Monday, August 27, 2007

بورتريه امرأة مجهولة UNKNOWN WOMAN PORTRAIT

بورتريه امرأة مجهولة



قالت :
انا امرأة من دخان ، اتكور في زمن مجهول ، ادور حول نفسي وأتحول من حال الى حال حتى اغدو امتدادا لتحولات المادة وأصير دخانا ...
يمكنني التنقل في حجرات المنزل وفي اجزاء المكان ، كما احلق حول ملجئي وأطير روحا مرفرفة خفيفة من دخان ..
اتخلق في مديات احلامي ، وأطير دخانا على مكان نزوحي القديم ..
انا من فلسطين ، من مخيم الشاطئ ، انا شاهد على النزوح والجلاء ومخيمات اللاجئين ومدارس الغوث .. وها أنا دائرة من دخان في ملاعب طفولتي ... هنا في قلب الحدث : بغداد .
من الذي جاء بالدخان وجعل سيكارتي دالة علي ؟ ، هذه الماركات الأستعمارية لسكائر تعود الى سلالة سيجار تشرشل وسيجار هافانا وصولا الى سيجار طارق عزيز ...
ميامي وهوليوود ثم سومر وبابل والرشيد وكليوباترا وروثمان وكاميل وكمران .. و .. , وبقي الدخان هو الدخان ... ربما كان سبب الأختلاف اني قلت للطبيب انك على خطأ وأنا اكثر حيوية ونشاطا مع الدخان وأكثر بؤسا من دونه .. ولهذا قال ... انها حالة سايكولوجية محظة .. وأما القبلة الذابلة فقد تلاشت وذوت بسبب طعم الدخان وذوت الشفاه بسبب طعم الدخان الممزوج بالقهوة ..
واعترف بذلك .. ان القبلة الأولى هي التي جعلت ذاك الغلام ينفر سريعا .. بطابعه الوسواسي العريق ... ان الدخان والقهوة اسباب كل المصائب التي نمر بها ... ولو جمعت الأموال التي انفقت على الدخان لصرنا اباطرة وسلاطين ، نحن معشر الفقراء والموظفين الصغار ..
المفاجأة اني وجدت قلما في شكل سيكارة فاشتريت علبة كاملة .. ومصباح النوم في حجرتي طورته وصار في شكل سيكارة .. ونظرت في القاموس النسائي فوجدت اجماعا ان من تدخن فهي اما امرأة مسترجلة او معطوبة سايكولوجيا ..
مرت سحابة الدخان ، بالقرب من وجهه الشاحب ، ومفرق الشيب الذي بدا ناصعا على جانب شعره ، ودون ادنى اكتراث .. كان يحدد قراره .. انه سيغادر حتما ..
كانت غرفة المحررين قد خلت الا منا .. ورئيس التحرير ودعنا وبروفات الجريدة دخلت المطبعة .. اما هو فقرر ان يقول كلمته : سأذهب ... قلت له : لاسبيل لأسترجاع الكلمة او تصورها في هذا المكان ... ولهذا مسكت يده وخرجنا ... في شارع الكرادة وقد حل الخريف وبدأت ريح هادئة منعشة تضرب حدائق الورود ، توقفنا ... وأدرك حاجتي للدخان .. فتح زجاج السيارة وأشعل سيكارتي .. كانت تسريحتي لذلك اليوم نحسا علي ، فقد اتخذت تسريحة ( ولادية ) كما سموها .. تسريحة شعر قصير شبابي وعملي .. حتى بدوت مسترجلة بحق وحقيق .. ياه اشياء عجيبة تحصل لنا ..
احاط الدخان الزجاجة الأمامية ولم يكن من سبيل للوداع بقبلة او عناق او ماالى ذلك .. فقد طغى الدخان على المشهد .. وسمعت كلمة واحدة من كل النشرة الخبرية التي كان يستمع اليها ..
ا ..ن ..ت ..ف ..ا.. ض..ة
كأنني غفوت .. او ربما تعمقت في تأملي الفتاة التي عند منعطف الدار .. الفتاة المكتنزة البيضاء التي خرجت لتلقي نظرة على من يطرق الباب الخارجي .. وعرفتها فورا وياللعجب وكدت اناديها بأسمها ..
فلو قلت ( دخان او smoke ) لهرعت الي ولأسترجعنا ايام غرفة الطالبات في الجامعة حيث كنا نتبادل السكائر وقصص العشاق . لكن سربا من العصافير كان قد مر والتحقت بالسيدة ثلة من الأطفال .. وتأكدت انها اصبحت في عالم آخر اذ اشترط الزوج ان تقلع عن الدخان كي يشبكها بخاتم الزواج .
قلت له .. نحن في خريف الثورة .. وأنت تريد ان تحيي التاريخ ..
استغرب كلماتي .. وقال باستخفاف .." عن اية ثورة وأي تاريخ تتحدثين بالله عليك ؟ " .
انا اريد ان اهاجر .. اعاني تمزقا حقيقيا .. اريد ان اعيد اليك انوثتك المسلوبة ..
ان تعودي كما كنت يوم شاهدتك قبل سنوات ، يوم همت بك ومنعني كبرياؤك من ان ابوح بمكنونات نفسي .. ولست اصدق الآن انك هنا .. في مكان يجمعنا .. ولكنك قد تحولت الى كيان آخر ..
من فضلك عودي سيرتك الأولى ... من فضلك حررني انت من عبودية النار والدخان اذا شئت .. عود ثقاب يحرق المملكة .. وعود ثقاب يحرق دفتر التاريخ المزيف .. ويصبح كل شيء دخانا ..
ماذا بقي عندي .. هاأنا قد تجردت من كثير من اثقال الأنثى .. فقدت عدة كيلوغرامات من وزني ، لم يعد هنالك ردف يثقل حركتي ولا ساقين مترهلتين ، ولا صدر بمقاس ( اكس لارج ولا حتى لارج ) ولا كرش ولابطن ولا رموش صناعية ولا شفاه مطلية .. . هاأنا ... جاهزة ان اشتعل واتحول الى دخان ... مد يده .. ورسم على الزجاج دائرة ووضع نقطة .. ثم غمغم :
"سأعيدك سيرتك الأولى .. لكن .. لكن ساعديني .. استعدي من فضلك لذلك .. اتركي شعرك اطول وتناولي الفيتامينات من اجل نضارة الوجه .. ولابأس ان تزدادي بضعة كيلوغرامات .. بصراحة .. بصراحة .. انا سأكون دبلوماسيا بعد بضعة شهور .. وافترض ان سيدة يفترض ان تقف من ورائي وألى جانبي .. ".
كان الدخان قد غطى وجه مدن اجهلها من قبيل اطلال المخيم التي لم ارها الا خيالا في المرويات العائلية القديمة ..
دخان كان يغطي مضارب نزحنا عنها جميعا وبما فيها جلسات طفولة ومراهقة ، ولقاءات حب مختلسة ، اما هذا القانون الأرضي الذي شرعناه في السيارة من اجل ان اعود سيرتي الأولى فهو نقلة نوعية من حياة الأمم ..
لاأدري من اين تسللت المفردة ( حياة الأمم ) ، ولا ( النقلة النوعية ) في حياته وهو يتحول الى دبلوماسي من اهم مهماته ان يدين ويستنكر .. . ويصنع لغة دبلوماسية شاحبة كما هي لغة الدبلوماسية في بلاد العرب اوطاني ..لغة تطيل عمر الكائن الذ ي يملك مفتاح العاصمة وفيما يقصر من عمر الرعية ..
ترك لي متسعا ان افكر وأجيبه .. لكنني كتبت له على الزجاج .. ( سأواصل التدخين حتى النصر ) .. وأغلقت الباب ومشيت عند الغروب في شوارع وأزقة هادئة تتفرع من الكرادة .. وكنت ادخن وامزج كل نفس من دخان بصرخة وحشية تنبعث من سيارة عابرة حتى استنفدت سجائر ميامي ..
ببنطلون الجينز والكنزة السوداء ،والحذاء الرياضي ، بالشعر المقصوص والوجه بلا مساحيق ، من سيتحرك قلبه نحوك في نظرك ؟
مرت كلماتها .. وهي تتربع على عالم من العطور والماكياج والبدانة والملابس الضيقة والأماكن المعلنة من الجسد برسم الأغراء العام ..
كانت صورة مشاكسة ، نفخت عليها الدخان كمثل دخان السحرة ، وشاكستها واغلقت الباب من خلفي .. وتكونت من ورائي خرائط دخان جديدة ... مصحوبة بسحب النميمة ...والرثاء الجميل ...
كأنني في صالة قمار : تخسر الفتاة انوثتها بهذه الملابس وقصة الشعر ، وتخسر الفرص تباعا لأنها نفثت في وجه رجل الدخان ...
وهاهي ... اسطورة من دخان ...
تمضي في شارع نصف مضاء في ليل خريفي .. لتقول له : من فضلك ... هلا ارسلت لي دخانا مستوردا يوم رحلتك الدبلوماسية الهانئة ..؟
2006
القصة من مجموعة بورتريه امرأة مجهولة
اللوحة للفنانة العراقية عفيفة لعيبي

طفل الأمبراطورية THE EMPEROR`S CHILD


طفل الأمبراطورية

(اهداء :الى اطفال العاصفة الذين تشربوا اليورانيوم المنضب قهرا نخب السادة الكبار).
................................................................................................
عنــدما بـزغت شمس الإمبراطورية تكاملت البهجة وأنتشت روح جديدة ، روح مجيدة طالعة ، فـريده ، تحفها أصوات الكـرنفال وخطب المشـاركين الكبار في صنع ذلك المجد الباهر الكبير، أفــواج المبوقين وضاربي الطبول الأبنـاء الأشــاوس الذين صنعوا ذلك الوجود الفـريد .. كلهم جميعا يلتقون على صعيد واحد ، صعيد التمجيد والمباهاة ، الناس كبـاراً وصغارا ًومن شتى الأجنــاس ينشـدّون كما تنشـدّ الفراشات للضوء ، هاهم ينشـدون طـائعين متغنين لهذا الذي يـرونه ويسهمون في صنعه بحماسهم وصراخهم وصخبهم ونشـوتهم وغرابة أطوارهم ، يلوذون بالغابات والأماكن الـرخوة البعيدة ويختلـون مع أنفسهم ومـع أقرانهم ليؤججوا ذلك الأوار العارم الذي جاءت به الإمبراطورية وحتى أولئك الحـراس القدامى وهم يجولون بحواماتهم أو مركباتهم العابرة يشـدون على أيدي أولئك الأبناء عشاق الإمبراطورية الذين يلعقون حـلاوة أيامها ويلتهمون مكاسبهم ولا يتوانون عن التعبيـر عـن أنفسهم بالشعـوذة والجمـوح والضجيج والافتعال .
وهنـاك غير بعيد عن شمـس الإمبراطورية وكـرنفالها في أمـاكن مخبأة نائية ظليلة يغمرها الدفء وتغشـاها الحـركة الـدائبة..
هنــاك .. كانـوا يتوارون عـن الأنظــار بأقنعتهم وبزاتهم الغـريبة .. ثلّة من الكائنـات الصـامتة التي تمشـي داخـلة خارجة ، طالعة هابطة بلا هوادة .. هنـاك .. كانـوا يدبـّون كالخرافة ويصنعون للإمبراطورية مصدّاتها الشوكية .. صولجانها .. وذراعها القاسية كانوا يستخلصون من خطاب الإمبراطورية وبرتوكول المستشارين حقائق مؤكدة .. ليست المصدّات الشوكية ألا إحداها .. ولذا امتدت الرحلة طويلاً بأولئك الأشخاص الصامتين القابعين في القاع .. الذين يصنعون المصدّات الشوكية ولذا كان من دلالات كل ما أدركوه أن قوة ما .. غاشمة مجهولة .. أن لم تكن هناك في مرمى البصر حاقدة عدوة .. فيجب صنعها لتجريب المصدّات الشوكية في أجساد أفرادها .. يجب أن يعلنــوا إلى الأبـد أن الإمبراطورية تملك أسرارها التـي تنتظم لها المجالات والفضاءات والبــلدان ..
ولــذا مر حشد من المشاورين الكبار ببدلاتهم السوداء وأحذيتهم اللماعة ذات الأعناق الطويلة ورؤوسهم الصلعاء …مروا مثل سحابة كحلية هبطت على الأرض القفراء على رمال الجزيرة البعيدة ..وجاءوا بأشباه السحرة الذين يرون ما يكمن في القاع من عين خفية ..عبر مهاميز ومجسمات ترتبط بكوكب الإمبراطورية أو حزمة أقمارها المسؤولة عن الوشايات والنبش في أحوال الناس عن بعد .. وبعدما ما هبط أولئك المشاورون مرت بالقرب منهم قافلة من الجمال الضالة .. وتأكـدوا أن مثــل هذه الظـواهر لا ينبغي لها أن تكون أو تستمر .. فلا حيـوانات ضالة .. ولا أحد من حقه في هذه الفلاة أن يقول أن الرمل لي .. فالـرمال ملك للطبيعة ولكلّ امرئ الحق في أن يـرتمي عليها ويغوص في أعماقها .. ولذا كانت المصدّات الشــوكية هي الأداة المناسبة لوضع كلّ شئ في نصابه .. إذ بهــذه الاسواط التي يسخر حاملوها بأنها ( سلَطَة ) منوّعة من المعادن الكوكبية تم صنع تركيبة خاصة منها تنطلق عن بعد عبر الفضاءات ومدى القارات وتستقر حيث تشاء لتفتك بذلك الرمل السائب . تبقـى كامنة فيـه دهــوراً طوالا ًفلا يقـوى من لا يرغب في الإمبراطورية إلا أن يسلم بحقّها في كـل الأشيــاء .
والمهم عند ذاك .. أن محصلة أخرى كانت تتخلق وهي ذلك الرذاذ الجميل الذي صنعته الإمبراطورية بصبــرها وكدّها .. الــرذاذ الذي يمر كسحـابة العطر على شتى البقاع..
***
ولذا صنعوا هناك سحابة صغيرة اهدوها لغلام يافع من تلك البلاد البعيدة .. جاؤا به حافيا ًجائعا ًخائفا ًدون أب ولا أم .. إذ تـاهوا كما تاهت الآلاف المؤلفة في البيداء وحفت بهم المصدّات الشـوكية وأبقتهم كما هـم أرواح طائـرة تتسـامى في الملكوت .
أما الغلام فكانت حاله نتاجاً لعبقرية جديدة .. أن يعبروا له عن ذلك الإحساس الإنساني النبيل فيهدونه غيمة عطر داخل علبة براقة جميلة ومتى اشتاق لها فتحها فلفحته بغبارها الجميل .. ولانّ أولئك الذائدين عن الطفولة الجريحة هم أكثر عطفا ورقّة حاشية فقد أرادوا تخليص الأولاد من عبث آبائهم وشجن حياتهم .. لذا وجدوا { الغلام الإمبراطوري الجديد} ضالّتهم هكذا أسموه وجدوا فيه ما يحقق الأحلام كلها ..
لذا اكثروا من حوله علب الغيوم الماطرة بالرذاذ والغبار الجميل وسط هذا وقبل أن ينغمر الغلام في تيه تلك السحابة الحالمة أقيم الكرنفال السري الذي بموجبه ستغمر غيوم الإمبراطورية المخبأة أفق الأقوام الأخرى لتضلل غمامات العطر مزيداً من الأولاد اليافعين .. كان احتفالاً صامتاً توارى فيه المشاورون والغرباء خلف واجهات زجاجية ضخمة وأختبأوا في صناديق بلورية وارتدوا واقيات وكمامّات مزودة بخراطيم حلزونية طويلة وقرون استشعار متعددة .. وكان أنصاف السحرة بملامحهم الهجينية يعدون العدة لما سيجري وسط شاشات عملاقة شكل الرمل قاعدتها فيما بدت هناك أبراج كبيرة ومراجل ومستودعات ولاحت في الآفاق طيور حديدية نفثت حمماً فظيعة وتلوت وصعدت وهبطت وخلفّت ورائها سحبا ًصغيرة مخصصة للأجيال الطالعة من رحم الإمبراطورية . سرت في دخيلة القوم إمارات السرور وخيلاء الانتصار .. وهم يرون الطيور المسحورة تفتك بتلك الأرض الصحراوية وتستبدل شمسها الساطعة وهوائها النقي بالسحاب الإمبراطوري والرذاذ المعطر.. وتغرس هنا وهناك مصدات شوكية ولوده ستبقى إلى عدة مليارات من السنين وهي تتناسل وتكثر .وفي أفق رمادي مغلق جاءت رافعات آلية بجسد ذلك الغلام العاري وبمجرد أن تعرض للموج المنضب حتى طفى على سطح هلامي سابحاً في موج هيدروجيني كاشفاً عن أعضائه كلها وراحت تنبت في خلايا الغلام مصدات شوكية معدنية صغيرة سرعان ما تتعملق وتمتلك رؤوسا كرؤوس الشياطين .. بينما كانت صناديق الغيم تنفتح على التوالي وتنطلق منها تلك السحب المعطرة .. والغلام يجري تحليله إلى عناصره بينما كان نشيد الإمبراطورية المهيب ينطلق في الفضاء الشاسع وسط نشوة الانتصار بولادة طفل الإمبراطورية الناضب الذي صار له نصب كبير وارتبط باسمه ووصفه بعشرات الآلاف من الأطفال في شتى بقاع الأرض الذين يجري رزقهم بالغيم المعطر ، وإهدائهم الصناديق البراقة ويجري تدريبهم وتهيئتهم لتقبل المصدّات الشوكية في أجسادهم الرخوة كي يكونوا رمزاً للإمبراطورية التي يحفها الحفاة والعراة والأباطرة على السواء وهم يلمحون صباحها البنفسجي وموسيقاها وعبقريتها وشراب الرفاهية الذي تسقيه للخواص من أصدقاء ارض الإمبراطوري.
***
في المدى المجهول .. كان هنالك رجل صغير وأم نحيفة يطلون عبر الفضاء الصحراوي القاحل ويحملقون في السماء البعيدة منتظرين قدوم الغلام الذي غشته غيمة الإمبراطورية وظنوا إنها مجرد سحابة صيف عابرة لكنهم وعبر المدى رأوا أفواجاً من الرجال الصغار والنساء النحفيات وهم ينتظرون أبنائهم الذين التحقوا بطفل الإمبراطورية الناضب.
2000
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
اللوحة للفنانة التشكيلية عفيفة لعيبي

وجه السحابة البيضاء THE WHITE CLOUD FACE



وجـه السحابـة البيضـاء




عبـر الممر الطـويل ، تتـوزّع الغـرف البيضـاء الصغيرة ويستسـلم الحي للـرقاد الجميل ، بـدت المـداخل مهجورة ،وغابت أصوات الصغـار ، لكنها خرجت بنشـاط لتسبـق وقت التحاقـها بالمستشفى بسـاعات ، حملت قميص التمريض الأبيض وغمرها عطـرها المفضل فأنعش فيها لـذة الحيـاة المقيمة في داخلـها ، الحياة الصغيرة المسالمة الهادئة ، تركت صوت الأم يأتيها ناعسـا بعيـدا وهي تودعها وقد غـط الباقون في قيـلولة ناعمة ، بدا هيكل المبنى بين الأشجار السـرو المتراعشة المصطفة بانتظام وكأنه مركبة فضائية وقد حطت على رؤوس الأشجـار ، وتدفقت فجأة رائحة الأريج الربيعي المنعش فارتوت نفسهـا الـرقيقة ، ولـذا تدفقت عبـر شفتيها الرقيقتين تـرنيمة قديمة عاشت معها سنينا هي مـزيج من الشعر وإيقـاع الموسيقى وعاد إلى سمعها صوت الفتاة اليـافعة التي كانتها وهي تـرفع سمـاعة الهـاتف فيأتيها النغم شجيا مبهجا ، صوته المنغم العذب ، نفسـه الرجولي الذي يذكي فيها تدفق الأنثى وتألقها ، عاد الصوت وعادت معه لمسـة الكف الخشنة المألوفة وتتابعت عبـر الممر المؤدي إلى الحدائق طرقات وقع خطاها في تنغيم متصل أمتزج مع سيرها الواثق ، بجسدها الرشيق وقامتها المتناسقة الملفتة ، ولم تكـن الانتقالة من أريـج الحدائق إلى روائح المعقمات وهواء المستشفى ألا امتدادا لشخصيتها المحلقة الحالمة ، وجدت نفسها وسط سحابة من الابتسامات والمداعبات والكلمات المشاكسة من صديقاتها ، سلسلة من الكائنات التي ترفل بالبزات البيضاء الناصعة تقطعها بين حين وآخر كتل خضراء كاملة لممرضين وممرضات وأطباء خرجوا توا من غرف العمليات أو يهمون بدخولها ، وكعادتها عندما يلوحون لها تتضرع مع نفسها ضراعة خاشعة للـرب كي ينقـذ أولئـك البشـر المستسلمين لـرقاد التخـدير بانتظـار المشـارط والسـكاكين .
***
في مفكرتها ..كانت هنالك أسماء وأرقام هواتف وعناوين إلكترونية وبريدية لأصدقاء وصديقات ,امضوا مدة التدريب في المستشفى الكبير ثم غابوا ..شعرت أنها وريثة تاريخهم ,فالأولاد انشغلوا في حروب البلاد ,,,,وغابوا في مستشفيات الميدان ,وأَُسر من أسر منهم وعاد من عاد بعد حروب طاحنة ومخاضات عسيرة….
يومها سألت عن رجل ما …شخص تختلط ملامحه بوجوه تلك الثلة الجميلة من الأصحاب وقيل لها انه ظل طويلا وهو ينشغل بإجراءات هجرة إلى بلاد مثلجة بعيدة …..وأنه ترك مهنة التمريض والمستشفيات واشتغل بتجارة العملة في السوق السوداء …لكن انكسارات رهيبة كانت تلاحق هذه السوق ومطاردات وأحكام قضائية شنيعة,ولذا قرر أن يحمل ما تبقى لديه ويلوذ مهاجراَ الى ارض ما ..وهاجر أو غاب أو… أو..لا تدري .. سوى انه هو .. كما كان رجلا اختصر عليها دروب الكلام وقلق الأنثى وتغلغل في قرارة إحساسها لكنه لم يكن مغوياً ولا لعوباً ولا صياد نساء..بل كان رجلاًوانساناً فحسب..طارده نحس الجيل وهزائم الحروب ومآسي التحولات فلم يعرف كيف يحيط بالمشهد كله ولذا دهمه النسيان .
هاجر ا خوانه واغتربوا توزعوا في بلدان عدة وأخواته تزوجن ووالديه فقدهما في قصف وحشي لملجأ مدني في البلاد …ولم يبق من السلالة إلا ّهو..كان يعزف على الكمان..قال انه كان في قرارة الحروب التي كان اسم "الكريهة" يرافقها..كان يتدرب على العزف ..وظل يغني بانسجام في حديقة الجامعة ..ويرنو لعينيها بعفوية وود..ثم غاب وغاب الكمان والكلمات وتسللت شعيرات الشيب ..وبقيت هي كما هي.
***
تقشعت السحـابة البيضاء لتـدخل في الممر الـذي تشبع بأنفاسـها وأصداء موسيقاها المفضلة ، وتلوح الصـور التي علقتها منـذ زمـن ، ثم آيات من القرآن الكريم ، وحتى وهي تستبـدل ثيـابها بالحلة البيضـاء الناصعة وتلسعها ، بـرودة الجـدران فأن ثم كلمات تأتيها غمامـة ناعمـة تحف كيانها فتـزيدها حبــا.
فجأة قرعت أجـراس الإنذار في غرفة الاستدعاء ، وتدفق النـداء عبر مكبرات الصوت وتراكض الممرضون والممرضات وتتابعت العربات ، ارتدت ملابسها سـريعا والتحقت بقسم الحالات الطارئة والمستعجلة ، وبـدأت سيارات الإسعاف تقدم كائنات مـدمّاة ومشوهة من جراء حادث مـروع وتهيأت بكـل قـواها للموقف وكان وجـودها في المكان مبعث ثـقة الجميع لأنها تحـل في اللحظة الحاسمة كمالوأنها كانت محلقة وحطت في وقت الأزمة ولهذا امتلأ ملفها بكتب التقـدير والتكريم والإطراء .. لكنها وهي تتبـع إحدى العربات والطبيب يردد أسماء المصطلحات الطبية وهي تكتب والجسـد مسجى أمامها وقد تكـور في هيئة أثـارت إحساسها العميق المتجدد بالإشفـاق ، وجـدت نفسها وهي تسحب بكف مكدودة شـديدة ، كانت كف ذلك الجسـد المسجّى وقد ارتفعت لتمسك بكفها بقـوة ، امتد شعاع ليزري غمر جسدها كله بقشعريرة شرسة ، وأحست بالهلع لأنها أستنتجت أن ذلك الجسد يعيش لحظاته الأخيرة وحاله حال من يتشبث بقشـة من اجل أن ينجو من الغرق وتجسمت في كيانها كله أصوات الاستغاثة الملتاعة ، لذا سرعان ما انحرفت بالعربة نحو الصالة القريبة وسط دهشة الطبيب والمسـاعد وراحت تخرج من الأدراج عقـاقير المعالجة السريعة وأدت كل شئ بسـرعة وثقة بينما كان الكيـان المسجى قد تلقـى التنفس الاصطناعي وراحت شاشة النبض تعلن عن استمـرار الحيـاة ثم نزول خطها البيـاني وسط قلقها هي واعدادها جرعات المرحلة التالية .
وتنقلت عينها بين صورة النبض وبين تساقط قطرات محلول الجلوكوز وبين الكف المكدودة الـدامية التي مسكت بها ووجدت نفسها مندفعة بحركة آلية نحو زجـاجة المعقم لتنظيف الوجه من البقع الدموية القانية ، ووسط الإغماء ، راحت صورة العين المغمضة تتجسم لها وكذا الحاجب والأنف الشامخ والفم ، عندها ارتجفت كفها ثم اندفعت تسرع في تنظيف الوجه ومع تتابع مكونات الوجه عـادت أليها صورة الحديقة المروية ، صوت الضحكة ، الشعر ، حركة الشفتين ، الموسيقى ، الكتاب الأول المدينة القديمة وعادت كفه الخشنة المتشنجة لتستقر على كفها فتشنج جسـدها كله وصرخت من قـرارة الماضي باسـم رجل تكتشفه بعـد أزمان ومنـذ زمـان وهي تبحث عنه لتشـاهد الخط البيـاني ينحدر سريعا وهي تمسك بالكف متشبثة ومنـاشدة وهي تنشـج بصمت .
1997


القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
اللوحة للفنانة التشكيلية العراقية عفيفة لعيبي

ترجمان الألم THE PAIN TRANSLATER




ترجمـان الألـــم




( إلى روحي ابني عمتي :علي وعبد الكريم ، الضحيتان البريئتان في عراق الثمانينيات )
..
(وجهك معـروف لـدينا .. ضـع أوراقــك.. اخبرنا بكل شئ .. أنت تعرف ونحن نعرف!)
..
في المدى عصـافير صفراء محلـقة في المدينة الحجرية العتيقة ، والعـابرون يسيرون وكأنهم يطفون على سطـوح إسفنجية ، يسيرون غير عابئين بالمدى الرمادي الذي تتابعت طبقاته الأثيرية ودكت في مـداه شوا خص لمـراكز مراقبة وعسس غـرباء ..مفتشين ..ومراقبين غرباء..
.. نـزل عند رغبـات كثيرة ، رغبـة المسؤول أن يرتحل من مدينته وملاعب صباه ، رغبة المدير ان يترك المدرسة إلى مدرسة أخرى , رغبة جاره ان يتوقف عن الصراخ في حجرته , وظل يدور في الحجرة الغبارية , هكذا اسماها (عماد ) صاحبه وزاد:انك كتلة حجرية سمراء والغبار يؤكد وجودها , وأراد ان يوضح انه وسط زحام المدينة , في اللهيب الحارق , وعندما انظم إلي كتلة بشرية , صعد الباص المحمل بالجنود والمتسولين وصغار الموظفين والغرباء المقنعين ،و عندما انظم إليهم مجبرا ًوعبر عدة جسور ومنعطفات أكتشف أنه قد سٌرق..وان أشياء عزيزة قد نهبت منه ، هويته ، بطاقة تعريفه ، هكذا ببساطة .
كان هنالك إحساس بالانقباض يسيطر عليه منذ الصباح ..وهاهو في قسم الشرطة وأمام المحقق يعلن عن سرقة هويته وأشياء اخرى في جوف الباص .
اقترب المحقق منه بعد اخذ أقواله ..وهو يعبث بالقلم الذي بيده ..
-وما لذي يثبت انك أنت ..عزيز ..سعدون..الشلال ؟
-وجودي أمامك يا سيدي ..وجهي ,وبصمة إصبعي.
-ولمَ لم تبلغ عما حل بك منذ زمن..لم َ لم تراجعنا قبل هذا؟
-المسألة يا سيدي انّ أشياء عزيزة قد نهبت مني , الناس تتكاثر في المكان , لم يكن ممكنا منع أية يد أن تتسلل وتنهب .
تطايرت أمامه من على طاولة المحقق أوراقه وبقايا طفولة متشظيّة ,طفولة فتى البراري ,عندما رحلت أمه,بحث عنها في عقله وثقل عليه ذلك الرأس المحشو بوجوده القلق .. وها هو يجوب الآفاق ..الضواحي ..بحثاً عن شهود يحضرون أمام المحقق ليثبتوا (حُسن السيرة والسلوك) ويقسمون على معرفتهم الطيبة به.
ركلته المتاهة ، فكان ماكنة حجرية زادتها الأيام مراساً وعناء ، دوي في الرأس مع الشعر والرسم ، وما صلة هذا بذاك يا أبن ال… وتحب وتكره .. ولا أوراق لك .. لا بطـاقة هوية ولا دفتر خدمة .. عيونك تائهة .. ونظراتك زائغة .. نعرفكم من نظرة عيونكم ، نقرأ فيها الشك ، نشم رائحتكم ، من أين انت يا لعنة جلجامش؟ .
دار المحقق حوله وفجأة صاحت امرأة في الشوارع المجاورة ، صيحة حلّقت معها العصافير النحاسية ودوائر الغبار وأهتز مصباح الغرفة الغبارية وتكور جسد ( عماد ) صديقي ، كان فمي مفتوحا ولحيتي كثة ، وأنا جـاث على ركبتيّ ويـدي ّإلى الخلف وثمّ نهب لا يتوقف لجسدي ، ثمّ وخزات ثمّ أصوات سمفونية لمطارق وطبول وفمي مفتوح والمرأة تصيح والعصافير النحاسية تحوم حول جسدي المسجّى ..
..
لست أعرف سبب انفجار الموقف ، فأنا بطبعي أعاني من التصاق خلقي للسان .. ربما استخدمت الصراخ بديلاً عن الكلمات ، صـراخ تطلبته مواقف معدودة في دروب الحياة ، لكنني لم أصرخ في وجـه المحقـق ، كان وجهه متعـرّقاً باستمرار وهو يوزع نظـراته بيني وبين جرة الماء والثلج والسيجارة .. قـال أنه انتظرني طويلاً وها إنني جئت أليه برجلي ، وأكـدت له أنه مجرد بلاغ عن فقدان بطاقتي ، هويتي ، تعريفي ، وهكذا وضحك عاليا .. بعدما فرغ المخفر من العائلات ولم يبق غير النـزلاء والحراس وثمّ دوي سيارات عابرة بعيدة ، شعرت أننا في كهف ، في فلاة نائية لا تمتد لها يد الله ، لا أدري ، ربما لاحت عبر النافذة المكسورة سحابة بيضاء ومرت ليتدفق بعد مرورها وهج وبريق خاطف ، نهضت ببطء وحاولت جمع الكلمات ونطقها بوضوح أكثر ، لكنه ظل يلوّح بما كتبته ، ثم راح يرغي ويحمحم والعرق يتصبب منه ، فجأة صار يضحك ويقهقه وهو جالس على كرسيه الهزاز .. حفّ بي أشخاص بسحنات محترقة وأخرى خنثيه ..
....
درت في الغــرفة الغبارية وقلت لعماد أنني سألقـي كـل شئ في المدى لتتلقفه الـــريح ، قمصاني سأطلقها للـريح وأوراقي سأنشرها لأكـون كما أريد .. أن أولد .. هكذا .. مع نفسي .. وضحك عماد وروى تفاصيل أخرى عن ( هدى ) فكرهته وطـردته من الغرفة ، هـدى كما هي في دروب الكلية تنتظرنا فتزوغ نظراتي وأتركها مع عماد بسلام .. وفي كل يوم أراهما .. وأكتب لهـدى قصــائد غــزل وعمـاد يؤكد إنها هنـاك بانتظاري ، هنـاك حيث لم يبق غير أسمها في مكان يغمره الغبـار .. بنينا معا صورة الـوطن الصغير .. في بيـوت عصافير منهوبة .. قلت له : يا سيدي هـذه صـورة أخرى لي .. حـديثة .. فخـذها واصنع لي هـوية جـديدة .. تعريفاً بطاقة جديدة .. اجمـل واحدث .. أخرج ملفـًا وراح ينتزع الأوراق مـنه وهو يصـرخ في .. ها أنت .. هذا أنت
.. هذه أقـوالك .. هـذه أفعـالك .. ..
***
قررت الخـروج .. قلت لعـماد دعني أصـرخ وهو يكتفني .. يستخـدم أقصى قواه لمنعي وإغلاق فمي ، في الليل الجهنمي الطويل حيث فرق التفتيش مستمرة بلا نهاية .. وأنا أصـرخ وعماد يشتمني ويـركلني ويجـرني من شعـر رأسـي .. هدى جاثية في الزاوية وسط الغبار .. متكورة .
***
كتلة قاتمة غامضة صامتة ، جرّني فدفعته للجـدار.. فتحت الدولاب ونثـرت ما تبقى وفتحت الحقيبة وحشـوت فيها الأشياء ، وقلت له أنت وهي وأنا في المهب فخـذها واخرج ودعني أخوض الأمر وحيداً .. تقدّمت مثل هرة جائعة ، زحفت ، وتشبّثت بيدي .. شعرت برطوبة كفها وسمعت نشيجاً مكتوما ً، نظرت طويلاً لها ، ثم فتحت فمي وقلت لها : لا يوجد شئ .. فراغ .. فراغ .. فراغ .. لا شئ .. فراغ وطوحت كفي في متاهة الغبار .. عندما كانت الديكة تصرخ .. طوّحت يدي في المتاهة وضربت المصباح بقوة .. فعمّ الظلام .
***
المفتشون أدركوا الحالة بكل أبعـــادها ، هنا وهــناك وفـوق وتحت وفي الماضي والحاضر ، قلّبوا الأمر كلّه وانتهكوا أشياء وأشياء .. كنت بعيداً وأسمع دبيب خطاهم وتحسسهم الفائق لكل ما يفتشون عنه ، أحسست أنـني أنا .. أنا الهدف ، والدبيب يسري في دمـي يتقدم بأضطراد كلّ يوم وكلّ شهر وكلّ عـام ، وسيبقون يترصدون بأجهزتهم ومكائنهم واستراقهم وإنصاتهم ، ولهذا سأخرج .. سأخرج .. مع ان هذا ليس ذلك هو اتفاقنا والتعهدات أصبحت كالـوثيقة التي علقت على جــدار الكعبة ، أكلها الدود ، نهبت حروفها ولم يبق غير أسـم الله .
***
تاهت خطى عمـاد وبقي قميص هـدى على النـافذة .. ونزلنا السلم في الليـل وبقي باب الغرفة مفتوحا ، نظرت أليه نظرة أخيرة ، كان هيكلا خشبياً مثقّبا ً،نقشت عليه أسمـاء الأولاد كلهم ، كل الذين مروا ، طلبت منهم أسمائهم وتواقيعهم على الباب فأكتظ من الداخل بأجيال الأولاد الذين مـرّوا ، عـدت إلى البـاب وركلته بعنف ، أنـزلت رغبـتي في محوهم واحداً وحدا ً، نزلت السلم سريعاً لتستقبلني ظلال هدى وعماد ، ظلان طويلان ممدودان ، شعرت بثقل الليل ، ولم أجد في نفسي تبريراً ولا قبولاً لهذا النوم ، إذ كانت المدينة ببيوتها الحجرية لا تعرف ليونة النوم ولا أحلامه الرقيقة وكذا أناسها الذين سيصحون في الصباح وكأنهم لم يناموا .. مثلي حيث حلت اللعنة على غرفة الغبار ، وخلفت ليال مليئة بالسخرية واللوم والجـدل..
. اندفعت نحو ميدان التماثيل ، حيث تتابعت وجوه الحكّام والقادة والثوار في ذلك المدى الصامت ، قامات حجرية لّفتها العتمة فبدى الرجال الصيد تائهين في تلك الساحة ، خارجين من التواريخ والأمجاد والصولجان ، هكذا ، ينظرون في الفراغ المعتم العميق للمدينة المستباحة حيث تتجسم إلى أزقة وبيوت فخمة وأخرى آيلة للسقوط بينما تلـوح من حولهم كاميرات المراقبة واسـوار الإنذار المبكر ، وتتلا مع تحت أقدامهم سلاسل الذهب التي تسوّر كلاً منهم ، جلست على الحقيبة ريثما أتممت سيجارتي وتحسست لساني فلم أشعر بوجوده .. انتابتني رعدة مباغتة ، نهضت مذعورا ًفتعثرت بإحدى السلاسل فصرخت الصافرات وشعرت بالـرجال الأشاوس يشيرون لي بأصابعهم ، لا أدري كيف وصلت إلى غابة المدينة والعـرق يتصبب مني والحقيبـة قد تفككت عـراها وأنا لا أكاد أقـوى على الـوقوف …
صرخة الديك في رأسي وكذا العصافير الصفراء وسط العاصفة والريح ، عصافير تائهة .. والناس تحتمي وتلوذ .. وأنا اجر حقيبتي والتراب يغمر شوارع المدينة ، بقينا طيلة ساعات الصباح ونحن لانكاد نرى للمدينة وجها فثم سيارات قليلة ، المفتشون ينادون زملائهم في مواقع أخرى ويصفون أوضاع السير وحركة الناس .. كنت ارقب قطة المقهى وهي تلوذ هي الأخرى معي في تلك الحجرة الملوثة بالدخان ولطخات الدهان ..ظل العـامل يرمقني بنظـرات متسائلة وأنا أقلب الأوراق وأعيد صفها ، وأنا أربط الحقيبة المفككة ، كنت منهمكا والريح تصفر والصفيح يتساقط . عندما وجدت العامل بالقرب مني يضع كفيه حـول وسطه .خرجت عنـدما هدأت المأساة .. وجاءت الشمس محملة باللهب .
***
تـدافعت في الـرأس بقـايا صفير العـاصفة وصـوت صافـرة الإنذار وسيل الأغاني ..
(يا ..يا ..يا ..ديـرة هلـي )
توزعت أمامي فصول المحــاولة ، أكيد أن هــدى وعمـاد في الحـديقة يتداولون الأمر ، ويصلون إلى حصيلة عني والمشروع الكبير يفجر فيهم عشرات الآمال فيشتمونني .. أكيد بقيت في دولابي كتل ورقية ملأناها ، كانت إرادة غريبة ، خاطب عماد مراكز معلومات وأبحاث وأدخلنا في متاهة الشبكات الحاسوبية ليعزز بناء ذلك المجد .. وكنت حينها اشتمه بالشعر ، أهجوه ، وهدى تضحك منه وهـو ينحت بكدّ تلك الفكـرة المجنونة التي عصفت به ، وقفت علـى الطـاولة وأديت دوري كــاملاً ، أثبت تلك الخيـانة .. خيـانة .. في كل مرة ثمة خيانة وخونة أتفهمون ذلك..؟ عجيبة ، كان عماد يرقص فرحا وهو يقول : وجدتها .. وجدتها .. ويدور من حولي وسط ضجة أشعار السياب وعبد الأمير الحصيري وحسين مردان ....
في دروب الكرخ القديمة بحثت عن هدى .. وأردت أن انظر في عينيها لآخر مرة .. لم يبق لبيتنا القديم من أثر بعدما جرى ماجرى .. لا أدري من الذي سوّره بهذا السور العالي الرهيب ، ومتى ،المهم أنه الآن وجود اسمي ، وجـود تحمله ذاكرتي حيث تتجسم النوافذ العتيقة وفضاءات ( الحوش) وأبراج الحمام والنوافذ على السطوح ، سرت في غيهب غريب من أسجية فولاذية وشوارع مقفرة انكمشت الدنيا يا رجل .. ولكن وسط كآبة المكان لاح دجلة العتيق هادئا محزونا .. وبث في الفضاء نسمة رطبة افتقدتها طويلا ، دلفت عبر دهليز طويل تحفّه حجارة عتيقة مصفوفة بانتظام ورميت نافذة هدى بالحصى وخرجنا . بعد طول جدل نظرت في عينيها طويلا ففهمت .
ثم راحت تسرح بنظراتها في أفق المدينة فجأة استــدارت وعينيها غارقتين بالدموع .. أمسكت بي بما أوتيت من قوة .. تشبثت كالغـريق ، ضـربتني على صدري ثم ارتمت باكية ، ثم انصرفت سريعا وفي يدها آخر أوراقي التي أردت أن تكون بين يديها ويدي عماد .
رأيت صورتها في ملفي وقال المحقق : أليست هي ؟ لم أكن أشعــر ألا بخفة روحي … غاب الجوع وبقيت ( هندسة الألم ) ، كيف شربت الألم من اللثة إلى الأذن ومن اسفل الرأس إلى نهاية العامود الفقري ومن أصابعي إلى الصدر والبطن خارطة الألم كانت متكاملة تتوزع عليها قارات جسدي، تداعى سائر جسدي بالسهر والحمى بعدما اشتكت الأغلبية من الاجتياح.
أدركت تلك المعادلة وقدمتها لعماد ، وحار فيها في البدء ثم جسمها واقعيا ،تكوين هولوغرافي ينطلق فيه التيــار سريعا ، شعــاع ليزري تتدافع فيـه الشحنة في موج عاصف ، كانت روحي خفيفة ونفسي مطمئنة لتلك الحملة المخلصة التي شنوها لصنع الألم في جسدي .. تأكدت أنني لا أشعر بوجود المعدة ولا الجوع ولا العطش ويتناءى وجود أعضائي الأخرى في مسار الألم الطويل كانت هندسة الألم كوكباً نارياً ذو قلب أحمر تحف به هالة صفراء وزرقاء وتمتد أشعة حارة كالنصال إلى الجسد ومن حوله .
كان كوكب الألم يجتاح جسدي جزءاً فجزءاً ، يقيم فيها ، وتتكور النوى الألمية الصغيرة لترحل في العروق ، تشق مساراً كاوياً في دروب المجهول الإنساني . حطت كرة الألم على كراسي التحقيق والحبال والفوضى والركل والتعليق والشد والكي .. فهل بقي شيء من روحك الطائرة لتحط قرب عماد وقرب هدى فتشرب كأس الألم عنهما؟ ..قال أحدهم : انهم بجوارك ..في زنزانة اخرى يشربون ما تشرب.
***
افعلها ولتنزل سحابة الألم , لتفرغ هالة الألم أشعتها النارية .انزلي يا نار جلجامش يا ألم الخليقة ..انزلي يا سطوة الصولجان .. انزلي مرة واحدة .. انزلي يا اسطوانة العذاب كتلة نار وحشية .. اخترقي الأجساد .. انزلي وافتكي بهم .. تدفقي يا نـار جلجامش خيمة من شظـايا ..
انشري عذابك ولنعلن ترجمان الألم مرة واحدة …
***
يا عزيز سعدون الشلال .. قال المحقق أنهما ألان دونك يفتك بهم العذاب .. وملفك بين يديك فأخرج به إلى الفضـاء أحمل حقيبتك سريعا أيها المجنون .. اخرج بلا عماد وبلا هدى .. أتركهما واخرج ..
***
في غرفة الغبار بقي الرجل قرب ملفه ، يقلب فصول النظرية التي ألفها الآخرون عنه .أقواله في الخونة... خواطر عنه في لياليه وأيامه .. حقائق عن تكوينه وقدرته على تحمل الألم .. حقائق وقرارات تقول أنه منـزوع الهوية حتى إشعار آخر .. انهم تـركوه هكذا في غـرفة الغبار ، قدموا هـدى وعماد قرباناً وأطلقوه هكذا لا في ليـل ولا نهـار .. هكذا كبندول ضخم يطـرق كـرة العالم فينطلق الصراخ بلانهاية……

القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

المحاكمة THE COURT


المحــاكمة

نسي أسمه أمام المحكمة ، وربما دار في خلده أن يطرح هذا السؤال أمام الحاضرين فيعرفون أسمه ويجربون قوة معلوماتهم من جهة و يخرجونه من مأزقه من جهـة أخرى ، لكنه وهو يرى تنمر الجالسين والمحيطين وعيونهم الجاحظة ونظراتهم العدوانية وعدم اكتراثهم ، حتى أحس انه لطخة حبر على الجدار ،ولــذا أنتبذ لنفسه مكاناً منزوياً وأطرق وراح يفكر في أمره : تذكر أن آخر مرة قرأ فيها اسمه هي عندما أحيل على المعاش ، أجل يذكر ذلك جيدا ، وقد أحيل علناً وأمام الجميع ولذا سمع أسمه عبر طوابق المبنى كلـها إذ أعلنته الإذاعة الـداخلية : تقرر إحالة السيد الذي يحمل الرقم (……… ) على المعاش ، ومرة أخرى قرأ الإعلان بطريقة أخرى : نظراً لإكمال (الموما إليه) سنوات الخدمه المقررة في القانون تقرر أحالتـه .. ومرة أخرى ومرة أخرى : نظرا ً
لقرارات مجلس الإدارة الأخيرة تقرر إحالة المرموز له برمز الحاسوب (أ. ب. سوفت ) إلى …… ومرة أخرى وأخرى، ووجد الرموز نفسها وغيرها في قائمة الكهرباء وفاتورة الماء والتلفون ولائحة المرتب الشهري ، وفي كل مرة كانت القائمة تحمل رموزاً دالة على اسمه لا يمكن التعرف عليها إلا بتلقين ألحوا سيب تلك الرموز فيحيلونك إلى ملفه وتاريخه ، ووجد نفسه يفتش في الأوراق القديمة عن الوثائق التي كانت تستخـدم اسمه الصريح فـوجد تنويهات باسمه برموز خاصة سرية تسهّـل أمر التعرف عليه ، فمثلا كان أسمه مكوناً من عشرة حروف في إحدى الوثائق وتأكد من الدليل الخاص الذي لا يحمل عنواناً ولا أسم مؤلف ، أن تلك الحروف تنقسم إلى وظـائف فالحرف الأول يدل على اسمه والثاني أسم أبيه والثـالث أسم العائلة والـرابع ثقــافته والخـامس ميــوله والســادس ماضيه والسابع رصيده والثامن .. والتاسع …… و…… .
ولذا انطمست الأشياء وتداخلت الرموز أمامه وصار أكثــر عطشاً لجلسة أمام الحاسوب ليلقنه كل هذه الــرموز وليكتشف ماذا كانوا يكتبون عنه .
كان يحسب طيلة حياته أنه هكذا ، رقـم محايد ، لا مشكلة عنـده ، لا شكوى لديه ، لا ثرثرة لا ميل يميناً ولا ميل شمالاً ، مستقيم ينام في الوقت المقرر ويصحو قبل الوقت المقرر بساعتين تحسباً للظروف ، لا يمر أبداً من موقع فيه علامة ممنوع الوقوف أو ممنوع المرور ومع أن تلك الممنوعات هي خاصة بالسيارات ، لكنّه كان يفسر الأمر تفسيرا صائباً عندما يسائل نفسه إذا كان المنع للسيارة فمن الذي يقود السيارة ، أليس شخصا ؟
فأذن المنع هو للشخص وليس للسيارة ، ويجب أن تفهم ، كما أنه لم يكن يعاني من مشكلة بخصوص الخضار ولوازم وجبته اليومية ، فهو لا يشتري أبدا ًمن نوع الخضار الذي تكتب عنه الصحف وتعلن الإذاعة عن أية مشكلة بصدده وتجري لقاءات مع الفلاحين وربات البيوت والنقابات حول أسباب الشحة مثلاً وارتفاع السعر ، لأنه يذكر دائماً أن تلك الشحة مادامت قد دخلت في الأخذ والرد والقيل والقال فستحصل من ورائها بلاوي وهو لا يريد أن يخزن أسمه في الحاسب بأنّه تكلم عن شحة البطاطا أو البصل أو الباذنجان فيقال أنه ينبش عن السيئات ويغمض العين عن الحسنات ، وهو رجل يملك سجلاً حافلاً من النكات والقفشات وكلما سنحت الفرصة في جلسة أو لقاء عابر مع زميل في العمل فانه يلقي إحداها ويترك الشخص يتلوى في الضحك ويغيب هو ، فهو مواطن سعيد هذا هو المؤشّر عليه ، والسعادة مترجمة عنده إلى نكات لا تنتهي حتى أنه كان ينصت للنكات التي تلقى هنا وهناك ويدونها في سجل خاص ويبقى يستظهرها .
وعندما يسأله أي صديق عن أحواله كان يردد : كلّ شئ جميل ، كل شئ لطيف ، كل شئ مناسب أما حرّ الصيف اللاهب وسط الزحام وقلة المواصلات فكان يفسر على أنه اختبار لكفاءة الإنسان على الصبر أي أنها ممارسة وتدريب على الصبر ، و( الطابور ) مثلاً كان دليلاً على أنّ كلّ شئ في هذه الدنيا إلى زوال وان الحــكمة تقتضي أن يتنبه الناس أن كلاً منهم آخــذ دوره في ( الطــابور ) ومصيره إلى النهاية بحسب الأسبقية ، وأما إحالته على المعــاش فهي أيضا اختبــار مقصود له .
فأن أنزوى في منزله وحيداً مكسور الجناح لا يستطيع سد قوت يومه فأنّ هذا دليل على أنه رجل مصلحي غير مقتنع بأن مصلحة المؤسسة تقتضي خروجه وأنّ دوره يبدأ الآن في توعية الآخرين في المقاهي بأهمية وعمق فلسفة الإحــالة على المعاش وأبعــادها الخاصة ، فهو عندما سيتكلم عن تلك المزايا فسيسمع حديثه شبـاب وفتية في أول سلم الوظيفة وشق طريقهم في الحياة فيحسبون من ذلك الوقت حساباً للمعاش وأنه آت لا محالة مثل الموت تمــاماً فعليهم التهيؤ له من الآن والتحلي بالصبـر واستقبال الأمر بفرح غامر.
حاول (أي ، بي . سوفت ) أن يفسر بعض الأشياء المتعلقة بكثرة مراجعاته للدوائر والمؤسسات الرسمية وكثرة الأوراق والإمضاءات وساعات الانتظــار لإنجاز أوراق المعاش ، فوجد أن روعة ذلك تكمن في ( الخبرة ) أجل ، أن الغاية من كل ذلك هي أن تتراكم عند المواطن الخبرة في كيفية أداء مؤسسات الحكومة والمراحل التي تمر بها إجراءاتها فلا يبقى المواطن مجرد اسم أو رقم بلا وعي بل يصبح جزءاً من حركة الحكومة ومؤسساتها وعندما يسمع مغالطات أو أخطاء من قبل بعض المغرضين والأعداء فمطلوب منه ان يصحح ما سمع وا لا لماذا صرفت عليه الدولة ثمن الورق وأجور الموظفين وحبر الإمضاءات وفواتير الماء والكهرباء التي تصرف للمؤسسات
وكان الرجل – والحق يقال - على قلة مرتبه لا يقصر في واجب ، فهو يحضر كلّ عزاء وكلّّ عرس وكلّ حفل ، ما أن يسمع بمناسبة أو حدث ما يمس زميلاً في المؤسسة بطوابقها الثلاثة عشر حتى يهب مسارعاً لأداء الواجب ولذا عرف عنه هذا التتبع اليومي لحوادث الناس وحضوره لأفراحهم وأتراحهم ، بدلة سوداء للمآسي وبدلة بيضاء للأفراح .
وفضلا عن ذلك فهو لا يتوانى عن نشر البرقيات ذات المساحات المحدودة والكلمات القليلة المعبرة في الجريدة ، وهاهو يقرأ فجأة عن ترقية كبيرة لزميله وصديق عمره الذي نشأ معه في حارة واحدة ، لعبا معاً وأكلا معاً ودخلا في مدرسة واحدة وفصل واحد معا ً، هاهو يقرأ خبر ترقيته الكبيرة مزهواً، فلا يتمالك نفسه ألا المسارعة للجريدة الأكثر انتشاراً ليكتب برقية تهنئة لذلك الزميل الذي تقلد موقعاً رفيعا ًوحساساً في الحكومة وعندما طلب منه مندوب الإعلانات ذكر أسمه وعنوان سكنه تحير ,اكتشف لأول مرة أنه لا يحفظ إلا(الكود) ، ولأنه على قناعة بان زميله المتمرس في العمل الوظيفي على علم بخلفيات الأمور ويعلم بصيغة تجريد الموظف من أسمه ومكانه والمعلومات الكاملة عنه واستبدالها بالأرقام أو الرموز أو كليهما معاً ، لهذا راح يدبّج البرقية بكل ثقة وحماس قائلاً :

" سعـادة الأستاذ الكبير والـرجل الهمام فلان الفـلاني .. لا يسعـني وأنتم تتقلدون موقعكم الرفيع إلا أن ……………………………..……… "
التوقيـع صـديقك وأبـن حـارتك
( أي . بي . سوفت )
أو ( الموما أليه )
أو الموظف المحال على المعاش الذي يحمل الرقم (………)

وعندما قرأ الرجل المهم تلك البرقية الساخرة ، وصاحبه القديم قد نشر صورته وهو يضحك إلى جانبها استشاط غضباً وفسر تلك الصورة الضاحكة بأنها سخرية مؤكد ومقصودة منه وكأنه كان يقول : هل نسيت أيام الحارة وبنطلونك المرقع وحذائك المثقوب وهل نسيت إدمانك السرقة وأبسطها وأنت تسرق الثمار من حديقة الجيران عند الظهيرة وأنت تأكل كل يوم علقه ولا تتوب ، وهل نسيت كذبك ونفاقك وانتهازيتك المبكرة ؟ وهل نسيت شكوى أبيك منك ؟ وهل نسيت فشلك المزمن في الدراسة وتفوقي عليك ؟ وهل نسيت.. وهل نسيت .. وها أنا محال على المعاش راغماً وأنت ما شاء الله …
وها هو الرجل … ودليل اتهامه بين يديه أمام المحكمة ، لأنه مسّ شخصية حكومية بالقدح والسخرية ، ومطلوب منه الآن أن ينطق ويعرف بنفسه ومازالت المحكمة تنتظر … وهو يردد أنا أي . بي سوفت .
1997
ا
لقصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

ميدان القرن THE CENTURY SQUARE


ميدان القرن

العودة
عاد إلى الحياة ..حياة الألوان ..ولوحات الغاب والمدن ..والناس ..غاب زمنا ..وعاد متوجا بالذكريات ..هو رجل التكوين وجماليات الخط والملمس بلا منازع ..مر بالتكعيبيين والواقعيين وخرج بالحروفيات وكان حرف( الصاد ) عنوانه ومثار تجليات أفكاره ’كان لذلك الحرف سحره الخاص ..وكذا اشتق علاقات لونية وتعبيرية للحرف ..كلنا نتحد بالحرف ..ولكل منا لون روحي قابل للاشتقاق ..هكذا كان يردد بعدما شاخ وبعدما انقطع عن الحياة ..وغاب في نزعة اختطاف صادرت لوحاته وحر وفياته ..وحفرياته على بورتريه (منصور) شخصيته الأثيرة ..هو والمرأة ذات الشال .
منصور

كانت المرحلة التعبيرية عنده مربكة في زمن غير الزمن والناس غير الناس ..المدينة غارقة في الصمت ’ في فجر شتائي بعيد ’وهو هناك يتأمل تلك الرحلة المجهولة التي قرر خوضها إلى آخرها ..أبواب غاليري الفنون مغلقة منذ مدة بسبب ظروف حظر التجوال ..وهو يقيم على مقربة من المكان..حائر ..قلق روحه لائبة ..اخترق حاجز الفجر ’وغبش المجهول ..وأطل عبر نافذة مضببة إلى الأزمة والدروب الساكنة ..تتابعت صور الآخرين في ذاكرته وهو يجمع المراحل كلها في لوحاته ..فقراء وعابري سبيل وظل وجه الحاج منصور يلاحقه رغم كثرة البورتريهات التي رسمها ..وظل يؤكد في معارضه أنّ بورتريه الحاج منصور ليس للبيع والشراء ..رسمه بتنويعات شتى ’تداخلت في تكوين لوحاته آثار عصر النهضة والمدارس المعاصرة واندمج عنده بالتواريخ وتمثلت في أعماله ملامح سومرية وبابلية وآشورية وبدوية.
إشراق
مرت في الطريق المغسول بالمطر والرذاذ سيارات الدوريات الحكومية ورجالها المخلصين وهم يضيؤون الأركان المعتمة بمصابيح ضخمة للتأكد من أن كل شيء على ما يرام.
عادت إلى وعيه لوحة غويا والسلاح موجه لحشد الفقراء وتأمل طويلا صمته ومكابداته ..تسلل بصمت حاملا لوحاته ..
كانت المرأة في أعماله كائن اكثر إشراقا ..واكبر من حدود الجسد ..ورغم لمسته السحرية في تتبع لمسات الأنثى إلا انه أبى دائما أن يجسدها إلا وهي محاطة بنور ..وتحتل مساحة اكبر من اللوحة.
سار بخطى ثابتة عبر الطريق الحجري فيما كانت الشعارات تنتشر على الجدران ..اليسار واليمين..والوسط والائتلاف والتأصيل .
ميدان القرن
تسلل عبر دروب وممرات متعرجة و أدرك ميدان القرن ..ليجد شاشات تنقل خطبا وتعليقات وبيانات ..شاشات في ميدان مقفر تمتد مساحاته وإضاءاته لتغمر المكان بالأمان ..تسلل إلى نفسه شيء من الدفء والتوازن ومد لوحاته وأطوارها ..مدها طويلا طويلا على امتداد ميدان القرن في ظل حضر التجوال ’وكانت في لوحتها تبدو مترفة بفستانها البيض وحيائها النبيل ’ والشال الذي غطت به شعرها ..كانت ملهمته وتتابعت بورتريهات الحاج منصور بينما الخطابات تعلو والأناشيد تتصاعد وهو متوحد ..يطلق ألوانا طيفية في ليل الوطن الثقيل ..عادت إلى ذهنه صور الحروب والثورات واندفاع الحشود الهادرة ..وراح يوزع لوحاته على جدران غطتها الشعارات والصور..
وبدا له ذلك الريف الوديع المسالم اكثر إشراقا في لوحاته ..هناك كان الحاج منصور ..عندما عادت صورة فيلم الأرض وشاهد العم أبو سويلم يتحد بصورة الحاج منصور وهو ينتصب شاخصا كنخيل البلاد الجريحة ..جسّده مرارا ..وكذلك كانت صورتها.
المقنعون
كانت صورة الحاج منصور قد دخلت دائرة المتابعات الخاصة ..ولوحق ولوحقت ذريته واصحابه ومحبيه ..إذ جاب المكان فتية مقنعون وسرعان ما توارى في سياراتهم أولاد ورجال وغابوا تماما وانطمس تاريخهم ولم يكن الحاج منصور إلا رجلا يرتدي ثوبا كالكفن ويعلن انه مستعد ..فقد قال كلمته مع حظر التجوال ..وغاب تماما وبقيت أشعاره وحكاياته ورؤاه في صدور الناس.

سيدي ..أيها الراحل الجليل ..هكذا ردد الرسام ..وهو يتتبع سيرة الحاج واصحابه ..استذكر (أيامنا..ذاكرتنا ..أحلامنا..فكرنا) وكل دفاتر الفكر التي طافت مدوية في مديات الدنيا والناس ..منقوش أنت في مآقي العيون وفي سويداء القلوب.."..أن يتغير سلوك الإنسان يجب أن يتغير مفهوم اللذة والمنفعة عنده."
صاد الكلام
صاد الكلام ..سحر التو’اريخ ..كان ذلك الحرف يلاحقه وينثال في ذاكرته في مثل صدى وصرخات ’كان يتمثل في هيئات وتشكلات صهرت تواريخ شتى كان الصاد يحيط باللون والفكرة ..كان يمتلك شفافية عجيبة ’ وقد عرض فكرته في تمثل تجليات الصاد في اكثر من ندوة وملتقى ..وقيل لأنه الحرف الأول من اسمه (صادق)..أو الحرف الأول من ملاذه ’فتاته وسيدة الرحلة..(صدى)أو وليدته (صحراء)أو نجله(صافي)وظل حرف الصاد يحف به في الزمن والتاريخ لكنه كان يقترب من صاد الصوفية في الإبداع ’تلك الدوال الأثيرة التي ارتبطت ( بالميم ) و(العين) و(السين) .تلك التي شكلت مدار الفكرة ومؤداها وإطارها المعرفي.
فوهرر
شاهد تلك الصورة بدا الإنزال الجوي في ساحة القرن ..واستشاطت القوات وهي تشهد عشرات اللوحات العملاقة التي ملأت المكان والتي لا يعرف متى علقت وكيف تسلل صاحبها وراح الفنان يدور في مدى ساحة القرن ..فيما كانت صورة الفوهرر والرايخ الرابع هناك هناك تكرر المأساة..الموسيقى العسكرية تتصاعد وأصوات التعبئة في كل مكان .
كانت صورة الفوهرر قد ضاعت وسط لوحاته ..وبسبب جهل القوات فقد بدءوا بتمزيق صورة الفوهرر واحرقوها ..تتآكل الصورة ولم تبق إلا العينان والشنب الصغير
أما هو فقد كان هناك مطوقا بالقوات وبينما هو في العتمة ’كان بورتريه الحاج منصور في ساحة القرن وقد طارت به بالونات ضخمة إلى الأعالي وكانت القوات بحاجة إلى مزيد من التكنولوجيا للإمساك بها ..لكنها كانت هناك في الأفق البعيد تجوب المدن السجينة والأرياف الحزينة.
# فبراير2002
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

Sunday, August 26, 2007

هو الذي رأي HE IS WHO SAW



هــو الـذي رأى


الشقـوق .. الشقـوق .. عبـرها يتكـون العـالم .. سيـاج طويل يحيط العـالم .. احتواء غير محـدد .. ومبـرر ومشروع وحتمي ، لا سبيل لولوج ذلك المـدى المسفوح الذي تتوزع فيه الأشيـاء والكـائنات .. المـدى الـذي تتداخل فيه الأصداء . تـرى من أيـن يبدأ و إلى أين ينتهي ذلك التتـابع المبهـم ؟تساءل صامتا..تتناهبه كآبة مريرة ..غابت صور الأمس ..بقايا كلية العلوم وقسم الفيزياء ..أبحاثه وماضيه ..المعادلات التي تسعى للإحاطة بالموجود والسـائد، الرموز والأرقام تنـوب عن ذلك العالم المشوش القـريب ، أما تلك الدنيا المترعة الفذة ، ذلك التنـاغم الفـذ في قوانين هـذا الكوكب الذي يتحرك فيه من مدى إلى مـدى ومن بـدء إلى انتهاء ومن فكرة إلى حقيقة ومن فـرضيات إلى مفاهيم تستحق عناءً وكـدّا .. كم يطيب لك أن تكتوي بذلك الوهج والأسئلة تترى والمعادلات لاتنتهي .. اكتشاف .. اكتشاف .. قوة x ذراعها = مقاومة x ذراعها ، خطوط التعجيل إذا تحركت القوة (س) إلى النقطة (ص) ستواجه مقاومة . استخرج معادلة القوة الدافعة والقوه الطاردة المركزية والتعجيل المركزي ، القوة تغيـر أو تحاول أن تغــير حـركة الجسم المتحـرك السـاكن وتسكـن المتحـرك ..تشكلت على مربعات السياج قوانين الكم و نسـبية أنشتاين - محصلات القوى ، الحركة الخطية ، على كل مـربع من حـائط البيت الداخلي حيث تحتشد قوانين الفيزياء .. ومحاولة أيجاد الصلة بالعالم المحيط وقوانين الفصل والتواصل .
. الأم منشغلة في القـدور الفـوارة وتذوق الملح وتقـدير كمية صلصة الطماطم وخلط اللحم بالباميا ، وأشياء أخرى لا تخضع لقوانين الفيزياء .. وهـو ينثر معـادلاته مع الصباح البـاكر .. أوراقه ، كتبه الضخمة تشكل نصف الدائرة ، التشكيل المتوازي ، تشكيلات هنـدسية أخرى تـوضح كل شـئ .. وهنالك الحبـال التي تحمل أثقالا مختلفة والميـزان الحسـاس .
أثـاث مكتمل وحياة متصلة تـؤكدها الفـأرة المحبوسة في الزجاجة لأغراض الدراسة مع بـدء الجوع والخـور الذي ستعانيه وفقـدانها الـوزن النوعي وتأثير ذلك على الحجوم المجاورة وما يسببه مـن اختـلال .. يجري تثبيته أول بأول على مـربعات الجدار وبالنسبة له كـان هنالك حوار ما .. يجـري بينه وبين عيني الفـأرة التي بـدت ساكنه بعدما استنفدت محاولاتها في الفكاك من الأسر الطويل.. بـدأت ضجة الشـارع بعد اكتمال صنع أقراص الخبز ، تركت ألأم أمامه قرصا سـاخنا وخيارة مملحة وليمونه .. بدأت الضجة بناقلات ضخمة مرقت فجأة رافقها قـرع طبـول وصافرات شـرطة المرور وصوت المعلق ، أنحسر الموكب وعـاد الهـدوء مع بدء مـؤشرات لتبـدل الوزن النوعي على الميزان الحساس مسح نظارته ذات الإطار الفضي اللماع ، حك لحيته سمع صرخة ما ، أطل عبر الشق وعبر السياج ، كان هناك رجل طويل القامة مفتول العضل يصفع صبياً بلا رحمة ويصرخ عاليا وسرعان ما تأتيه عصا غليظة تفجر الـدم فـواراً من الـرأس .. أحتشد الآخرون يؤدّون واجبهم كما يجب .. ينتهي المشهد .. تعود الحركة ..
قسّـم هو عمره على خمس وعشرين بـلاطة على الأرض وجعل كلاّ منها جـزءاً من العملية الحسـابية لاستخراج نسبـة التعجيل والدفع الـذاتي ، حشـد من النسـاء ضاحكات للـرجل المفتول العضل ، غمزات وغنج ودلال ، يتوقف حشـد السيارات الطويل عند بوابة المدينة والناس تـدفع عربة ضخمة معطلة وصفير وأبواق ، عربة صغيرة تحمل كيس دقيق وأكيـاس أخرى من الـرز والسكـر والشـاي والـرجل يدفعها وتقطع الشارع والشرطي يطلق صافرته ،كان هنالك فوج من الأشخاص قصيري القامة يدفعون عربات محملة بمواد التموين ..سيرة شهرية لعصر جمع القوت حيث الحصار أطبق على البلاد كلها ..وصار الناس يأكلون لقماً محسوبة بحسب الميثاق الاممي والقرارات ذات الصلة ..وهاهي البوابة تشهد مرور الرجال قصيري القامة ..بوابة يسهر عليها رجال قرويون ذوي ملامح عابسة يحملون أسلحة أوتوماتيكية وهراوات وأجهزة لاسلكي ولديهم تفويضاً مطلقاً للذود عن البوابة التي لم يبق منها إلا الحجرة والحاجز الحديدي وبقايا الشعارات وعلامات ممنوع المرور ..و(قف للتفتيش) , هناك من يسارع لـزجر رجل قصير وأخراجه مـن الطـريق وينشب الشجـار وينتشـر الدقيـق ، دقيـق أبيض على إسفلت أسـود = تركيب الألوان القياسي النسبي ، مـوجات كهرومغناطيسية بأطـوال موجيّة متباينة 7800 انكستروم فما دون ، ألـوان طيفية أخـرى ( اللون هو صفة الضوء التي تعتمد على تـردد الموجه الكهرومغناطيسية ) دقيـق أبيض على مسـاحة الانتشـار الإسفلتية ، أبيض على أسود ، كم النسـبة الموجيّة بين اللـونين بحسب معادلة مكسو يل؟
، نزلت الهراوة بشدة وتساقطت قطرات الـدم : أحمر + أسود + أبيض ، الأرضية السوداء للوحة أكثر فتنة وتأثـيرا وخليـط من دقيق القمح والـدم ، كـوّن معادلة جديدة للّون والطيف ، تحديد نوع اللون ودرجته ، إشباعه وسطوعه ، مرت الأطياف الحزميّة البـراقة عبر جهاز المطياف وعلى أرضية سوداء .
قسـم الفيزياء الذي في عمـق الكلية ، الناس تخرج ، السيارات تنطلق ، الطلبة يـذرعون المسافات لبلوغ السياج ، قاسوها بالأمتـار وأحصوا عدد البلاطات ممزوجة بالضحكات والثرثرة ، لاح أمام الحشد ، ولاحت هي أمامه كما هي دومـا ، فاتنة ، بابتسـامة حالمة ، عالمان مختلفان ، انك تدمن ذلك البزوغ اليومي لها هذا الذي يترك في داخلك تفاعلات شتـى . أن تمعن في التوازي معها ، توازي الحركة وتوازي التفكير أنت تتفـوق وهي تجاري فعلك فإلى أية محصلة تتحرك الأشياء وأنتما تكرسان معادلة ما لعشق قاس يحتاج حلها إلى وسـائل عـدة كي تتحقق نتائجها بشكـل صحيح .. بحاجة إلى عوامل مساعدة واستحداث قوانين ، قد يكون قال لها ذلك ، التوازي إلى مالا نهاية لا يحقق التحاما حقيقيا يغير في الموازين ويسهم في تألق الثوابت ، ظل هو يحدد القوانين على الورق وهي تنظر له وهو يذهب بعيدا عبر الممرات وكتل الزرع ، هي تعبث بسلسلة المفاتيح الذهبية وذلك أمر مزعج ومشوش بالنسبة له يحاول أن يوضح ان سلسلة المفاتيح تشتت الفكرة ، فجأة صرخت هي وهو يـدافع عن الفكرة وهو يندفع مشيرا إلى هباء وفوضى تعم الكون حروب ..إرهاب،.
كان هنالك حشد عبر زجاج القاعات الدراسية يرمق ما يجري وهي تسخر وهو يوضح الفكرة بحماس وصوت عال وهي تسخر وتضحك وهو يرمي أوراقه في الهواء ، ، صفعة على وجهها تدوي عبر الـقاعات والممرات والأفق وتقفل الأبواب وهـو يلفـظ خلف سيـاج طويل .. طويل .. طويل ..اجل ..لقد عوقب لأنه صفعها ..وقال في المجلس التأديبي انه صفعها لأنها كانت تضحك بسخرية ولم تدرك تصوره عن حقيقة العالم..
كان ينظر عبر السياج… رجل البوابة الضخم يتلفت يمينا وشمالا ، ويهرع نحو غرفة الصفيح ، ويختفي ، تـدخل امرأة مذعورة ، تتلفت ،تتبّعها عبر السياج . كان هنالك احتقان وألم وبكاء ، وتشتت طويل ، ثقيل ، صفعات يسمعها فيدور ، يدور لا سبيل للخروج ، ، ، كبلوا يديه بالقيد ، ، ، تضطرب أمامه صور الناس وتتداخل ، الرجل منفرد بالمرأة الأنثى المترعة الفذة .. الرمز الأزلي للوجود المتخلق اليومي ، المتجدد ، يحاول اللحاق بها دون جدوى..
سارت العجلات مرارا على لوحة الدقيق والدم والإسفلت وتلطخت الأقدام بالألوان البيضاء والحمراء . وصاحب الصافرة قرب البوابة يحذر العابرين ويضحك منهم وصاحبه الحارس في علبة الصفيح يشتم ويبصق ويصفع ويمزق .
. دوّن حدود المسافة بين نقطة العبور وعلبة الصفيح ولك أن تخمن من أين خرجت الفتـاة وكيف وصلت إلى المكان .. أوقفوا آلة ذات عنق طويل وطلبوا إلى رجل ملثم أن ينظف الطريق ذلك المفترق الموحش .. حراس البوابة متوحدون يحاولون أن ينهوا الوقت وتنتهي مهمتهم ، أحدهم بقبعة بنية يقضم شطيرة ويحتسـي شاياً والآخرون ينادون وهو لا يجيب والهاتف يرن وهو لا يجيب وصاحبه في علبة الصفيح يسحق عظامها فتصرخ ويطبق على فمها ..
عندما اكتملت التركيبة الغذائية في القدور ووهنت قوى ألام واستسلمت لرقدتها اليومية في المطبخ سمع سعالاً يأتي عبر بوق يضخم الصوت ، أنه السعال اليومي للمؤذن .. الضربات الثلاث على لاقطة الصوت .. نفخة .. نفختان .. ثلاث ، وشعر أن خدرا يتسرب إلى جسده مع الظهيرة ومع الإجهاد المألوف ، ينحني على البلاط طويلا وتخضل عيناه وتختلط أمامه الأرقام والمعادلات ورائحة القدور وفحيح الرجل الرياضي .. والصبي المدمى والعربة التي تم نثر حملها ..هولا يقوى على النهوض ، لا يقوى ، تتقدم سحابة ما ، سحابة الصبية الخارجين من المدرسة ، يقرع الجرس ويحف رنينه بهم ، يمد أحدهم – بفضوله المعتاد – عنقه عبر نافذة الغرفة المحاطة بشريط أحمر عبر علبة الصفيح وينادي على آخر وآ خر ، ويختبئون ويشهدون اليد القابضة على فم الفتاة .. يشاهدون الفحيح والتلاشي .. الرجل وهو يجرجرها من شعرها وهي وتحتمي منه وهي تبكي منه وهي تحتمي وينقطع المشهد والرجل قد أنهى شطيرته وشايه وأندفع يطارد الصبيان
.. عبر الشقوق أجريت تحريات عن مصرع الصبي عند البوابة وتم أيجاد صلة ما بين الدقيق المنثور على الإسفلت وحادث الصبي .. وتمت أقوال الشهود بإفادتهم الصريحة وتثبيت القرائن والأدلة وذلك بتاريخ … سمع تقرير الحادث عبر جهاز الإرسال اللاسلكي للبوابة وعبر شقوق الجدار ولأنه شهد كل شئ شعر أنه ينبغي الربط بين الظواهر .. فيؤجل قليلا رحلة الكم التي ينشغل بها إلى ( الكيف ) الذي تجري وفقه الوقائع .. أنتقل إلى المــوقع الذي جرى فيه ماجـرى .. ليجده قد أكتمل ، بهيكله الخشبي اللماع وصندوق الصفيح ذو الشريط الأحمر ، ولكنه هذه المرة بأرائك نفيسة ومصبات ماء ونافورة وأصص زهر ، الرياضي المنتشي ينفث دخان سيجارة بتلذذ وهو شبه عار وصاحب الشطيرة ينشغل بالفاكهة والصحن الكبير أمــامه يمتلئ بأنواعها . حاول أن يخرج .. أن يفك الوثاق .. استيقضت العجوز من قيلوتها على ضجيجه نظرت أليه بعينين واهنتين ثم واصلت نومها ، حاول انتزاع نفسه من السلسلة الحـديدية ضرب بقوة دون جدوى ، تتابعت أمامه المعادلات والزوايا والخطوط المتوازية والمتقاطعة وتـدافعت أدوات العمل المعدنية وتلاطمت وأصـدرت ضربات متتابعة دار هو دورة فأمحت الإشـارات على البلاطات الخمس والعشرين وأنقذ فت الزجاجة التي تحبـس الفـأرة بعيدا لينطلق الحيوان سـريعا إلى جحـره.. أنقذف هو فجـأة بدافع التعجيل وقوانين القـوة والأجسام المقـذوفة شاقوليا ، جمـيع المتجهات الـواقعة بمستوى واحد بطـريقة مقـدار الشغل لحث جسـم بإزاحة مقـدارها ..
أنقذف نحو الباب الضخم ، عنـدها لاحت أمامه المنـارة شاخصة بأبواقها الأربعة والهلال الفضي والنشـرة الضوئية المتلألئة ، تشكلت أمـامه منظومة القوى التي تساعد على الفكاك واسترجع حـروفها ورمـوزها ورددها بيقيـن مع نفسـه .. عندها انخلعت قـاعدة السلسلة وأنقـذف هو إلى الرصيف المحـاذي للجـدار .. شعـر بـدوار وهـو يستنشق هـواء مختلطـا بالغبار والغازات ، كان يطلق سراحه بنفسه بعدما غاب طويلا منذ صفع الفتاة وأحيل الى الحبس التأديبي ..وثبت انه مختل عقلياً ولذا أعادوه بأعوامه ال25 الى منزله مقيداً بالسلاسل فيما كانت محاضرات الفيزياء تتردد أصداؤها في رأسه وهاهو يتلقى ذلك الضجيج المرعب الذي يخلفه احتشاد السيارات والناقـلات في خضوعها اليومي إلى إجراءات الفحص والتـدقيق ، نهض مـرتبكاً ذاوياً ، قطـع مسـافة الرصيف .. شعر بوخـز في قـدميه الحافيتين ، وتـقدم وهو يجـر السلسلة الطويلة ولسـانه كقطعة خشبية جـامدة حاول أن يصـرخ .. أن يجـرب تحريك قطعة اللحم الحمـراء التي كانت يوما ما لســانه ، فكر بصعوبة أنه سيكتب ما رآه إذا ما عصا عليه الكلام ، قطع رصيف الحصى وأصبح في مواجهة البــوابة.. وما أن قطعها حتى كان في مواجهة الرجل مفتول العضل والآخـر صاحب الشطيرة ، حـاول أن يوضح لهما الأمر إلا أن ذلك الضخم كان قد مد يـده وأمسـك السلسلة وجـرها وهو يضحك بمكر .. ثم بقهقه عاليـا .. شعر هو أن ذلك الوحـش سيلحق به أذى ما .. ولهذا أستجمع قـواه وأندفع بشكل مباغت منفلتا من قبضته.. وراح يـركض بأقصى سرعة وهو يجـر خلفة السلسلة حتى قطع منتصف الشارع وأوشك أن يبلغ الحـافة الثانية ليخـرج نهائيا عندها كان حشد المشيعين قد دخـل .. رجـال يحملون النعش وصورة الصبي .. يسبقهم ضـاربي الدفوف وأصحاب المسابح والقلائد الطويلة الذين يحيطون خصورهم بأحزمة قماش خضراء .. تصـاعد ضرب الدفوف وهو وسـط الجوقة يحاول أن يكتشف الأسرار .. إنـي .. أنـا .. الـذي .. رأى كـل شئ .. شهدت رأسه وهو ينشـق ويتدفق دمه على الإسفـلت ، صـرخت فيهـم .. ولكن الدفوف ظلت تهدر والعويل يتصاعد ، والاثنان يخترقان الحشـد وهما يحملان هراوتيهما وهما يبحثان ، وشهـد أمه تتبعهما وحاول أن يحتمي بالنعش وتمنى لو دخــله و أذهب مع صـاحبه كي يمضيان معـاً في ســلام ..
لكن أيد صارت تجـره وأقداما تـركله والحشود تتقــدم والاثنان يخترقان الناس بعيون ذئبية ويلوحان بالهراوات والناس تتحاشاهما ويتعالى قـرع الدفوف وتتكون بعد ذلك دائرة بشرية ضخمة يتوسطها نعـش الصبي تحف به حشـود ضاربي الدفوف والنادبين والمرددين أما الاثنان فكانا يمارسـان لعبة ( الثعلب ) يدوران حول الحلقة وهو في الوسط يحمل سلسلته والاثنان يصرخان .. امسكوه .. م .. ع.. ت.. و.. ه ، خرج توا من مشـفاه.. امسكوه .. يربطونه كوحش كاسر .. الناس تركض وهو في وسط الدائرة يرتطم بالوجوه وتتتابع أمامه الأفواه والأنوف والأعين والفحيح والبكـاء .. امسكوه .. هو الــذي أحـرق البـيت ..
أعلـن وقـائع ضرب الصبي وقتـله من قبلـهم .. أؤكـد ذلك بالحساب والمسافات المحسوبة والخـريطة المثبتة .. يصرخ .. يعلــن الحقيقية ..
يبلـغ الحشـد حـدود العلبة المعدنية المسـورة بالشريط الأحمـر يقتحم العـلبة ، يشهد بقايـا المرأة ، يفـور المـاء في إبـريق الشاي ، يلتقط شعـلة ، يوزعها في الأركان ، يختـرق الضجيج بالتدريج ، تتصـاعد النـار في البوابة ويتهاوى الحاجز.. النـاس تبكي الصبي وتـركض وتختص والسلسلة طـويلة .. طـويلة والعـرق يتدفق .. والحروق في اليدين والرجلين والاثنان ..صاحب الشطيرة والرياضي يتلاشيان في المبنى .. تحترق البوابة وحجرتها ويتدفق الناس والعربات والناقلات والرجال قصار القامة والكائنات المتراعشة الحبيسة , كلها في ما راثون هائل ..وهو يحييهم ويصفق وهم يمرون في روعة هائلة يعبـر السياج ، يضرب الأنبـوب مـرارا .. يتفجر المـاء .... يغتسل كطائر بري محلق بلا حدود .. يخفت الضجيج هنـاك تستيقـظ ألأم مـن رقـدتها وتقـدم لـه صحن طعـامه .

1996
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

حب فرعوني



حب فرعوني


هناك في حدائق المكان ..وقرب مسبح صغير ..هناك في الليل الرطب ثمّ انعكاس ضوئي واهن على شفاه الزهر..والندى يبلل طاولات متناثرة حيث كانت هنالك خطى عابرين ..عندما بدا النزل موحشاً وممراته خاوية ..وليس هناك غير موظف الاستعلامات الذي نال منه النعاس ..وبدت السيدة مثل طيف فرعوني زائر حطّ في ذلك المكان ..مرّت كظل شفاف على وجوه واسماء ,وقلّبت تفاصيل مجهولة..من أين جاء كل هؤلاء النزلاء الذين لم ترهم من قبل؟
فجأةً دوت في رأسها صافرة الإنذار ..واحتشد المشهد بالناس المذعورين ..صراخ الأطفال وألسنة اللهب ,والمبنى السكني الذي بدا لقمة سائغة للحريق ..وخرج الناس من شتى الجنسيات مذعورين لا يلوون على شيء وهم يشاهدون منازلهم الصغيرة تتحول في أطيافها من ألوان النيران إلى ألوان الانفجارات ..والضجيج والصراخ والفشل المرير في السيطرة على الحريق ليأكل كل شيء بسرعة عجيبة..
ولذا خرجت عبر مساحة عريضة ..وهي ترى مساقط النيران وألوانها على الوجوه المذعورة ,وهي ترى السيارات الهاربة ..والناس المحبطين وهم يتحدثون بشتى اللهجات ..شعرت بوهن ..وانقبضت روحها وهي ترى حجرتها أسيرة للدخان واللهب ..مازال هنالك وقت لكي تنزل النيران من الطوابق العليا إلى حيث حجرتها في الطبقة الأرضية ..ولذا راحت تناجي أشياء عزيزة محتجزة ..أشياء تستعرضها ..لا..هي ليست في حاجة لملابسها ولا لأثاثها ..هي بحاجة إليه..وحده تمثال ..آمون رع..تناجيه في عتمة المكان وتنشج بين يديه :"كم أنا ذاوية وروحي متراعشة في فضاء ممتد خارج الدنيا والحريق".
مرة .. لا تدري متى بالضبط .. لكنها في صيف عابر قريب .. قالت له أنها ابنة آمون رع أو هي أمه .. وفي ساعات الليالي المقمرة الطويلة سترتدي مخملاً من طيبة وتنزل إلى البحر لتخضب قدميها بمياه الليل .. ولتلبس الأصداف قلائد وخواتم .. ولتجس ّ وجه الرمال .. وتلوذ بجسد البحر .. مرةً قالت له ذلك ..وكان يحتسي شيئاً من عصير ..وبدت نظرته ساهمة ..وهو يحاول جمع حروف اسمها ..ثم يطلق ضحكة قصيرة للريح ..وهي ترنو الى محيّاه الطالع وخطواته الواثقة ..مؤكّدة له أنها مأخوذة في الليالي المقمرة إليه..الى آمون رع ..فهي أمه ..التي ترضعه صغيراً وتسقيه لبنا سائغا.
وسيكبر في خيالها وتقبّل جبينه الأسمر ..وهو يكبر ويكبر بين يديها وفي حجرها ووسط أحضانها ..وهي تسقيه عبقا فرعونيا يذكي فيه شموخ الرجال ..وهي ستغدو ابنة له ..وهو بقامته الفرعاء وحدبه عليها ..سيبقى هكذا بهياً كبيرا ًدائماً.
عادت الى الضجيج خائرة القوى تتشبث بركن بارد بعيد فيما يتناهى إليها صراخ فرق الإنقاذ وعربات المطافئ وهي تشهد أسراب النمل وهي تخرج من مخابئها ….مر الناس كشريط المجهول ..هذا يولول لفقد جواز سفره وذاك لاحتراق شهاداته والآخر لفقدان مصاغ زوجته وآخر لفقدان لوحاته العزيزة .’وتلك تبحث عن كلاب جراء دفعت من أجلهم دم قلبها وهي تربيهم وتكبرهم وقد اختفوا جميعاً وبين من يحمد الله على السلامة ’ومن يولول على أثاثه ومتاعه ..هكذا كان هؤلاء ..جوقة كبيرة كانت مختبئة في شقق المبنى ..لم ير ولم يعرف أحدهم الآخر ..الى الآن
وقفت هي هناك خائرة تتشبث بركن بارد أرادته بحراً شتائياً وعصفاً ودفقاً للنثيث ورائحة السمك والأصداف واليود .. وتأملت في الأفق السماوي ولاحت لها صفحة قمرية سرعان ما تداخلت مع وجه آمون .فانتابتها رعشة مفاجئة ... وأطرقت ، ثم تسللت نظرتها الى سفائن النور التي تتنقل على نجوم الغرباء في ذلك الليل . وتمنت لو كان هو بقربها فينطلقان في عربة من الفضة واللازورد .. وينزلان عند مملكة آمون رع التي أعلنت الآن طقوسها ودقت طبولها وأطلقت العنان لعازفيها بتعاويذ الكهان .. وآمون يحتشد وينزل بأثوابه ليطلي جسده بزيت الغار ويتطهّر في مياه بحره المتثائب النابض .
مرت أمامها ثلة من حاملي السلالم الطالعين الى النار ..وتشبثت بأحدهم وسألته ان ترى حجرتها ..فتركها الرجل محملة بنظرته الساخرة الرافضة ولذا وقفت كطلل طيبة .. صامتة كالغريبة ، لكنها فجأة عادت الى قرع الطبول وضجيج تعاويذ الكهّان الذين قادوها وخضبوا أصابع يديها ورجليها، وترا عشت أمامها اسماك الفضة وفراشات النور وانساب الماء بين يديها .. وهي ترى تمثال آمون محاطاً بغلالة ذهبية .. وهي ترنو لصمته وذراعيه المتعامدتين وأصابعه المتشابكة كان هناك ينذرها بأنه قادم الى غمامات ليلها وياما رأته في نومها ويقظتها وسقته ألذ ما تحبه لنفسها ’وشاركته الكلمات والقصائد والتعاويذ ..تاركة له مساحة هائلة لمداواة كيانها المعذب بالوحشة والفقدان..ربما كان آمون وحده هو الذي غاب في ليل المدينة وأشعل غضباً رهيباً تشظى في المكان .. وبقي هو حيث هو هناك رافضاً .. شرساً .. عنيفاً .. ورأته هي في صورة اخرى لم تستبعدها ... ولذا فكلما اشتدت عليها فكرة غضبته سافرت الى البحر .. وارتدت ملاءة الكاهنات والعرافات وتغنت وحيدة على سقوط قرص الشمس الدامي في بحار آمون العميقة ونقلت في يوم ما للرجل نفسه شيئاً من أشعارها وتعاويذها العتيقة وكانا يذرعان أرصفة المدينة في ظهيرة شاتيه ..وأكّد لها ان هناك مساحة ما بمثل براءة البحر تمتد عميقاً في نفسها وستثور وتتوالد وتشتد ..وقاطعته بأنها مساحته هو التي لا تتسع إلا لكلماته وملاحمه وأيامه..
كانوا هناك أفارقة وغرباء ..حاولوا درء اندفاعها بينما المرأة الأخرى تبحث عن كلابها والأستاذ يبحث عن شهادته الفخرية والصبية تبحث عن دميتها كانت تسير بملاءة رمادية عندما تسللت إليها كف الصبية صغيرةً باردة راعشة .. تشبّثت بأصابعها كالغريقة .. أرادتها مشاركة في رحلة البحث عن الدمية .. وصفت الصبية شكل دميتها .. شعرها المنساب .. وجهها الدائري الوردي .. شفتيها الممتلئتين .. ثوبها الأزرق البحري .. كفيها المحلقتين في فضاء مائي أو بخاري .. كانت الصبية يافعة نحيفة القوام حادّة الملامح .. لكنها بدت واثقة مدافعة عن ذات اخرى تخصها .. وناشدت السيدة إن تنضم إليها في تخليص دميتها من النار .. لم تقو السيدة أن تخفي في نفسها ارتعاشه روحها وان تعرب عن قلقها نفسه إزاء القسم الآخر من كيانها الذي مازال هناك في المجهول بين النار والدخان وخراطيم المياه وصراخ رجال الإطفاء وهلع الناجين ..حتى بدت مطالبة السيدة والصبية بشيء مما يسعيان له ضرباً من الجنون والبطر...
وقادت الصبية بين أفواج الناس .. وتراءتا وسط غلالات الأضواء التي غلفت المكان ككائنين قادمين من الماضي .. من ماضي المعابد .. من بلاط آمون نفسه .. تسيران كمن يطفو على سطح مائي .. ويجتازان العتبات ويرتقيان في الطلوع السحري .. وهمست السيدة للصبية بأنها هي نفسها تبحث عنه هناك إذ تراه في كل يوم شاتي إن صائف أو ربيعي أو خريفي في منتصف ليل .. أو في فجر .. كما هو .. محاط بهالة برتقالية مقدسة .. ويتّقد نور ابيض شفاف .. يتقدم كمحارب مخضرم واثق .. مثقل الخطى .. خداه منحدران الى ذقنه .. عيناه مسهّدتان متعبتان .. شعره طويل منسدل .. وشاربه مخملي هكذا رأته وجسّت شفتيه ..شفتي آمون رع ..نفسهما اللتان نطقتا بالإخلاص للرحلة ..عندما شربت معه من عصير المعبد نفسه ..عصير العنب الأحمر عندما مرت حاملات القرابين وسط التعاويذ وغمامات البخور وضوء الشموع ..
وصحت السيدة من شدة ولعها بآمون .. وقرأته مرارا وكشفت أسراره وحفظت تعاويذه وأشعار الكهّان من حوله ..وعرفته حقاً واتحدت به ..وتغلغلت في إنسانيته الشفافة ونقائه الفريد ..وطيبته التي فأنعشت فيها مواسم البرتقال والآس والخزامى والغار ..إذ فاضت من حوله أوفياء محملة بعبق السنين وتمنت مراراًٍ لو غرفت هذا العالم منذ سنين ..
كان ذلك يوم عصفت الريح وهاجت أمواج البحر عاصفة شرسة وغلفت بالرذاذ كيانها .. وهي تراه هناك في الهيجان قادماً على مركب من الفضة وحيداً طيباً يوسع لها المدى كلما ضاقت الدنيا عليها...
رحّلوهم جميعاً صغار أو شيوخا وقططا وكلابا وعصافير ..رحّلوهم الى ذلك النزل المحاذي للبحر الصامت الرمادي ..ووجدت السيدة نفسها الى جانب الصبية ..هكذا توشكان ان تنهزما..وتخسر هي الى الأبد شيئاً ما ..عزيزا غاليا لكل منهما لكنها وهي ترى الباص وقد غصّ بالناس والطيور والقطط والكلاب ..نفرت واندفعت عندما انطلقت طبول رع من عقالها بالطيور البرية والطواويس ومسوح الكهان والنيران المطفأة ..رأت المبنى كهفا حجرياً قاتما يبتلع الناس والأشياء ...... لكنها شعرت باحتشاد الإرادة في داخلها .. وهي تخوض في نهر من الرماد والحطام والماء الأسود والشظايا .. كأنها ركبت زورقاً مجنوناً انطلق بها في كهوف مائية .. وراحت تناديه .. في تلك الآونة الذاوية من الليل .. واصطدمت بأبواب ومنافذ وبقايا جدران .. ولاحت لها أساور من فضة وبقايا أثاث محترق ..وأجهزة هاتف طافية وبقايا صور وتذكارات محطمة ودفاتر واوراق مشبعة بالرماد ومياه الإطفاء ..حتى إذا صمت الزمن ..ولم تعد تسمع نداءات مكبرات الصوت المحذرة بأن بقايا المبنى سينهار في وقت قريب .. .. اندفعت الى ركن ناجاها .. والتمعت منه صورة ما .. طاولة كان يشاركها فيها شخص ما..#
حزيران (يونيو)2000 القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
……

ابو العتيق


ابو العتيق


عنــد ملتقى الدروب المصفوفة بالحجر ،تمتـزج أصوات المغنين عبر جهاز التسجيل القـديم مع ثرثرة الجالسين في المقهى القـريب و أصوات عجلات العربات الداخلة الخـارجة ، تلوح من هناك المنـارة القديمة للجـامع الكبير ، تلـوح بامتدادها المهيب ولونـها الحليبي الـذي دخلته الخطوط السـوداء وقـد أحاطت بها الآيـات القـرآنية وأسماء الله الحسنى ، وفي الفنـاء المحـاذي ستعقد جلسات الـذكر ويلوح الشيوخ بقامتهم المـديدة المهيبة وملبسهم المتقشف النظيف والـرائحة الزكيه المنبعثة من طيـات مآزرهم ، كـان الصبي يلم بمفردات المشهد اليـومي ويجد في تداخل الأماكن من فناء المسجد المليء بالشمس والدفء وامتداداً بالدكاكين الصغيرة لباعة القماش والعطارين وبائعي الجلود والنساجين الكهول ، وصانعي الفؤوس وملمعي أواني النحاس ، يجد في تداخل الأماكن امتدادا لتداخل الكلمات والأشياء بالنسبة للأب المنخرط الآن مع جمع الشيوخ في الخشوع والتسبيح ، ولكنه ينتظر وينتـابه النعاس خافتًا قادماً مع أمواج الرطوبة الناعمة المنبعثة من أقبية السوق ودهاليزه حيث مستودعات الغلة والثمـار الجـافة ،كان كمن يركب سحابة مرفـرفة تحيط بفضاء المدينة القديمة فتجمع كل أجزائها كما تتجمع حبات المسبحة ، ولذا كان تتابع الأماكن والوجوه مثل تتابع كل الأشيـاء المبثوثة في حـدود هذا العالم المقفل الذي تأكـد أنه عـالم غير مسيطر عليه ، أنه عالمنا المتدرج في تدحرجه وشيخـوخته وزواله ، وهكذا كان الأب يعمق في الفتـى (رشيد ) فكـرة المدينة العتيقة القائمة على قدسية ترابها.. فمنـارة مسجدها تمتـد لعـدة قـرون مضت وأطـواقها ومـداخلها داست عليها سنابك العـديد من الأقـوام سـواء الغـازية منها أو المسافرة العـابرة فأيـن هي تلك الأقوام ألان؟ أنها إلى زوال ، ولـذا لاح للغلام ان حجر هذه المدينة فيه أسـرار اليقيـن الثـابت ، فلا تهتز الجداران ولا الحواجز ولا الدروب المرصوفة بالحجر ، ولذا فان الروعة والقدسية كلها تنبعث من روح العتيق ، تنبعث مدمجة بالعبقرية والحكمة الخالدة ، وهكذا كان الأب يعزز فلسـفته في عقل الفتى الغـر الذي صـار مؤمنـا بالعتيق .
ولذا واصل رحلة الأب والأجداد في تجارة العتيق فورث سريعاً ذلك الخان الواسع الذي لوثت جدرانه بالسواد وبدا مثل فم أسود بشع متآكل الأسنـان ، فم يبتلع كتلاً من الأشياء العتيقة التي لا يعرف الفتى سبباً لحزنها ، ولا يملك الجرأة في سؤال الأب عنها إذ لا يعرف وقتاً محدداً للأب يكون فيه هانئ البـال صافي الذهن فيجيبه ، ولكنه شعـر بالتدريج أن موضوع ما مخزون في الخان ليس بمشكلة .. إذ يبـدو أن تلك البضـاعة بحـاجة إلى مزيد من التعتيق ، وسلط الأب بمرور الأيام قـوته وحزمه وصلابة آرائه التي يدافع عنها في موضوع العتيق والـزوال وكانت سيرته كلها تحكي نهجه الامتدادي العتيق ، زيّه ، أثاثه ، طعامه ولمـا كان هنالك جيل ينشأ يرنو إلى الجديد ، فقد كان الابن الأكبر ( عبد الحق ) قد جادل الأب في فلسفة العتيق وتشـدد في أن الجـديد هو الـذي يبنـي الحياة ومـا العتيق إلا ماض وذكرى نحنّ إليها ونحبّها ولكنها ليست حياتنا ولا رغبتنا واستشاط الأب غضباً واعترف بتسمم الابن وتلوث كيانه ومروقه ولذا أوجب عليه الجـلد لكنّ الشـاب الشرس رفض العقاب ولذا ركع أمـام أبيه مستـأذنا الرحيل إلى أرض أخـرى ومـن يومها غاب غياب الإبـرة في القـش.
أما رشيد فقد تتبّع أفكار الأب وحفظها عن ظهر قلب ولذا كان يتدرب في نوبات يومية للخروج إلى دروب المدينة وهو ينادي ( عتيق .. عتيق .. للبيـع .. من الذي عنده سجادة عتيـقة للبيـع ، الذي عنده فضة للبيـع ، الذي عنده حجر كريم للبيع ، عتيق .. عتيق ، الـذي عنده عاج للبيـع ، الـذي عنده أخشاب للبيـع الـذي عنده ماكنة عتيقة للبيـع ) .
وكـان الأب متشـددا ً على الغلام أن يطأطئ رأسـه وهو ينـادي لا يـرفع رأسـه إلى بيـت أو شبـاك أو بـاب حتى ينـادي عليه النـاس أنفسهم وأن لا يمر قرب البيوت الفـارهة والنـاس المتخمة .
وراح الغلام في سيرته المحمودة يؤكد للأب يـوما بعد يوم أنه أبن فذ ورائع.وكبر الغلام وصارت تمر في خاطره صورة امرأة .. ، زوجه متواضعة بسيطة تلبس مثله العتيق وتعيش في غرفة كل ما فيها عتيق ثم يعد العدة لاستقبال وليده الأول وترتسـم في مخيلته صورة جلساته مع الزوجة المجهولة وصورة الطفل الرضيع وهو يرتـدي العتيق ثم وهو يكبر ويتـدرب على سيرة العتيق إقتداءً بالآباء والأجداد لكنه كان يعود إلى ارض الواقع مرتطماً بوحدة الأب وعزوفه عن الزواج منذ وفاة زوجه الأولى وعدم طرحه أو سماعه فكرة زواج ابنه وفي فجر إحدى الليالي صحا على ضجيج ما ، فاستفزّت روحه وغمرته وحدة مريعة وشعر بأطرافه باردة ورأسه يدور ولذا أقام صلاته ثم حمل ( خرجه ) على ظهره وخرج مع انبسـاط الفجر وامتداده الشفـاف على دروب المـدينة وأبوابها المغلقة وفضاءاتها المشبعة بالضباب والرطوبة ولم يكن يصغي ألا لنبـاح متقطع هنا وهناك ولا يتناهى إليه ألا وقع خطاه هو وتراتيل بعيده لآيات قرآنية ،.
كان قد تنبه إلى هزال قـد أصابه منذ مدة فقد كان بالأمس القـريب فتى ممتلئاً طويل القامة قوي العضل واسع العنين أسمر البشرة حادّ النظر لكنه ألان صار يشعر بخفوت ما مرّ بدكاكين الحدادين ومدبغة الجلود ، وبالقصابين وسوق الخضار ، وهـو يتمنى أن يسرّي عن نفسـه في هذه الـرحلة المبكرة في المدينة النائمة.. دار حول السـور القديم ناشـداً الخروج إلى فضـاء أكثـر انفتـاحاً ، إذ كان يشعر بانقباض شديد في صدره وحاجة ما للهواء الشديد ليعصف بكيانه ، لذا راح يصعد الهضبة القديمة حيث تلوح أطلال وأعمدة من الآجر وأقواس من الحجر لتنحدر الهضبة فجأة إلى مجرى النهر الوحيد الذي يمر بالمدينة ، وها قد مر الوقت سريعا ، فكان أن كست الشمس بضيائها النحاسي سطوح المنازل وواجهات الدكاكين ، وكان ذلك إيذاناً بنداءات الـرجل ( عتيـق .. عتيـق ) وراحت خطاه تسارع في الخروج من أبواب المدينة القديمة وهو مندفع بلا هدف ، حتى إذا ما أنتصف النهار كان الفتى قد قطع مسافة طويلة , إذ لاحت بعدها أسوار السرايا وسطوح بيوت البكوات ، تلك الأماكن القصّية المحظور دخول القرويين والعامة إليها وتأمل وهو يقترب هياكل الحجر وواجهات المرمر والستائر الزرقاء المر فرفه ، ورأى الخمائل الكثيفة ولاحت له ايكات العنب مزدهرة غناء وفاحت من حوله روائح هي مزيج من عبق الزهر وروائح الطهي ولذا فاضت في داخله أحاسيس متضاربة ووجد نفسه لا يملك ذلك الرادع العتيق الذي يحول دون أقدامه على اكتشاف هذا العالم المجهول .. ولأنه رجل يشتغل في ( العتيـق ) فقد وجد في نداءاته عذراً لاقتحامه ذلك العالم المجهول بأنه رجـل فقير يبحث عن قوت يومه ، لهذا قـادته خطـاه بلا قصد لهذه الدنيـا العجيبة وكانت تلك سـلسة أعـذاره فيما إذا داهمته الشرطة أو الحراس ، ولذا نزل من هضبة المدينة وسـار طويلا ًبمحاذاة السـور وما أن دخـل الممر الحجري الـذي تلامع مفصحا عن نظافة وجمال وتنسيق .. عنـدها بدأ ينادي (عتيـق.. عتـق ..) ولما أجتاز صفاً طـويلاً من المنازل الفخمة دون أن يكترث لوجوده أحد ، ظن ان المدينة مهجورة ، ولذا راح يرفع رأسه متأملاً في البيوت متسـائلا ًعن فحوى الأمر ، لكنه ظـل يـردد ترنيمة العتيق المعهودة ، وماهي ألا دقائق مرت وهو يرصد البيوت بلا قصد ، إذا بإحدى الشـرفات تنفتح فيتدفق الهواء فوراً فتتمايل الستـائر الـزرقاء وتطل من بينها حورية ، لا رآها قبل ألان ولا سمع عنها ، كأنها شيطانة أو جنيّة .. أو أو .. حوريّة ولذا أرتعب الغلام وارتجفت فرائصه ، وراح يكذّب حواسه في أنه في مدينة مسحورة وفي حلـم .. أو كـابوس إذ ما صلة هذه الحورية بهذه المدينة المهجورة ، لاح ذلك الجيد الناصع البياض الذي أمتزج ببياض الوجه الذي زاده تألقا وإشراقا هالة سوداء كالليل لشعر فاحم يتهدل على كتفي الفتاة متمايلاً مع كل هبة ريـح، وتداخل لـون تلك البشرة مع لون القميص الحريري الذي يلتف على جسد متوثب كـامل مكتنز ، ولم يصدق الغـلام أن تلك الفتـاة تومئ له وبيـدها عصـا من الذهب .. لكنه راح يقترب من الشرفة حتى إذا ما اقترب من سياج الحديقة كان البهاء كله قد حط في الشرفة وهـو في القاع على الأرض مـذهولاً .. ولم يكن ليصـدق أن تلك الفتاة قد أعجبها تنغيم صوته وهو يصيح (عتيـق .. عتيـق ) لهذا أرادته أن يردد نداءاته مـرة أخرى وهي تعزف على آلة (الفلوت ) التي تتدرّب عليها ، وبدت لعبة غريبة ربطها الرجل فورا ًبالغيب وعالم الجـن والخـرافة ، ولذا وجـد نفسه مجبرا ًعلى الإذعان لمطـالب تلك المخلوقة خوفاً من عقابها أو أذاها فـراح ينغّم بكـل ما استطاع من قـدرة على التنغيم ويـردّد لازمته المعهودة .. عتيـق .. عتيـق .. عتيـق .
وجلس عند قدمي الفتاة في سكون واستسلام وهو ينغّم وهي تنفخ في آلتها ، وطالبته بأن يعود إلى جلسة ثانية في الغد بعد ان يرتدي ثيابا انظف واجمل .. ونقدته ليرة ذهب كاملة ..
وتقشعت أمام ناظري الرجل كل السحب ووجد نفسه أمام حقيقة دامغة هي هذا الكيان الذي لا يوجد فيه ما هو عتيق وليس آيلاً إلى زوال ، وان آلتها وحدها تتغلغل في كل شيء فالصوت يتجسم وتتراقص في المكان فراشات ضوئية ،تنسجم مع ارتعاشات جفني الفتاة وأصابعها الرشيقة وهي تتنقل بخفة بين ثقوب الآلة ، وتجسمت أمام ناظريه شفتين رائعتين تلتصقان بحنو بتلك الآلة فتتكوّران ثم تبتسمان .. وكانت تلك الحورية تحلّق هي الأخرى في أفق مليء بالمرايا والأقواس والنافورات وتماثيل الأيائل والنمور والأرائك الوثيرة وستائر المخمل .
عاد رشيد محمّلا بخراب روحي عجيب ، شعر ان روحه معطوبة وان ما جرى قد نكأ جرحاً في داخله ليعرف من الذي كان السبب فيه .. أبوه .. الزمن .. العتيق .. لا يدري ، ولذا كانت العودة إلى الخان والأماكن الرطبة والرائحة العطنة كانت عذابا مريراً لاقبل له به ، والعودة إلى الحورية اشد عذاباً وإيلاما ولذا اعتصرته وحشة شديدة وجثمت على نفسه كآبة قاتلة ، ولكنه بين حين وآخر يشعر بريح طيبة تأتيه من مكان ما فتنعش كل كيانه وتؤجج فيه سعادة صغيرة مجهولة .. وبقي الغلام مشتت الذهن غائب البال حائراً يتقلب طيلة ساعات الليل الطويل الجاثم حتى جاء الفجر الجديد.
لبس زياً نظيفا ورحل .. وعندما وصل تلك السرايا الفخمة كان قلبه يسبقه إلى تلك الشرفة المتلألئة .. ولذا سارع نحوها بكل ثقة وعندما وصل فتح الباب مباشرة واتجه نحو المدخل الرئيسي وما هي إلا لحظات حتى دوت في المكان صفارات الحرس وتعالى نباح الكلاب المزمجرة التي قفزت عبر الاسيجة وجاءت تجر خلفها جنازير حديدية فيما بدا حول السور حراس سود جهمي الوجوه يركبون جمالاً وخيولاً ويهددون بهراواتهم وبنادق البارود ، وحطت على الدنيا كتلة قاتمة هائلة مريعة من الرعب والجلد والنهش والتعذيب والقسوة ، وكانت صورة فتاة الشرفة و(فلوتها) تلوح أمام الجسد المعذّب في الأعلى هناك حيث يتدفق الهواء وتتراقص الستائر ، وكان العزف الجميل يشتت آلام الغلام وهو يتلقى عذابات رحلته وحتى وهو يسحل في دروب المدينة الحجرية والجمال تجره ، كان يتشبث بأغصان زهر حديقتها ويشير أليها دامي الوجه دامع العينين ويردد منغماً لازمته الأثيرة : عتيق .. عتيق .. عتيق .. عتيق ..

….1997
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

نافذة اخيرة LAST WINDOW


نافــذة أخيــرة*


هدأت المـدينة فجأة وهي تنساب في غبشها الشاتي ممتدة مثـل جـزيرة في مـدىً مجهول ، غلّف دروبها الصمت ، بـرهة عابرة تخفي ورائها أشياء وأشياء ، ولم تكـن تلك المرأة الوحيدة غير وجـه واحـد وصوت واحـد وحيد في حارة كاملة للمستوطنين الذين طوقوا المكان بلغتهم المجهولة وطقوسهم الغريبة ، كان عليها أن ترتقي سلماًحجرياً متهالكًا لكي تبلغ مأمنها في منزل أستقر في أعلى تلّة من التلال التي توزعت عليها بيوت الاستيطان .. تغمر دربها بالتسابيح وأسئـلة الرحمة ، وتنـاجي غائبين وغـرباء ومهجرين وأمـواتاً ، تقيـم تعاويذاً وأوراداً وتستحضر معها في ذاكرة مثقلة بالعناء ، تستحضر الوجـوه والناس في شريط طـويل من العناء ، فجأة في هدأة الليل هطلت عليها صورهم وأسماؤهم ، جـارتها وأولادها ، وأحفادها .. مرت على فضاء الذاكرة سحابة قاتمة وريح وبرد واقتلاع وتشـرّد .. واختلطت عبر مشهدها الخاص قافلة من الناس الذين عصفت بهم الريح والحرب وهم يجرّون من خلفهم بقـايا أثـاث ولوازم عيش مندفعين نحو غيهب جديد وقد سبقتهم رغبـة عارمة في العـيش وفي المـوت أمـام الأراضي المحتلة في آن معـا .. لم تكن بعقلها الصغير آنذاك لتستطيع أن تجـد فلسفة ما لتلك الحـالة من الدفاع عن الحياة والدفاع عن الموت ، ذلك الإصرار الصامت الناشب كأشجار الأزل في أعماق الـناس ، كانت جزءاً من قـافلة المواجهة وهي تسمـع بجحافل الحلفـاء في ما وراء البحـار والأصدقاء الجدد وأراضي الميعاد والهيكل والنجمة وكل ذلك ما يلبث أن يبدو لوحة على جدار المدينة العتيقة لوحة هي مشهد النـاس والزمان .. لوحة صخرية تمتد بلا هوادة لتجمع قضية أجيـال أخرى .. لـم تكـن في صمتها الأليف ألا وقفة في الزمان ، وشاهداً على ما جرى .. أكتضت في داخلها رغبـة في أن تـرى أولئـك النـاس كلّهم ، أصاخت في الليـل الشاتي المـوحش فلم يلتقـط سمعها الـواهن غيـر همهمات الغـرباء وخطاهم التي تمـزق جسد الليل الحالم وهم يـدبّرون للغد ..
تعلم مراراً أنها القـاطن الوحيد في تلّة معمورة بالغرباء .. لا تعرفهم ولا تـريد أن تعرفهم ولكن تأكد لها أنهم يتمنون ويسعون لرحيلها .. لأنها موجودة في المكان الخطأ.. وليس هم .. ومهما أعلنت مراراً تاريخها الطويل في هذا المكان لم تتلق غير أصوات متشككة تخطط لليوم والغد ولا تعنى بمن كان ومن كان بالأمس .
على محراب هذه التـلال مرّ العابرون للشتات والألم .. ودّعتهم ، كما ودّعت المقاومين أرخت عليهم سدولاً من الطمأنينة والراحة و الأمان .. كانت ترى من عين خفية كفاً مباركة تمسح تلك البلاد والنـاس .. ولذا أصرت عل تسلق ذلك السلّم الحجري مراراً مصرحة بوجودها ومصرة على أنها بـاقية .. ولكنها فجأة بدأت تسمع نداءات من أسفل التل ومن أماكن أخرى تدعو لها الموت .. وأن يقصّر الله عمرها .. وما لبثت أن تلقت وعداً مغرياً مقابل نزوحها عن دارها وغمرت نفسها هواجس الضيق وفتحت نافذة ليطل عبرها الدبيب الصامت لعابرين غرباء مضطربي الخطى مدّت كفاً راعشة إلى قـدح ، وشربت شرابا ًحلواً ، واسترخت قليلاً ثم دارت على الأركان وهـي تمارس ذلك اللقـاء اليومي مع متحف الأسرة ، الأولاد ، الـزوج ، الأب الكبير ، فهـي هناك حتـى بعد أن أنشطـر الناس وتكاثروا امتلكوا البيوت في الشتات وغير الشتات هي هناك .. في الليل الجاثم البعيد .
لا تـدري كيف امتـدت اليـد إلى أداة معدنية بـاردة بقيت مطمورة في قـاع ذلك المتـحف.. ذراع طـويلة مـن المعـدن المنقوش بأسمــاء وتـواريخ ، ذراع طويلة مشهـرة كسيف ، ذراع طويلة كفوهة مـدفع ، ذراع طويلة بـاردة التقت بجسـدها المثقــل ..
وفتحت بكف راعشه مزلاجا التقـم عبوة حمراء .. وما أن هـم الغرباء بالاحتشاد خلف بابها وهم يصرخون يدعونها للرحيل .. حتى تراءى لهم كيان أخر طالع من المكان .. كيان تسبقه فوهة نـارية .. والغضب العـارم يلف المشـهد .. عنـدها لم يعـد في
هدأة الليل غير نباح بعيد .. بينما هي أغلقت بابها وأغلقت عينيـن متعبيـن ونامت وحيـدة كعـادتها.
طرابلس 2001

إهداء إلى السيدة ( النتشه) التي مازالت تقاوم’ وحيدة ’النزوح من بيتها الشاهد على المأساة
..
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

قربان المدن السعيدة




قربـان المـدن السعيـدة


مـن أنت أيها الصـاحب الفريد .. يا مـدى المجهول وشقيـق المغامرة .. يا وجه الغرباء وطعمة العـابرين .. من أنت أيها البحر طالعاً من دفـاتر المهاجرين ، مـن أنت مـن أنت..؟
حامت الأسئلة تترى في الليل البحري الطويل .. والرجل النحيل الصامت يواكب موجاً يتلاطم والفنار الوحيد يلوح واهناً بعيداً يتدفق الليل الخريفي ثقيلاً هامدا ًوالرجل يتوسد حقيبته صغيرة وبقـايا دراهم عليه أن يسـددها لمن سيحمله في زورق الليـل مهـاجرا إلى المجهول .. صفقة يعرف أبعادها جيداً وفحواها انه لـن يعود .. لـن يعود .. فالبحر وخباياه تحمل نذر اللاعودة .. وكل أولئك العابرين سيحملون تابـوت الوقت معهم .. إذ قد يداهمهم حـرس السواحل فيتهاوى زورق الغرباء إلى القاع .

يا نذير الراحلين ، يا أصدقاء الوهج القديم من هؤلاء .. ومن أولئك .. ماذا بقي منهم ، قلبوا مشاهد الرحيل الطويل عبر البوابات والعسس والغرباء ، قلبوا أوراقه وتفرسوا في ملامحه وسألوه مرارا لأنه كان قد ألغى قصائد الترحال ، واجل جنون المغامرة إذ سقته السلطات علماً جعله يواكب ولا يمضي ويكتم ولا يركب موجة التعبير عن مكنونات روحه .. روحه الوحيدة الأسيـرة ، التـي تمردت على ثـلة المعاصرين الـذين حاؤه بأمـواج الحداثة وتفرقوا فجـأة بلا مـلاذ .
أقفر المكان وغاب عمال الميناء تفرقوا في أركان الساحل الطويل .. تفرقوا قرب مراكب صيد وبواخـر شحـن .. ابتلعتهم تلك الطقـوس البحرية ووزعهم البحر أثاثاً لمشهده اليومي .. كان هناك كهل قصير القامة بالقرب منه جاء يحمل طيراً يدور به ويعلن عن صفاته البريّة وقابليته الفريدة .. طــائر من وراء البحار .. أشبه بالببـغاء .. انتظمت على جناحيه وذنبه ألواناً متدرجة جميلة ولكنه مثل تمثال حجري .. لا تصدر منه كثير من الحركات ولا يسمع منه صوت .. قال الرجل .. أن للطائر هذا وقتا لينطلق ويتجلى .. فيغني ويردد ويصفر ويتمايل راقصاً .. ألقـى تلك السيرة الطيبة عن الطير بلهجة مغربية سريعة خلطها بكلمات إيطالية وفرنسية موجهاً خطــابه لأي شخص في المكان دون تحديد ..
***
حمــل الآخــر حقيبتـــه وخــرج من المشـــهد .
تدفقت الــرائحة العتيقة نفسها تلك التي كــان يشمها في مدن عربية أخرى لا تتضح هويتها ألا بالمدينة العتيقة ، وعبر زقاق شبه معتم توزعت عليه بيوت واطئة بواجهات بيضاء وسقوف رخامية ، كانت تطـل عبر النوافذ وجوه صغــار شاحبين ونساء غر يبات طلين وجـوههن بزينة رديئة .. كـان هو مثل فـرس جائعة لأشياء شتى .. إذ عامت صورة المكان من حوله وسـأل نفسه أن كان قد ترك هناك صبياً يشبـه هؤلاء الصبيان تركه في مدينته على رياح الخطوب .. وان كـانت هناك امرأة مـا .. تكتب له مراراً أن هذا اليوم هو يوم مولده .. وتسأله عن عنـوانه ورسائلها وقصائده القديمة .. تجمد إحساسه فجأة وهو يحاول أن يجد عنوانًا لهذا السيرك الذي يمر من حوله .. وهو يقود هذا الامتداد من المشاهد .. وهو أن حفر مكانه عميقا في الذاكرة .. بعدما قال كلمته ومشى .. بقي هناك أصحاب كثر يذكرونه .. مع هذا كله بحث عن مكان عن ارض تصل أليها أوراق تلك الفتاة .. وذلك الصبي .. ولكنه ظل كما كان عبر أزقة ودروب ضيقة وفنادق رخيصة ..
***
واصل سيره عبر الزقاق ليجد الشخص نفسه بانتظـاره أعطاه الخريطة كاملة أين سيـنزل .. وأي طـريق يسلك وفي أي سـاعة سينطلق .
***
لم يبق من الزمن ألا القليل .. عندما شاهد عبر نافذة حجرته الضيقة رجلان وفتاة .. يسيران في غمامة ليله حالكة .. ولا تسمع إلا صـوت سيارة إسعاف بعيد .. عندما اقتـرب المشهد .. تحاور الثلاثة بصوت مسموع .. كانوا بالنسبة له ممثلين .. يتنازعون على غنيمة فجأة هجم أحدهم على الفتاة وأقتلع قلادتها من رقبتها فصرخت فيه وشتمته وضربته بحقيبتها فتناثرت محتويات الحقيبة وانشغلت الفتاة بلملمة ما تناثر أما الآخران فقد اشتبكا في عراك شرس تبادلا فيه الأدوار فتارة هذا يسقط وأخــرى صاحبه وهكـذا والفتـاة تحاول إن تحصل على قلادتـها .. ثم تمزقت أشياء وانطلق صراخ شرس في ليل المدينة الجاثم وتهاوى رجل مطعون وفتاة جريحة ومجرم هارب بالغنيمة وشاهد النجيع ممتزجا بأطيان الزقاق واز باله ..
اغلق النافذة وقد تعرق وداهمه الغثيان عاد مسرعاً إلى سريرة البارد وبعينين خشبيتين تطلع إلى السقف بعيداً ونام.
***
استيقظ البحار العجوز والمهاجر العنيد على صوت صاحب النزل وهو يوقظه مع الفجر ليلحق بالزورق .. لملم نفسه وأشياءه سريعاً وصلى ودعا دعاءه اليومي إلى الله ..
خرج مسرعاً .. كانت المدينة تغط في بقايا سباتها وليس غير حركة مكتومة خاطفة لسيارات وعربات وعابرين .. وسرعان ما وجد نفسه في المكان المطلوب وانطلق به زورق سريع مع جوقة من العمال المكدودين والشباب القلقين والفتية الصغار وشيخ لم يخف رعبه من الرحلة إذ راح يتطلع في المدى الموجي الغائم وهو يتمتم مناجياً ربه ..
تتابعت فصول الرحلة مع وقفات قلقة وتحسب للمجهول .. وعندما مضى النهار وغطس الزورق في مياه العتمة توقف كل شئ وأعلن قائد الزورق أن حدود تلك البلاد تلوح في المدى المنظور إذ ومضت أضواء خافته وبعد مدار قلق تسربت بهجة مكتومة إلى أرواح الطالعين إلى المجهول وراح كل واحد يعيش أحلام يقظة ويرى كائنات براقة من النور وسط ذلك المدى المعتم والأفق الحالك يا ليل .. يا ليل .. يا بحر الغرباء وملاذ العابرين .. أيها القاتم المقيم على الجسد العربي هل تشهد حقاً لهؤلاء الأبناء الغرباء وهم يفارقون المضارب والأطلال وحكايات ألف ليلة وليلة ووعاظ السلاطين هل تشهد لهم أم عليهم .. قادمون من بقاع شتى تختلف في أشياء وتتفق في شيء فريد هو الخروج من بيت واحد .. بيت عربي مهدد من كل جهة .. تنغر فيه الجراح ويتكالب عليه العدو والصديق .. ويخرج فيه هؤلاء بعدما مر العمر الجريح موزعاً هنا وهناك .. بانتظار الأحلام المؤجلة التي لا يعرفون متى ستتحقق .. اندفع الزورق واندفعت قبله قلوب الراكبين الفرحين ببلوغهم مشارف الأمل .. انطلقت في هدوء ترنيمة الغرباء .. أغنية هائمة شفافة ردّدها الجميع بالهدوء نفسه .. واستعداد لحلمهم الجميل بالتصفيق والتهليل والبهجة .. وتنفسوا الصعداء وهم يتحسسون جيوبهم الفارغة بعدما أعطوا كل شئ لمجموعة من تجار الرحيل إلى المجهول فجأة اضطرب الموج .. وتمايل الزورق والجميع لاهين بحلمهم الجميل وحده الذي راقب كل شئ .. إذ كانت هناك قوة ما تعبث بالزورق الهزيل الوحيد الجاثم في قلب الليل .. وتدفق فجأة أنين مكتوم كصوت الفجيعة معلنا أن على الجميع ان كانوا يريدون الخلاص أن ينزلوا فوراً ويلقوا بأنفسهم في الموج ويستمرون سابحين .. وتدافع الحشد وعلا الضجيج والصراخ التائه في الليل البحري الطويل ففي أي محيط تقع هذه الأمتار المربعة الخمسة التي أسمها الزورق .. وكيف تلوح وسط هذا الكون الغريب وحده كان يرى القوى الكونية تستعد للانقضاض على حلمه المؤجل .. حلمه العبثي .. إذ كان يشعر بثبات عجيب ولم يكن يأسف على شئ قدر أسفه على هؤلاء الذين أكلهم الرعب والإحساس بحافة النهاية وهي تدنو .. فمنهم من أعلن الاعتصام حتى الموت في الزورق ومنهم من راح يبحث في الظلمة عن تجار الرحيل ليقتص منهم .. ومنهم من تشربت روحه الظلمة وغاب في وجوم أطبق على كل شئ ..
تصاعد الموج بالمزيد .. وتمايل الزورق وسمع صوت واحد أو أكثر وهو يعلن الشهادتين ويلقي نفسه في التيه وبين الضجيج والموج المتلاطم وصراخ الذين لا يحسنون السباحة لاح من بين النجوم الغائرة ضوء نفاذ سرعان ما راح يمشط المكان وتعالت فجأة نداءات من كل مكان .. داعية المهربين للاستسلام أو الموت .. ولم يكن أحد يعرف من هم المهربين ولا كيف يعـلنون الاستسلام .. وفجأة لعلع الرصاص واختلط الموج ببقايا الــزورق .. والتهم البحر بقايا خشب مهشم .. أماهم .. فقد كانوا هناك في جوف المدى .. تركوا الأوطان الجريحة .. وأحلام البلاد المتخمة بالرفاهية .. وراحوا يجدفون في الفراغ .. وحده الذي كان هناك .. هناك .. هناك في المدى المجهول يشهد تألق الناس الطالعين إلى الشموس أو مصرعهم ..
تونس 1999

إهـــداء ..
إلى (أحمد ) النبيل الذي يشهد تلك الوقائع راغماً.. ! إلى الغرباء الذين احتشد المـوج والناس والعسس عليهم وأبقوهم أسماء تتوزع على كواكب المنافي الموحشة .. أو أرواحاً طافية في ما وراء البحار قرباناً للمدن السعيدة
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة

تنويعات بشرية HUMANITARIAN VAIRATION

تنويعــات بشــريـة


في المـدينة الصاخبة ، المدينة المتشابكة والنـاس تهـرع والكل ينظر إلى الإشـارة الضوئية للانطلاق ، كان (مارثونا ) طويلاً فيه شيـوخ وتلاميـذ وفتيات صغيرات جميلات ، باعة بسطاء ،معلمون متقاعدون ، سكرتيرات رشيقات ، عمال بناء ، كانت حائرة ومرتبكة أعصابها متعبة ، ولم تنم ليلتها جيداً وهي تهيئ ملابسها وأشيائها لتتقدم إلى اللجنة وتبعثرت من حولها كلمات الإعلان الإذاعي والتلفازي : ((تعلن مؤسسة الفتاة السعيدة عن حاجتها إلى (…....)من اجل ضمان مستقبلك تعالي معنا إلى مؤسسة الفتاة السعيدة حيث الآمال العريضة والأحلام المرفرفة في فضاء التمني)) .
أدهشتها أناقة المكاتب ، ورق الجدران ، والـورود الصناعية الموزعة في الأركان ، شاشات الكومبيوتر ,رائحة معطر الجو المنعشة ,وتنبهت للكراسي الدوارة الحمراء وحسبت نفسها تدور على كرسي وثير والهواتف لا تتوقف عن الرنين وبين الحين والآخر تنظر لتسريحتها وماكياجها لتتأكد من أن كل شيء على ما يرام .
تراجعت خطوات وهي تقف في طابور طويل بانتظار الحافلة ,تلاشى هواء التكييف ، وحلّ هواء المدينة المشبع بالكار بون والغبار وصراخ الباعة وأصوات محركات السيارات المتكدسة عند الإشارة الضوئية ، ألقت نظرة عابرة على وجـودها الماكث في المكان ، الملتصق بالواقع ، آخر أخبار الفضاء ،آخر أخبار التنزيلات الحقيقية،آخر أخبار زوجة الإمبراطور، آخر أخبار الغناء ، آخر أخبار البورصة ،كان المكان والواقع هما مرآتها الحقيقية التي ترى من خلالها وجها ًمهتزا ًوملامح مرتجفة حائرة .وجدت نفسها في موجة العابرين في ألما راثون بعد إطلاق أل (GREEN CARD ) بالمرور والإقامة في الحافلة الكبيرة باتجاه مؤسسة الفتاة السعيدة التي هي جزء من مجموعة مؤسسات الحياة المرفهة السعـيدة العالمية المتحدة المحدودة ، ولا تدري أين وصـلت ولا أين تبحر هذه السفينة في موجـة الزحام الصيفي المتلاطم ، فالأجراس لا يتوقف قرعها و(نازل + صاعد ) أزلية لا تتوقف والرجل الذي أمامها لما ينجز بعد قراءته المعمقة لصفحة الوفيات (نازل + صاعد ) ، حملها الموج وحيدة مشتتة الفكر ، وتغيرت هيئتها ولا تدري عن مكياجها شيئا ولاعن تسريحة شعرها ، شعرت بالخدر يغمر وجهها ورأسها وأطراف أصابعها ، وأحست أنها فقدت الإحساس بهذه كلها ولذا دخلت بلا أدنى اكتراث وسط نفحة كثيفة من الكلمات والسطور التي تدافعت إلى ذهنها قادمة من عشرات روايات الحب
والجمال التي قرأتها وما زالت تقرؤها .
***
كان هنالك شخص اخرس , طويل القامة,ساهم النظرة ,وذو سحنة تختلط فيها الصفرة بالبياض , عيناه غائرتان , ووجهه جامد بلا حياة , كان يمر في كل أسبوع على مكاتب مؤسسة الحياة السعيدة ليطلع على ما أنجزه رجالها الأشاوس , كانت للمؤسسة مهام متعددة ,تتجدد في كل وقت عندما يلمح أحد مستشاري الرجل الأخرس منفذاً للإبداع الجديد يرميه في محفظة بريد الأخرس الذي يصادق مباشرة ,وما ان يتم ذلك حتى تستأجر المباني والأراضي المناسبة ويبدأ استقدام السيارات والناقلات وهيئة الموظفين في زمن قياسي.
***
كان رجل العصر كما يسمي نفسه ,,يشعر انه عبقري وملم بأحوال الدنيا وشؤون الأمم وتحريك المال واغتنام الفرص والفوز بالصفقات ..وكان وجوده في فرع المؤسسة العالمية هو أمر كوني يجب ان تتنبه له الأمم فتقعي عند بابه وتسأله ان يمحظها نظرة خرساء يعدل بها مزاجها وجداول أعمالها.
كان الصمت يلف المكان .. وعبارات (هدوء رجاءً) تتوزع في الأركان ..وكان الأخرس يفضل كتابة التعليقات في الهواء ..والتوقيع في الهواء ..والضحك في الهواء..وعشق النساء في الهواء..لأن لديه هيئة من المستشارين الذين يترجمون إشاراته الخرساء في الهواء …وهو لا يريد إن يبدو أمام الآخرين بهذا العوق الخلقي ..ولذا فأنه يحرص على الإخلاء بالمستشارين في المكاتب المغلقة في أثناء اتخاذ القرارات.
***
عالم الرجل الأخرس مليء بالجمال ورغد العيش والنعمة التي تتكدس في كل يوم..ولذا صارت له إقطاعيته في الأرياف والمدن الكبرى ,وصارت له أجنحة للتعبير عن الرفاهية.
وكانت المؤسسة تعلن عن حاجتها إلى وجوه جديدة بين آونة وأخرى فكان يسرّي نفسه بالحضور مع لجان المقابلات لمشاهدة البشر كجزء من فلسفته في مواكبة الواقع..وفي بعض المرات كانت تحضر طوابير من الفتيات المتلهفات للفوز بعمل ..أي عمل..سكرتاريا ..قضايا مالية, علاقات عامة ,أبحاث ومتابعة..أي شيء من ذلك..وكانت شروطه قاسية بالنسبة للمظهر..فقد فرض الأخرس في الإدارة الكبرى للمؤسسات زيّاً خاصاً وتسريحة شعر وقامات محددة في كل طبقة من طبقات المبنى فهنالك طبقة بموظفات سمر أفريقيات بزي ازرق داكن وهنالك طبقة لنساء بدينات بملابس صفراء فاقعة وهنالك مواقع لشابات يافعات وهكذا, ضمت الإمبراطورية نخباً معاصرة من الإناث الرفيعات المستوى ,,أما الرجال فهم دوماً حليقي الرؤوس ,يرتدون بدلات سموكن ويخفون عيونهم خلف نظارات معتمة ويضعون في آذانهم لاقطات الاتصالات عن بعد.
***
دخلت الفتاة السعيدة المصعد,فانطلق بها سريعاً ولفظها فوراً إلى مكعب اللجنة …وسرعان ما استقبلتها اللجان المتخصصة ,سيدات متمرسات نقلنها إلى قسم تحديد المواصفات النوعية ,وأكدوا لها أن الأمر يتطلب تدقيقاً في كل أوضاعها فأذا وافقت على ذلك ستمضي على ورقة الموافقة وتسلم نفسها للتقييم
***
كانت قد شاهدت وهي في طريقها محلاً كبيراً بغسالات ملابس ضخمة وشاشات تظهر عبرها الملابس وهي تنقع بالماء وتدور دورات حلزونية متصلة.شعرت أنها تدور في هذا المكان بمثل تلك الدورة الحلزونية لأن الأيدي المتمرسة كانت تقلّبها على كل جهة وتارة تنحني وتارة تمد ساقها وتارة يقاس خصرها ,وطول أصابعها والمسافة بين عينيها وتلاحظ أسنانها وأمور أخرى اكثر خصوصية .
***
وعندما اكتملت المهام ..وجدت نفسها ترتدي زيا احمر اللون,محفوفة بثلة من المسؤولين الصامتين ووجدت نفسها أمام مهمة أخرى كي تقبل في الهيئة تحت التجربة.

***
اطل الرجل الأخرس واستقبلته عاصفة من التصفيق .وعندما دخلت الفتاة وجدت أمامها حشداً من الفتيات بنفس شكلها وتسريحة شعرها وهيئتها وزيها,,في تلك اللحظة كان الأخرس يأمر بالصمت التام وكان قد دخل الدائرة الزجاجية ليتابع مراحل الاختبار ,وجدت الفتاة السعيدة نفسها أمام رجل متجهم الوجه يحمل خيزرانة نحيفة ذات رأس اثري وهو يجس بعصاه مواقع يريدها….
***
الدنيا صامتة ..والفتاة السعيدة محمولة كالتائهة في باص طويل ينطلق بها,رأسها ثقيل , الدوار يلفها ,الصور أمامها مشوشة ..يدها معروقة وهي تكور شيكاً بالمبلغ وتبحث عن نافذة لالتقاط الهواء…………..
***
الأخرس متنعم في مكمنه ..ينتظر استكمال تنويعاته البشرية ..بعدما وقع الاختيار على الفتاة السعيدة عينة ذلك الليل الطويل

1997
القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة
اللوحة للفنانة العراقية عفيفة لعيبي

رياح القضية THE ISSUE WINDS

ريــــاح القضــية


حطت الطائرة في أرض أخرى ، صالات المطـار تكتظ بوجـوه من جنسيات شتى’ تجسمت أمامه صورة كـون صغير ، كـوكب اجتمعت في مـداه تناقضات الـدنيا .
(كوكب واحد فـريد .. داست على أرضه البكر سنابك الساسة والمحاربين .. واندفعت مخلفة ورائها كتب النظريات ودفاتر الأيديولـوجيا .. النـاس كما هم هناك عبر التواريخ صورهم وأعراقهم ومن حولهم الحلول والأسئـلة .. اليـوتوبيا التي داعـبت مخيـلاتهم .. ) .
تفرس في الوجوه واختلطت أصوات النظرية والمعلمين الكبار التي ترددت في رأسه بأصوات النداءات المعلنة عن وصول الرحلات الجوية في المطـار الأنيق .. ربما شعر بشيء من الرضا لرؤيته أناسا من أبناء جلدته .. طيبون بزيهم العربي التقليدي .. لكن سرعان ما أنغلق على نفسـه في وحـدة حاصرته لأنهم جميعا يلاحقـون نداءات الطيـران وينتظرون مواعيد الإقـلاع أو الهبوط ولذا فالكـل يهمل الكـل .
في سلـسلة بشرية متتابعة وقف .. ينتظر الأذن بالـدخول للبلاد.. كان مثل راحل في قافلة .. شـعر أنه أشعـث أغبـر في فـلاة مجـهولة .. يجـوس خلالـها في المجـهول .. كفّـاه باردتان وجسـده الرخو أثقلتـه الأدوية وجلسات العـلاج ، لكنه بقي كما هو ذلك الفـارس المنـذور للمقـارعة والـرحيل الطويل .. شعر أن رفـاق الرحلة عـادوا سيرتهم الأولى فتخلوا عن الطـائرات التي أقلتهم وعن أناقتهم المعهودة وحقائبهم الديبلوماسية والتذاكر وجـوازات السفر , وعـادوا إلى البرية .. إلـى الأرض الغفـل وألام المبــاركة ، وهـم كمــا هـم بأعــراقهم ويقينـهم ..
( في الأرض البعيدة يقيم أولئك المنظرون العتاة ، تفحصوا تواريخ الناس وانفصلوا عن طين الأرض ورحم البـلاد وأسسوا ألواحهم المحملة بصخب الادعاء وضجيج الصراعات .. جـاسوا خـلال ديـار مجهولة وجلبـوا العـنف نظـرية لهم .. وما انتـزع بالقـوة لا يعـود ألا بالنظـريات .. ) .
يستذكر الرجل فتـوته الأولى وهو يـزج نفسـه وسـط حمى النظرية وطوع الآخرون أشعـارهم في خـدمة النظـرية وكـان عليه أن يفعـل جريا وراء ذلك الشـاب الذي أتخـذه قـدوة .. شاب فيه سيماء الإخلاص للقضية وهو في التضحيات يقع في الصدارة .. كان هذا أبـن عمه الـوحيد الـذي اتخـذه قـدوة ومثـالا ..
ولـذا وافـق باندفاع أن يخـوض معه الخطوب والتحولات كلها وليس يتذكر سوى أن بنـود النظرية خجـلت فجأة عن مواجهة شراسة الأمـور وسرعان ما انقلبت الطاولات التي كانت تلقى عبـرها دفـاتر اليوتوبيا ، انقلبت وتنـاثرت جـوازات السفر وقـوائم الناخبين.
( أيها المدى الرحيب .. يا ظل الراحلين.. يا مرآة أعمارهم .. هـل في اتسـاعك ثم متكأ لهذا العـابر الجلـيل وحقيبتـه الـرمادية ومعطفه الثقيـل ، خـذ دفـاتر النـاس ومـر عبـر مسـار الانتفـاضات واتـركني شـهيداً طائـراً في الدنيـا الكـدرة ) .
مـر بـه غـلام تفــرس في وجهه لثــوان .. تنبه للنظرة المتسائلة للفتى ..وأبـدى استغـرابه وما لبـث الفتـى أن أقتـرب منه وسأله عن أسم مـا من الأسماء .. التي بلبلت ذاكـرته المتعـبة .. عـرف الفتى بعفوية بلده ومدينته .. تعرف عليه مباشرة وذكـّره بمثاليته وانه كـان قـدوه ومثـالا .. أنتفض رافضـا تلك المثالية وأكـّد أنه رجل مثقـل مـريض .. تاريخه يخصه .. ودفـاتره تـركها هنـاك حيث لا ينفع أحدا أن يطلـع عليـها .. وراح الفتى يتحدث بحماسه عن الإحاطات واليمين واليسـار والـوسط..
وفـوجئ هـو بتلك الكلمـات التي يـرددها الشـاب بلاوعي عنـدها ضحك عبـر صالات المطـار ضحكه مجلجلة .. وخـرج من المشـهد وضحكته تســبقه .
انزوى في ركـن بعيـد .. وقد طـوقته صـوره فتوته وهو يقـع في ذات الدائرة وهـو يحدّث أبن عمـه عن الطمـوحات والأمـل ..
(تشرّد القوم في البريه عندما انقلـبت المـوازين في البـلاد عكسياً وهبت ريح عاصفة ضـدهم .. تفرقت النظرية فرضيات وعينات بحث .. اكتفوا بقوت الرعاة والبدو .. بحثاً عن خلاص أما هو فلم تفلح البراري في احتضان جسده الذي صار فيما بعد مدرسه للعذاب) .
ربما كان هو الذي خرج واحـداً وحيـدا ًمرصعا بنياشين العذاب .. النوبات القاسية تضربه وسجـله الحـركي يلاحـقه في المخـافر .. أمـا اليـد الحانية وأصـوات المـؤازرين فقد غـابت جميعـا وتركوه وحيـداً يتحقق مـن المنطلقـات النظـرية .
لاحقته نظرات الفتى المتسـائلة في المطـار .. ولم يكـن يريد أن يـُرى مثل ديك مهزوم عاجـز عن العـراك .. بل أن تكمن نطفته في جيـل آخر لا يقع في أخطاء العصـابيين والمـوتورين والضـائعين ..
خلت الصالة ألا من العاملين والشاشـات .. وأصـوات نـداءات بعيـده .. أطلّ عبر الزجاج ليرى فجـأة أن أسمه هناك .. مكتوب على يافطة كبيره ويحملها رجل بسحنة سمراء اندفع نبضه متسارعاً واجتاحته رجفة مباغتة وكسا جسـده عرق بارد .. وزحف مثل جندي مطعون إلى أقرب نقطه يرى ما يجري .. ووسط ضباب الأحاسيس الكثيفة المجهولة .. وسط الضيق .. رآه .. هنـاك هـو .. نفسـه .. بعد كل هذه ا لسنين وجهه أكثر امتلاءً ونظرته متعالية شاخصة ، يرتدي معطفاً كحلياً ويدخن السيجـار ويسيـر بخطـوات هـادئة قـرب سيـارته الفخـمة وسـائقه وحـارسه يحفّـان به .. أنه ابن العم المنظّر الكبير تهالك هو على مدخل الصالة وسقطت حقيبته ولم يكن يقوى على الجمع بين الصورتين .. صورة ابن العم ببزة الكاكى وسحنة الكفاح ودفاتر اليوتوبيا وصورة الإعلان عن العطور الباريسية وعلب التبغ وسيارات الليموزين ..
أهو الذي سيسرّي عنه ويدخله مصحات العظماء .. ينفق على علاجه ويسكنه فندقاً فخماً أو فيلا فارهة .. أهو الذي صنع له من البريّة وخيام البدو بنود النظرية وعمّق له فراغ المكان وعطش الدنيا لليوتوبيا أهو الذي كان يتهيأ لإجابة الكادحين .؟
أهو.. الذي .. أهو .. أهو .. أهو .. ؟؟؟؟
جثم الانتظـار على الـرجل الطويل الأنيـق المحـاط بالحـرس وأجهـزة الهـاتف النقالة.......... وسكـن المشهد .
سكـن .. على ذلك الـرجل الواقف كتمثال شمعي في مـتحف المطـار بينه وبين الدخول للبـلاد مجـرد ختم دخـول ويمتطي سيـارة الليموزين ويكـون قـد نسـي امتطاء صهوات المنظرين والبـاحثين في القضية .
وبيـن زمـن يمضي وآخـر يأتي كـان هنـالك حاجز هـائل بلا حـدود بين عـالمين ..


2000

القصة من مجموعة قربان المدن السعيدة