Sunday, November 18, 2007

MONODRAMA

قربان البيانات وصعود الكائن

مونودراما مسرحية



(ينفتح المسرح عن مساقط جانبية للضوء وشبه عتمة وثمة مقدمة سيارة غائرة في الرمل ..يتقدم كائن موشح بالسواد ومع تقدمه تظهر صور سلايدات هي خليط من الأنفجارات وملامح الآلهة العراقية القديمة ومقاطع خليط من الشعر وملامح من بغداد القديمة ووجوه آلهة بابلية وصوت ريح عاصفة ...............يتقدم الكائن المتشح بالسواد الى ركن في المسرح وتظهر ملامحه ........يقترب من مكان السيارة الجاثم مايدل على انها سيارة في الرمال ....)
الكائن : في الطريق ..في الطريق اليك ...في الطريق اليك ...في الطرق اليك ...في الطريق اليك ....كنت استعيد طفولتي ..استعيد مع تلك الذكرى وجوها محتقنة امضها عناء الترحال في الفيافي ، لم تكن تائهة ولا مشردة بل كانت تريد ان تصنع جنة ارضية مفقودة من مادتك الخام ، من نسغك ومن صلصالك ومن حمأك المسنون من زكي طلعك ومن شهد صغارك ، وكنت مع اولئك المشردين الدراويش ،
(اصوات مختلطة لترانيم واهازيج شعبية وهوسات ...)
كان ابي في العتمة لست اراه لكنني تسللت بين الصفوف وعرفني وضمني اليه وسط الجلبة ، ضمني الى صدره كما لم يضمني من قبل وصاح في الناس : ياايها الناس هذا صبي يعشق وطنا صنعه من طين اصطناعي وجاء به الى محفل الدراويش ، كانوا ثوارا يافعين ومردة عاشوا على يقين عذري وتبتل نذروه لزفاف الوطن الى اهله .. وظلت تلك الصورة النشطة في مخيلتي تتكون من ظلماء وثوار كالدراويش عاشوا وماتوا فقراء ماقطعوا شجرة ولا اثكلوا امرأة ولا يتموا صبيا ولا نهكو ا عرض فتاة من الوطن ..
لكن الصور السريالية تلك تتابعت الى مخيلتي وسط نعاس طويل ..طويل وانا في طريق بري اليك من اقاصي الأرض وحتى تخومك ..وعدت اليك بالحناء والخزامى وورد الآس وقلت سينشق غبار الصباح عن وجهك وسألوذ بك كما لذت بأبي منذ ربع قرن اويزيد في الظلماء ..قلت سأتنشق شذاك مثل صبي اخرس وارفع سبابتي في حضرتك دون معنى وستعرف مااقصد وستمسح عني عذابات الرحلة .
كنت ادري وانا عائد اليك انك مثقل بجراحات وغربة وانك خرجت من نفق طويل من المجهول ولكن لتدخل مجهولا آخر لكن لابأس سنداوي جراحاتنا كلها .
في الطريق اليك كنت ارقب سائق حافلة شبه شارد وغير معني بطقوسي وهرطقتي وتعاويذي في ذلك الليل الشاتي اذ كان بين الحين والحين يفتح النافذة فتارة يتجشأ واخرى ينفث دخانه في وجه سحابك ... قلت له مااكثر دخانك ياصاح ... ضحك من قلبه .. وكفكف دمعة من شدة الجذل .. وقال: لم يعد لكم من وطن يذود عنكم الدخان .. وانا الذي اقود الحديد والبأس الشديد في هذه البرية .. لي البلاد ورقاب العباد ...
(اصوات قصف طائرات ومدافع واضواء خاطفة ودوي انفجارات ..الكائن يحتمي ...يخفي رأسه ..يتوارى خلف حاجز الرمل ...ثم ينهض مع انخفاض صوت الدوي ينهض الكائن تدريجيا مع صعود صوت النشيد : )
النشيد : هل اراك ...هل اراك ...هل اراك ... هل اراك .... هل اراك ... هل اراك ...في علاك؟
الكائن :كان سؤالا كارثيا تم تلقينه للصبية في المدارس ...هو الشك الديكارتي وبقيا اسوداد معرة النعمان ..تلك الفوبيا الفاجعة : انكم ايها الصبية في شك منه مريب ... انكم قد لاترونه في علاه ...ولا وهو يبلغ سماه ...

لماذا ..حالوا بينك وبيننا مذ كنا صبية صغارا وانكروا علينا ان نراك في علاك ولانراك الا وانت تتخبط وسط نجيع اولادك الصغار ..لماذا ؟
لماذا صادروا حقك ان تصعد الجلجلة وتموت بنا ونحن في حضنك فرادى وجماعات .؟
لماذا اوحش المعلم الدرب امامنا وقال انها اشواك وحجارة ...
وقلت في نفسي هي طريق العلماء والأنبياء ..ولكن اينهم في هذه الصحراء المترامية اينهم ؟ وانا اناجيهم كي اراك في علاك .. جئتك بعد عقود كي ارتقي معك ..كي نصعد معا ..بعدما نزلنا معا ..
ولكن من اكون ايها الوطن ؟
من انا ؟
انت لاتعرفني ... فلست كبيرا ولاصغيرا ولا عالما ولا جاهلا ..ولاظليلا ولا حافيا ولاظالما ولاقاطع طريق .ولا .. ولا .. ولا .. ولا
ولكنني في العتمة استرجعت كيف ضمني ابي وصاح : ياايها الناس ...وكان معشر الدراويش يرددون ترانيمك مرارا مرارا .. وعلمني كبيرهم تلك اللغة التي غدت منقرضة .. ولم يبق منها الا تعويذة اناجيك بها اذا ماضاقت بي السبل ..
وصرخت فيك كما لم اصرخ من قبل ..صرخت عبر القارات والمحيطات وعبر وجوه اليتامى والغرباء من اولادك ..ياوطن ..يارهين المحبسين ..محبس العام 1991 ومحبس العام 2003 ومابعده ..الى اين انت ماض في دهماء محبسك الطويل..الطويييييييييييييييييييييييييييييييييل في لياليك التي تتنشق فيها عذاباتك صامتا تبتلع جرعات النار والشقاء وترفرف مثل نسر جريح في فضاء قاتم تتابع فيه قوافل اولادك الماضين بصغارهم ولواعجهم واشعارهم وعذاباتهم ..ماضين من دفئك الى زمهرير الفضيحة ..زمهرير الغرباء عبر القارات ..صاروا وشما ناتئا في المطارات وصاروا ايقونة في قواميس المهربين وصاروا اسطورة في سجلات هيئة الأمم وصاروا فيضا بشريا بأجنحة ومناقير يفرون من اوجاعهم وغربتهم اليك ..ياوطن ... الا... متى تخرج من محبسيك ..الا ...متى تعود الى فراديسك الصغيرة ؟ الا.. متى ؟ الا ..متى ؟ الا.. متى ؟ متى نراك في علاك ؟
لكنك في محبسيك ياوطن رهنوا فراديسك الصغيرة حتى تتخلى عن ابنائك وحتى تسلم تاريخ الكلمات والأشعار بديلا بطلاسم وتخاريف ورقصات غجرية وطواطم حجرية ومدافن في الصحارى والفيافي والقفار وحتى تنطق كلمة الحق في محبسيك انك لاترى .. وانك سعيد بالعمى العظيم الذي جادوا به عليك ... اذ شوشوا بصيرتك وحفروا بآلاتهم الجارحة روحك السمحة .. وغذوا الامك بآلام اخرى كي تنسى ابنائك وتعوم في محبسيك في خرافة الفيلسوف ..(يتمثل الكائن هنا شخصية ابو العلاء المعري :رهين المحبسين في ازدواج مقصود )فترى مالانرى وتسمع مالانسمع وانت هنا او هناك في المحفل المعتم في زنزانة الكلام ...
في تلك الفسحة الصامتة رأيتك كما لم ار من قبل اوطانا ارهقتها الكلمات والأناشيد ..اوطانا ارهقتها المواثيق والعهود وطوابير الفقراء ...
في الطريق اليك شاهدت الشريط السينمائي الطويل : في الصباح ومع اذان الديكة يخرج الأولاد حاملين فؤوسهم وسكاكينهم ونارهم وحديدهم وبياناتهم ولفافات دخانهم واهواءهم وعذاباتهم وطيشهم وتصعلكهم ونزقهم وانسدادهم ليعلنوا ان ماكان قد كان وما هو آت آت ...فالبيان الأول فالبيان الثاني ...وحتى البيان الأخير والوطن يرقب ابناءه وهم ينقلبون على بعضهم البعض يخونون بعضهم البعض ويكرهون بعضهم البعض ..ياوطن ..ياليلك الجديد ونهارك القديم ..اولادك الصيد :يريدونك وطنا خاصا بهم ..هل ثمة انانية وطينة ياوطن ؟ هل يمكن احتكارك ؟ هل تتحول الى رصيد مجمد في بنك الكلام ؟
اسمك جواز المرور الى طوابير الفقراء هذا ماشاهدته في فليمك ياوطن ..تدفق اولادك الفقراء حفاة غرثى صائحين :ياحيهلا ...ياحيهلا ..ياحيهلا ...وطن في عرسه الجديد ....وكرت قوافل المن والسلوى في الى كل فج وصوب وكل حضر ومدر وشاهدها العامة مع انشقاق الأقمار الجديدة ..كانوا يتجمعون في كل افق برتقالي لالشيء الا ليرون قوافلك الأفتراضية ومنك وسلواك ...صاموا دهرا ..وصبروا وتلذذوا بأحلامهم على امل انقلاب في المعنى :
(سنراك في علاك ...سنراك في علاك ...سنراك في علاك ..بالغا سماك ..................)
وظلوا يرمقون صعودك ..صعودا الى قوافل السراب ..ومواكب الأنين الطويل ..................................
(اصوات الجوقة ...............)
حي ...سفربرلك ...
حي ....جهادية .............
حي ....حرب على الأعداء..........
حي ....حرب على الخونة .................
حي ....حرب على الأستعمار .....................
حي ....حي حرب على الرجعية .........................
حي ....حرب على ...............................................
حي ............حرب على...................................................
الكائن : ومضيت محني الظهر ....مصدقا ابناءك ..متعففا راضيا بهم وهم يكبرون في افيائك ..وتحت وارف نعمتك .,.وقلت سيرشد الأولاد ويبلغون الحلم ...وسداد الرأي ويكفون عن دسيسة البلاط والصولجان وفتنة الحاشية ...وغذيت اولادك الطيبين نسغا من امانيك المرفرفة الشفافة الخالصة ...
وانتظرت رشدهم ...حتى اكتهالهم ...
لكن الجوقة ظل صائحها يصيح .........................
(الجوقة)
حي ...حي
حي...حي..
حي ...حي .....
وملئت الآفاق بالعويل ...
ملء الزمان والمكان بأوجاع العامة ...
وورث الأولاد ترانيم الفقدان ..
ونزول دموزي الى العالم السفي ....
والنحيب الليلي لأينانا ...لايتوقف ...........
ياأرض السواد طبت وطاب ليلك ونهارك وافقك وارضك وسماك ..............
الكائن : ايها الناس ...اليكم البيان رقم واحد .........................ايها الشعب العظيم .........ايها الشرفاء في كل مكان
وبعده النشيد ...
وبعده النعوش .............
والتابوت ....فيه سكينة من ربكم .............
وورث الأولاد توابيتهم عابرين متخفيفن ...............
لن نراك في علاك ربما (وهم يحملون توابيتهم على كاهلهم )
لن نراك في علاك ربما .....................
وتنزل ياصاح الى تابوتك النحاسي ..تابوت الأناشيد والكينونة الجديدة .........
في الطرق اليك وعبر السراب وسجف الخراب القديم ...
ينقطع الشريط وامضي ...في ليلك الحالك وانا ارى الحشود تجر سجف الظلام وينشق افق ما قرب بيتي ...
كي ما اتنشق بعضا من نعمائك واحلامك ..............
في الطرق اليك ..قال المذيع ...الى هنا نأتي .......وتصبحون على خير .......
(يحمل الكائن هيكل تلفزيون يضع رأسه فيه ويدور معه دورات عدة ..ثم يجلس قبالته على الأرض ويردد J
بيان ...
بيان ...............
ايها الشعب .........
ايها الناس .............
الى هنا ..نأتي الى نهايتكم ..وتصبحون على ....................................
.وناموا ...........
واستيقظوا ....
ثم ناموا ...........
ثم استيقظوا ..........
ثم ناموا ............
ثم استيقظوا ............
تصبحون على خير ...........
على خير .................................على خير .............
ولكن في الطرق البرية اليك كنت اناجيك ياغلام ...يافتى ممشوق الكينونه ...على خير ...يابهي .....
لكني كنت ارى الندوب وآثار الطعنات ومواضع السكاكين في سائر جسدك ..
وكنت تقول لابأس سنصبح على خير ...........
والأولاد سيرشدون ...ويكفكفون آلام الماضي لنبدأ من جديد ...........
في الطريق اليك كنت انشد لك كينونة.......... اخرى........ امان امضها العناء واثقلتها الرحلة .....
لكنهم ناموا عنك واغلقوا فصول المواثيق ..وصاح صائحهم :سنبدا من حيث انتهينا ...........
(تظهر في زاوية ملامح العلم العراقي )
يارهين المحبسين ياوطن : ثلاثةايام من الرحيل اليك ..كما هي الوان ساريتك في عليائك ونحن نتطلع اليك طالعا الى علاك اسوداد ..واحمرار ..وابيضاض ....ثلاث........ ثلاث ...........ثلاث ..........ثلاث
(ثلاثة ايام هي الدهر كله
وما هن غير الأمس واليوم والغد )
.............ياوطن...يارهين الدهر كله ..........قادم االيك بجثمان الزمان العتيق العتيق ...
قادم اليك بترانيم دموزي ..في الف وجه لدموزي ..كلهم دموزي ...يارهين المحبسين ..كم الف دموزي مروا على قربان البيانات ..منذ الف الف الف الف ..ياوطن ....
(تظهر تفصيلات اما بواسطة العرض الخلفي (باك بروجكشن) او بنزول ديكور من اعلى يدل على معبد دموزي وحضارة سومر )
الكائن (مواصلا ): بيان السعادة ...
بيان الرحيل ......
بيان الأمل ......
بيان الثورات .....ثم بيان بأمر البكاء عليك ياالف دموزي ...........
من يبكي ..بل هم المغنون والهتافون والراقصون والطبالون ......
ضحك ...كالبكاء ...وبكاء ...كالأماني .........
ازواج يضربن الدفوف على مقدم ...موات ...دموزي ...نزوله الطويل الطويل ...من اجل اينانا ..من اجلها ياوطن كفكف دموع كل اينانا في ارضك وايقظ كل دموزي من محبسه المعتم الطويل ......................

(صوت الكائن مع صوت مضخم كخلفية لما يردده من ترانيم نزول دموزي ):

أمرُّ بكاء الدنيا نبذله على زوجها. من أجل إنانا، أمرُّ البكاء نبذله على زوجها. واحسرتاه على زوجها، واحسرتا على فتاها. واحسرتاه على بيتها، واحسرتا على وطنها. على زوجها الغائب ، على فتاها الحبيس. على زوجها الراحل، على فتاها الراقد. على زوجها الغائب، من أجل أوروك، في الأسر. قد مضى فتاي يطلب الماء، ولكنه أُسلِمَ هناك إلى الماء.

الكائن : في الطريق اليك ..كانت قوافل اينانا في البرية تنشدك راعيا للرحيل الجديد نحو دموزي :إنانا تبكي بكاءً مرًّا على زوجها الفتى: "اليوم قد قضى زوجي الحلو، زوجي قد قضى. اليوم قد قضى فتاي الحلو، فتاي قد قضى. لقد مضيتَ، يا زوجي الحلو، إلى زرع البواكر. لقد مضيتَ، يا فتاي الحلو، إلى زرع الأواخر. قد مضى زوجي إلى الزرع، ولكنه قُتِلَ بين الزرع.

قادم انا في الهباء في السراب نازل الى رحم ارضك ياوطن ..طالع اليك في عليائك وامانيك وتواريخك وتحولاتك ...
(يتصاعد بالتدريج دوي يدل على الحرب او اصوات ناقلات ضخمة وصراخ ثم اصوات قصف ..يخرج الكائن رافعا يديه ..ياوطن ..انا دموزي لست نازلا بل طالع اليك ...يظهر مايدل على اغتيال الكائن من صوت رصاص او رصاصة واحدة ويسقط ..ليمر حشد من لابسي السواد يحملونه وتعم العتمة في المكان) .
..................................................................

· البيت الشعري من ابي العلاء المعري
· والمقاطع من نص سومري لموت دموزي في الأسطورة القديمة

(نهاية)

بروكسل
تموز يوليو2007