من الساتان الابيض , وارضيتها مفروشة على الدوام بسجاد مزخرف من الكاشان القديم ، كانت مكتبتها الصغيرة قد حافظت على موجوداتها .: كتب التفاسير , السيرة النبوية, نسخ من القران الكريم , مقاتل الطالبيين , سيرة ال البيت وواقعة الطف , اشرطة للقران والادعية والاذكار ، وكتب بالمناقب واشعار المراثي .
كانت منغمرة في عالمها عندما دلفت باتجاهها ووجدتني اجلس قبالتها مثل صبية ضائعة ..تردد ( كلت الألسن عن غاية صفته والعقول عن كنه معرفته وتواضعت الجبابرة لهيبته وانقاد كل عظيم لعظمته فلك الحمد متواترا متسقا ومتواليا مستوسقا وسلامه على رسوله ابدا دائما سرمدا ....)
.. لم تفاجأ بوجودي ، وكأنها كانت معتادة على رؤيتي رغم انني لم ازرها منذ شهور عدة . مدت يدها ، جست جبيني ولامست وجهي ثم قربتني اليها واحتضنتي وتشممت عبقها المعهود الذي يسري فيّ الى الروح ويشعرك بالامل والامان .
*حزينة .. لماذا ؟
* كنت بحاجة اليك منذ ايام..
* وهو .. ماذا سيفعل .. سيأتون اليه..
* تقصدين حاتم .. هذا ما جئتك من اجله ..
* اخوتك شربوا كأس الدنيا فأسكرتهم
* خائفة ..
* وهو .. امازال يصنع احلاما من هذا الهباء ؟
* حاتم .. رجل .. ياعمتي وانسان..
* المهم ان ينجو..
* مغامرة صعبة ياعمتي ...لاادري كيف سنخرج منها
* هو مثلك تماما نسي ان له عمة تحبه .. وتخاف عليه
* اشعر انه ملاحق ولا ادري ماذا سافعل ؟
* هم ليسوا اقوى من الله
* الاذى الذي يضمرونه قد يدمر حياتنا ..
*هل هو يعمل الخير ام انكما منشغلين بالقلق والتسابق مع الاشرار
* عمتي .. انت تعرفينه جيدا هو ابنك ..ثم تقولين انه ابني من الان يوم اقترن بي ..


كانت العمة الكبيرة قد شاهدت وقائع تألق الاسرة وانطفائها ... كانت الشاهد الذي لم تطلب شهادته ولا رؤيته للزمان والمكان . يومها كانت الارض التي تملكها الاسرة تترامى على اكتاف الفرات تزدهر فيها الغلال وتموج فيها اعداد غفيرة من الفلاحين المعدمين الذين يرون في تلك الاراضي ملاذهم ومالكيها هم سادتهم واولياء نعمتهم . ويومها كانت الناس تقصدهم ، افواج من الشيوخ وصغار الملاك والسماسرة ورجالات الحكم ، كانت هنالك مآدب دائمة، وكان الأب الكبير ، شقيق العمة مثل سلطان ومملكة. مرت به حشود الناس وكان يفض المنازعات ويولم الولائم للمتخاصمين ، ويجني ارباحا عن صفقات غير معروفة ، وبالرغم من تقتيره الشديد فقد كان واقعيا نقيض ذلك... تمر بمضيفه في كل عيد افواج من الفقراء والمعدمين نساء ورجالاً واطفالاً ، ارامل ومشردين.. يلقي عليهم مالاً ويزودهم بلحوم الاضاحي والصدقات .. وكان ذلك مشهدا مألوفا في كل عيد.
يوم تشافى من سقم المّ به، اقام اعراسا لثلاثة ايام وعرف القاصي والداني ان سلطان المكان يلفظ انفاسه واذا به فجأة يمتطي صهوة جواده ويجول في الاراضي ويتفقد الفلاحين .
كان موكبه مشهودا يعلم بمقدمه الفلاحون ، فرسان عديدون هم ثلة من الخدم والحرس وابناء العمومة وهو في الوسط يموج في تلك الارض مترامية الاطراف... على ارض مزدهرة تحاذي مدينة الحلة وتمتد بعيدا مع امتداد الفرات تمتد اقطاعيته الشاسعة و قوانينه الخاصة ، كان يزوج الناس ويشطر العائلات ويستقبل اخرى ويهجر من يسرق او يبدي سلوكا مشينا. وسط تلك المملكة نشأ اولاد امتطوا الخيل وهم صبية ، ثم ابتلع اراضيهم الاصلاح الزراعي ، كانت ليلى يومها في بطن امها فلم تشهد ذلك التحول الدرامي المذهل . كانت للرجل اهواؤه التي اتسعت باتساع الاملاك وقوة النفوذ ، وكانت فصول الغواية قد اخذت اطوارا غير معهودة ، في السنين الاخيرة، وصار من ندمائه عرافون وعرافات وسحرة ، وقاد ذلك الى جلسات ليلية خاصة به يسمع فيها قصصا عن طالعه والسبيل لتوسيع ملكيته ، ولهذا بدأت فصول جديدة لصفقات تجري بشراء اراضي فلاحين ، وحفلات زواج سرية تجري وقائعها بعيدا عن العيون .. كان طاقم العرافين والاتباع يتخيرون له فتيات صغيرات من عائلات فلاحية شبه معدمة ولم يكن يمضي وقت طويل حتى تجد الصبية نفسها عائدة القهقرى الى منزل الفقر مع اعطيات بسيطة.. كانت هذه الاطوار الجديدة كفيلة بتصدي العمة الزاهدة المتبتلة ، وكان من ميزاته انه يرى فيها قوة ما لا قبل له بها ، كان يرى فيها نورا ساطعا وارادة لايمكنه ثنيها. وبالرغم من اغداق العطاء لها الا انها لم تكن تقبل غير القليل الذي تتأكد من مصدره .
كان جدالها معه لا يقوم على وقائع تشهدها بل ما تشعر به هي انه قد انحرف . كان ساعتها يستشيط غضبا ان هنالك عيونا ترصده ومنافقين ينقلون اليها قصص افعاله ، ولم يكن ذلك صحيحا ابدا . اذ كانت تعتمد على حسها وحدسها ، وعندها لايملك امامها الا السمع والطاعة ومزيدا من اليقين بها. كان الاخرون في حيرة من امرهم ، في شأن تلك القوة التي تمتلكها وسيطرتها على رجل عجز الاخرون عن ثنيه عن قراراته وافعاله. كان هو وحاشيته كتلة ماانفكت تكبر وتكبر معها مساحات الأرض وقطعان الماشية ، ومرة كان في شبه استعراض لتلك القوة ، يمر مختالا وسط جوقات مريديه ومن خلفه خيول وبغال وحمير وابقار واغنام وحشود من الفلاحين ... كانت تلك المسيرة مطلوبة لاستعراض القوة وتوصيل رسالة الى قبيلة قد شب نزاع معها على الارض وعلى الماء ، وكانت تلك الحرب النفسية كفيلة بحلحلة الامر وتحويله الى صالحه .
لكن زيارة العقل المدبر للوزارة العراقية ، الزيارة الخاطفة السرية التي كانت تجري وقائعها في اوقات غامضة كانت كفيلة بانعاش حياة ( المحفوظ ) , اللقب الفخري الذي كان يطلق على ذلك الرجل الفريد .. فالعقل المدبر .. كان وزيرا فذا في حكومة جلالة الملك ، تعاقبت الوزارات واقبلت الوزارات والوزير – العقل المدبر كما هو.
كان ينقل صورة زمن محتقن حول صراع الارادات بين رجالات البلاط وحركات الوطنيين والثوار واحتشاد العشائر ثم الانقلابات المتعاقبة . وكان الوزير هو الوزير والملك هو الملك وسفارة جلالة الملكة , سفارة بريطانيا العظمى في ثقلها متراخية ترصد حركة امواج نهر دجلة .
الظنون التي لا يعرف ابعادها احد ، كانت تتداخل في جلسة الوزير ، كرسيه الملكي الخاص ، المفارش الدالة على الفخامة والتكريم الذبائح التي تنحر لمقدمه ، الهدايا التي تليق بفخامته ، وفوق هذا حكايات سرية كان يجري البوح بها همسا ، عن ما جرى ويجري في البلاط ، وكانت اسماء : ياسين الهاشمي ، جعفر العسكري ، نوري السعيد، بكر صدقي ، رشيد عالي الكيلاني تتردد اصداؤها مع كل لقاء.. ولم يكن (المحفوظ) يردد غير: نحن مع الحكومة ، نحن معك يابيك.. مع جلالته المعظم ، مع حكومة جلالة الملكة المعظمة ، وكان الوزير يخرج هانئ البال مطمئنا ان ذلك الشريط الممتد بعيدا بأمتداد البصر ارضا وزرعا وبشرا كلهم كانوا معه فيما هو آت .
كان فخامته صورة مكررة لوزراء البلاط ، كان مهيبا رغم كونه اقرب الى قصر القامة ، حجم رأسه الضخم يبدو غير متناسب مع قصر قامته ، عندما يضحك تتراخى كتلتين تحت ذقنه تدلان على الترهل وتقادم العمر ، وكان انفه الافطس واذناه الصغيرتان تدل على فراسة الرجل وحصافة وعيه ، يمد كفا صغيرة بأتجاه الفراغ ويلقي جملا اعتراضية تدوّولت في اجتماعات مجلس الاعيان والنواب والوزراء . وامتلك الرجل جريدة بأسمه ، وصار له رصيد بالباون الاسترليني وكان اتساع ارض المحفوظ كفيلا بدخول موارد جديدة ودعم جديد لفخامته . كانت للبلاد اشواط من التحولات ، حكومة غازي تبادلت الادوار وشهدت الانقلاب وتطاحن الناس بين موال ومعارض ولم يكن المحفوظ يردد على مسامع الناس غير: نحن مع الحكومة مع فخامة الوزير مع جلالة الملك مع حكومة جلالة الملكة المعظمة ، بينما كانت هنالك وزارات تقال ولايعلم المحفوظ بذلك الا عند زيارة الوزير وكان جلالة الملك يرقب الموقف عن كثب في كل مرة ويقيل وزارة ويوافق على اخرى فيما سفارة جلالة الملكة ترصد امواج دجلة من مقرها في قلب بغداد.
كان المحفوظ طويلا مرهوب الجانب، يتطاول هيكله المشبع بالعز والرخاء ، اصابعه تعززها الخواتم ويرتدي عباءة مبطنة بالوبر ، وخفا فارسيا ويطلق لحية ليست بالكثة تحيط بوجه ذي سمرة مألوفة ، وعينين واسعتين ثاقبتي النظر وجبين عريض مطرز بالتجاعيد . وعندما يغضب كانت هيئة وجهه تكتسب شكلا مغايرا كليا وغير مألوف واما في لحظات البهجة فانه يخفي اي احساس مباشر بمشاركة ا لاخرين.
كان الرجل من خدام ال البيت يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم ، يقيم مآدب تليق بكرامتهم ويمضي مع قوافل الناس الذين يشاركونه ارضه بأتجاه مرقد الأمير ...
كان موكبه مشهودا تسبقه الدفوف والطبول، وتأتي معه قوافل الجمال والحمير والبغال محملة بالنذور والقرابين والصدقات ، كان يسير مزهوا بالجمع ولا ينسى ان يمر وهو في سبيله على الحلفاء من العشائر مؤكدا ولاءه لفخامة الوزير والحكومة وجلالة الملك المعظم والطاعة لحكومة جلالة الملكة المعظمة حيث يطل مقرها على شاطئ نهر دجلة الذي تتهادى امواجه علوا وانخفاضا والقوم يرصدون ما هو آت.
استرجعت العمة صورة شقيقها المحفوظ وهي تدور على شبه متحف للصور توزع على حجرة مبلطة بالطابوق البغدادي التقليدي ، وعلى الجدران نقوش تقليدية ورصعات من السيراميك الازرق ، وثمة تجاويف واخاديد تتوزع هندسيا في تتابع مألوف، فيما تغلف المكان روائح عتيقة دالة على التقادم تمتزج فيها نسمات من نهر دجلة , من السمك الصغير والاشنات والطحالب ورائحة المكان الذي ضاعت منه ريح قادمة من ذكرى المحفوظ. .
دارت العمة الكبيرة على الصور ، وقلما عادت هذه العودة المشحونة بالذكرى والشوق الى ذلك العالم الشفاف الذي تكونت فيه شخصيتها ، ومع ذلك المشهد كانت تسترجع صورة امها التي كانت حتى موتها تنأى بنفسها عن رؤية اي كائن عدا المحارم عليها.. وكانت اذ تؤدي واجبات الزوجية طائعة راضية رقيقة الحاشية ، فانها كانت تأخذ من الوقت اطوله كي تقرأ الكتاب الكريم وتصلي على الرسول وتسبح ما استطاعت مئات المرات ولما كانت تلفظ آخر انفاسها اوصت العمة بالمحفوظ والاولاد وليلى
.................................
الناشر : دار دونكيشوت - اسبانيا ودار عين الزهور - دمشق 2006 .