Friday, December 14, 2007

آحدث نص
كتمان حبها
لم يكن وجدا مجردا ولا اي شيء من هذا ولا ولعا عابرا ..يستبد به القلق وهو يحاول ان يجد مكانا ما، ارضا يحط عليها ذاك القدر، تلك النغمة النابضة في مكان ما، الصوت الآتي من قاع مبهم في الذات يوقظه مرارا على ظلال عابرة لها، يطرق الباب فتكون هي في بهائها واكتمال الأشياء والأزمنة ...لكنها سرعان ماتغيب، تتلاشى مثل قطعة سكر في كأس ..
تجثم مثل قطة ساكنة في ارض مفتوحة وعند منعطف جبل، هي الرحلة التي ارادا فيها تجسير الدروب الى حب المشردين ..لكنها في عنادها وجنونها خلفت وراءها غالبا جنديا مهزوما ..لم يكن غيره ..
يرن هاتفها ..يعرفه تماما..لكنها لن تتكلم .. يقف مثل اخرس، رافعا كفه في الفراغ يصطاد فراشة الكلمة ويحط على رأسه طائر القلق ليفيق على خدر مرورها المخملي ثم ذوبان قطعة السكر تلك ..
كانت تلوك كلمة السياسة مرارا وتحثه ان يكون ثائرا ..هكذا .. قلبت اوراقه ورددت : هاانت ..هاهي صورك ..هاهو تاريخك ..لكنك مثل مصارع خارج الحلبة، تنازلت منذ الجولة الأولى ..امهزوم ..وساكن ..؟
كان يدخن ويحدق في الفراغ بينما تنزل هي الى الماء وتغطس ..ويغطس هو في الماضي ..
كل ماهنالك ان الحزب قد تجمد ..او اندحر ..ربما ..لست انا ..اتفهمين لست انا ..انا لست اليسار والتاريخ وتشي غيفارا ..كلهم خانوا كلهم ..دخان الثورات هكذا عابر يسد المنافذ ثم يبقى طعما مرا وبقايا ازمنة ..
الرقص الجنوني في ميدان- فيغا- سيخلف وراءه السياسي نفسه وهو يحتفي بيوم ميلاده ..
مرا على باعة غرباء وجمعا وردا واصدافا وشموعا وطفا الشمع على جهة النهر ..
غنى كلمات لدجلة ..
غنى للبساتين وللشط ..
وترجم لها الكلمات..
واصغت هي متراخية هانئة ..
كانت هناك تجرب لعبة الضوء والظل وتردد : لم يكن غير فيلم تافه
لم يكن عليك اصطحابي لهذا الهراء ..
في المقطع التالي كان قد كتب عنها وارخ يوم اندحاره ثم تجلياته وطلوعه ايضا لكنه اخفى يومياته
بدا مثل بوهيمي اخرس اعيته الكلمات وتوقف تماما عن الكتابة
لكنها استبدلت الحوار بالموسيقى ..
وتدفق الفالس ناعما متصاعدا وهو في دواره القديم متحير في ذلك اللون البرونزي المشع الذي غمر دروب المدينة العتيقة وانعكس على وجهها ..احمر كل شيء واجهد الراقصين الرقص ..
فيما انحدر هو باتجاه الوادي حانقا اول الأمر ..تتراءى له خطواته وهو يعود صارخا: لاجدوى.. سأعود ادراجي واتركها تلك المجنونة الطائشة ..سأمزق اوراقي واوراقها جميعا ..سأبعثر كل شيء ..سأترك لها كلمات تتجمع وتحتشد مثل صفعة على الوجه .. سأهشم الكؤوس وبقايا اللقى الأثرية التي اقتنتها ,.. سأحطم زجاجة الواجهة كي لاترى وجهها الا مشوها على مرآة مقعرة ..
اسرع ..اسرع ..كانوا هناك في قاع رأسه يجرجرون رجلا للأعدام
بغداد 15-3-2004..اجل كان هو مثل كاهن تائه اطل من سقف العالم عبر نافذة صدئة وشهد الواقعة وتيبست شفتاه وهو يصف لها تلك اللقطات ..فيلمه القصير الذي يلتف في قاع رأسه، شريط السيلولويد القاتم الممتزج بذكريات ودمه واعصابه ...عصف المشهد مرة اخرى وهو يمضى عازما تحطيم هذا التاريخ المصطنع الكاذب ..
(سأقول لها ..انت كذبة كبيرة كذبتها على نفسي، لم انا هنا ؟ لم عبرت كل هذه المضائق والخلجان ؟ لماذا ؟ من اجل اصولك الأسبانية وجنونك الغجري ؟ من اجل ان اقرأ لوركا على وقع لكنة معذبة ..يوم ساقوه كما فعلوا يوم 15-3-2004 في بغداد )
تكاثف الليل وثقلت ساعاته وهو يقترب من المدخل ليحطم كل شيء كما قال في غيابها ..غيابها الملعون ..الوحشة التي تخلفها ..الفوضى التي تعصف بالكلام عندما تجلس مثل ملكة اغريقية حالمة ..التدفق المجنون للشعراء الصعاليك وهم يمرون مهزومين لمرأى اكتمالها ..
يفتح الباب ..تتشنج اصابعه ويعصف بعقله فراغها المريع ..بدت الحجرات بدونها مثل فلاة طويلة متقعرة وعميقة ..وبدت الكراسي والأسرة مثل خيول مهزومة متداعية، يلف المكان الظلام وفجأة يسطع ضوء برتقالي وخفق المعدن من حوله وتتقدم الخطى وتعصف الموسيقى ويتسلل شذاها ..اذ كما هي دوما تتسلل اليه في غفلة من الزمن قبل ان يفكر وقبل ان يقرر ..تكون هي هنا او هناك
تنتظم الأشياء من حولها وتعود سيرتها الأولى في سكون وحيرة وخوف وتوحد ...انا خائفة منك ومن جنونك .هكذا تختصر القصة كلها وتنطوي على ذاتها مثل دائرة الفراغ، يحار هو في كائن يتحول الى حالة اخرى لايتمكن من الأحاطة بها ..سيلقي مزيدا من الخطب ..سيستجمع صرخات اليسار وهتاف المظاهرات ..سيعبر عن نزقه ويريها كيف شنقوه وهي غير مبالية هي لاتدري بما يجري في الكون... هي لاهية بالرقص والموسيقى والجنون لاغير ..انت لاشيء ..انت خطأ في الزمان والمكان ..اتفهمين ..انت نموذج هجين ..عودي الى ذاتك وانظري كم انت محطمة وضائعة ...
هكذا اختصر خطبته في عراك ليلة من الليالي ...
ربما سمع نشيجها وهو مستلق على حافة يطل من خلالها قمر شاحب ..
اجل هو نشيجها المعتاد ..
ثم كلماتها ...
ثم وهي تزحف بصمت ليشعر بحرارة المكان ..تبحث مثل قطة تعشو .. تحتاج اصابعه وصبره ..
لايكفي ان تقفل المدينة ابوابها ويكونان لوحدهما مجرد رمزين ثوريين يجوسان في غربتها المتآكلة يحملان ارث الثورات ويوقظان السكارى في الدروب ..هما وحدهما تماما ...لابد من المضي هكذا لمحاولة نسيان كل شيء
لابد من المضي هكذا لمحاولة نسيان كل شيء ..
رددها مرارا ..مرارا ..
وظنت انه يريد نسيان العراك والعصف بينهما ..
لكن شريط السلولويد الملتف عميقا في قاع رأسه يتصاعد في علبة فيلمية تتسع باتساع المكان ..حفر على الشريط وجوه اسرته فردا فردا : وصف لها وجوههم، ملامحهم، اطوالهم , ضحكاتهم، اوجاعهم، ثيابهم، كل شيء كل شيء ...لكنهم مروا مثل لوركا ..او مثل اعدام مكسمليان ...اجل هو ذاك ..انظري عبر البحر، الى الشفق البرتقالي ..هناك اعدام مكسمليان ايتها الخلاسية التائهة ..بالضبط ..اعدموا غروبا ... ودوى الرصاص قبل قدومي بدقائق معدودة .. اخفتني امرأة عجوز عن انظارهم .. كنت ارى اشباح الأولاد المسترخية، اجسادهم وهم متكئين على بعضهم،عائمين على بركة النجيع ...
كنت اتنشق عبق نساء قرويات بينما العجوز تحول بيني وبين النظر اليهم ثم لتسقيني شيئا ما اسكرني وجمد ذاكرتي حينا حتى وجدت نفسي هنا ..
"حسن ..يمكنك انجاب اولاد مني ..
اعطيك اولادا مهجنين رائعين ..نسل جديد..
اولاد لايلاحقهم اعدام مكسميليان ..اعدك بذلك ..
ابق هكذا ..بنزقك وتحولاتك ..بجنون اليسار ..ولكن لاتعصف بتاريخي .. ولاتمزق دفاتري ولاتترك مدينتي .. ولا تصرخ في وجهي صرخة رحيل طويل.. ولا تغترب عن عالمي .. ولاتقتلعني من شريط السلولويد الذي في قاع عقلك ...لااكثر من هذا ..".
سكتت ..واشاحت بوجهها نحو الأفق ...
" لكنني قارة مهجورة ..
انا قرية نائية من فيافي العراق... اتفهمين ..؟".
جن جنون البحر وعصفت ريح شديدة وانفتح سجن المكان، الزجاج الأزرق والواجهة الرمادية ولا احد .. احتسيا شراب الروندو الساخن وكان هو قد بدا اكثر هدوءا ..
( اتمنى لو ان البحار تعصف دوما وتهيج ..لكي تنشغل هي بصخبها وتمنحك هذا الهدوء والسلام )
رددت بكلمات خافتة ثم راحت تستبدل ثيابها وتسللت عبر الممر المعتم وغابت ..
صحا من نوم قلق على رنين الهاتف ..
كان هاتفها هي ..لكنها لن تتكلم ..ليس سوى انفاسها ..تعلم تلك اللغة العاصفة وذاك الجنون ..
عاد تلميذا اخرس في ساحة العراك معها ..
لا ينفع ..لاينفع .. لاينفع ..
لن تتعلم ..
لن تصحح ..
ستعتذر نعم ..ستنشج بصمت ..ستدب باحثة عن اصابعه
ستقول انها ضعيفة و عالمك شرس ..
كلام
ركل جانبا حقيبة الهدايا والتحف واخرج من الخزانات كل شيء واندفع مثل ثور هائج يبحث عن شيء ما يخصها ..فتش في الأرجاء ودار على نفسه بينما كانت المحطة تبث اوبرا تحبها هي ..اثارته الأصوات الأوبرالية ..صوتها يلاحقه والأوبرا وعطرها .. والكلام وضعفها ولامبالاتها : متى تتعلمين درس المبالاة والأهتمام ..متى ؟
وعبر شراسة الكلمات تردد مستسلمة خائفة : علمني ؟
عاد عبر سوق المدينة عبر الساحل، مر بالصيادين ومقاهي الرصيف حيث امضيا الليل، تناهى اليه صوت ما يناديه، لم يلتفت، لاحقته الخطى، اثنان ثلاثا، اربعا، حشد من الناس ... تجمهروا حوله، اعطوه الحقيبة الصغيرة واروه صورتها ... تطلع في الوجوه، دار دورة سريعة رأى وجوه صيادين وغرباء، عمال المقهى، الراقصين الصغار، الحمالين في الميناء القديم، عمال المحطة، الباعة المتجولين، الكهول، كلهم.. كلهم جميعا ...انقطع عنهم برهة ونظر مليا في الصورة. نظر عميقا ..عميقا، تغلغلت الصورة مثل نهر مائي صغير في قراراة عقله ووجدت لها مكانا في شريط السلولويد: كتبت هي: كتمان. حبها وصرخ هو فيهم: لااعلم. لااعلم


بروكسل : كانون الأول ديسمبر 2007
اللوحة مهداة من الفنانة العراقية المبدعة رؤيا رؤوف
http://www.kikah.com/indexarabic.asp?fname=kikaharabic\live\k1\2007-12-12\24.txt&storytitle=